كتاب: التبيان في آداب حملة القرآن
المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ)
الباب السادس في آداب القرآن
[فصل] في رفع الصوت بالقراءة
هذا فصل مهم ينبغي أن يعتنى به أعلم أنه جاء أحاديث كثيرة في الصحيح وغيره دالة على استحباب رفع الصوت بالقراءة وجاءت آثار دالة على استحباب الإخفاء وخفض الصوت وسنذكر منها طرفا يسيرا إشارة إلى اصلها إن شاء الله تعالى
قال الامام أبو حامد الغزالي وغيره من العلماء وطريق الجمع بين الأحاديث والآثار المختلفة في هذا أن الإسرار أبعد من الرياء فهو أفضل في حق من يخاف ذلك فإن لم يخف الرياء فالجهر ورفع الصوت أفضل لان العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى غيره والمتعدي أفضل من اللازم ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر فيه ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد في النشاط ويوقظ غيره من نائم وغافل وينشطه قالوا فمهما حضره شئ من هذه النيات فالجهر أفضل فإن اجتمعت هذه النيات تضاعف الأجر قال الغزالي ولهذا قلنا القراءة في المصحف أفضل فهذا حكم المسألة وأما الآثار المنقولة فكثيرة وأنا أشير إلى أطراف من بعضها ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول ما أذن الله لشئ ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به
رواه البخاري ومسلم ومعنى أذن استمع وهو إشارة إلى الرضا والقبول وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لقد اوتيت مزمارا من مزامير آل داود رواه البخاري ومسلم
وفي رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال له لقد رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة ورواه مسلم من رواية بريد بن الخصيب وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أشد أذنا إلى الرجل حسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته رواه ابن ماجه * وعن أبي موسى أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون وأعرف مازلهم كل من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار رواه البخاري ومسلم
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينوا القرآن بأصواتكم رواه أبو داود والنسائي وغيرهما وروى ابن أبي داود عن علي رضي الله عنه أنه سمع ضجة ناس في المسجد يقرؤون القرآن فقال طوبى لهؤلاء كانوا أحب الناس لرسول الله ص: وفي إثبات الجهر أحاديث كثيرة وأما الآثار عن الصحابة والتابعين من أقوالهم وأفعالهم فأكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر وهذا كله فيمن لا يخاف رياء ولا إعجابا ولا نحوهما من القبائح ولا يؤذي جماعة يلبس عليهم صلاتهم ويخلطها عليهم وقد نقل عن جماعة السلف اختيار الإخفاء لخوفهم مما ذكرناه فعن الأعمش قال دخلت على ابراهيم وهو يقرأ بالمصحف فاستأذن عليه رجل فغطاه وقال لا يرى هذا أني أقرأ كل ساعة وعن أبي العالية قال كنت جالسا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورضي الله عنهم فقال رجل منهم قرأت الليلة كذا فقالوا هذا حظك منه
ويستدل لهؤلاء بحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة رواه أبو داود والترمذي والنسائي قال الترمذي حديث حسن قال ومعناه أن الذي يسر بقراءة القرآن أفضل من الذي يجهر بها لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية قال وإنما معنى هذا الحديث عند أهل العلم لكي يأمن الرجل من العجب لأن الذي يسر بالعمل لا يخاف عليه من العجب كما يخاف
عليه من علانيته قلت وكل هذا موافق لما تقدم تقريره في أول الفصل من التفصيل وأنه إن خاف بسبب الجهر شيئا مما يكره لم يجهر وإن لم يخف استحب الجهر فإن كانت القراءة من جماعة مجتمعين تأكد استحباب الجهر لما قدمناه ولما يحصل فيه من نفع غيرهم والله أعلم
[فصل] في استحباب تحسين الصوت بالقراءة
أجمع العلماء رضي الله عنهم من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار أئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن وأقوالهم وأفعالهم مشهورة نهاية الشهرة فنحن مستغنون عن نقل شئ من أفرادها ودلائل هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: مستفيضة عند الخاصة والعامة كحديث زينوا القرآن باصواتكم وحديث لقد أوتي هذا مزمارا وحديث ما أذن الله وحديث لله أشد أذنا وقد تقدمت كلها في الفصل السابق
وتقدم في فضل الترتيل حديث عبد الله بن مغفل في ترجيع النبي صلى الله عليه وسلم: القراءة وكحديث سعد بن أبي وقاص وحديث أمامة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال من لم يتغن بالقرآن فليس منا رواه أبو داود باسنادين جيدين وفي إسناد سعد اختلاف لا يضر
قال جمهور العلماء معنى لم يتغن لم يحسن صوته وحديث البراء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: قرأ في العشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه رواه البخاري ومسلم قال العلماء رحمهم الله فيستحب تحسين الصوت بالقراءة ترتيبها ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن أفرط حتى زاد حرفا أو أخفاه فهو حرام
وأما القراءة بالألحان فقد قال الشافعي رحمه الله في موضع أكرهها قال أصحابنا ليست على قولين بل فيه تفصيل إن أفرط في التمطيط فجاوز الحد فهو الذي كرهه وإن لم يجاوز فهو الذي لم يكرهه وقال أقضى القضاة الماوردي في كتابه الحاوي القراءة بالألحان الموضوعة ان أخرجت لفظ القرآن عن صيغته بإدخال حركات فيه أو إخراج حركات منه أو قصر ممدود أو مد مقصور أو تمطيط يخفي به بعض اللفظ ويتلبس المعنى فهو حرام يفسق به القارئ
ويأثم به المستمع لأنه عدل به عن نهجه القويم إلى الاعوجاج والله تعالى يقول قرآنا عربيا غير ذي عوج قال وإن لم يخرجه اللحن عن لفظه وقراءته على ترتيله كان مباحا لأنه زاد على ألحانه في
تحسينه هذا كلام أقضى القضاة وهذا القسم الأول من القراءة بالالحان المحرمة مصيبة ابتلي بها بعض الجهلة الطغام الغشمة الذين يقرؤون على الجنائز وبعض المحافل وهذه بدعة محرمة ظاهرة يأثم كل مستمع لها كما قالة أقضى القضاه الماوردي وياثم كل قادر على إزالتها أو على النهي عنها إذا لم يفعل ذلك وقد بذلت فيها بعض قدرتي وأرجو من فضل الله الكريم أن يوفق لإزالتها من هو أهل لذلك وأن يجعله في عافية قال الشافعي في مختصر المزني ويحسن صوته بأي وجه كان قال وأحب ما يقرأ حدرا وتحزينا قال أهل اللغة يقال حدرت بالقراءة إذا أدرجتها ولم تمططها ويقال فلان يقرأ بالتحزين إذا رقق صوته وقد روى ابن أبي داود باسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قرأ إذا الشمس كورت يحزنها شبه الرثاء
وفي سنن أبي داود قيل لابن أبي مليكة أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت فقال يحسنه ما استطاع في استحباب طلب القراءة الطيبة من حسن الصوت اعلم أن جماعات من السلف كانوا يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرؤوا وهم يستمعون وهذا متفق على استحبابه وهو عادة الأخيار والمتعبدين وعباد الله الصالحين وهى سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل قال أني أحب ان اسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) قال حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان رواه البخاري ومسلم وروى الدارمي وغيره بأسانيدهم عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه انه كان يقول لأبي موسى الأشعري ذكرنا ربنا فيقرأ عنده القرآن والآثار في هذا كثيرة معروفة وقد مات جماعات من الصالحين بسبب قراءة من سألوه القراءة والله أعلم وقد استحب العلماء أن يستفتح مجلس حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ويختم بقراءة قارئ حسن الصوت ما تيسر من القرآن ثم إنه ينبغي للقارئ في هذه المواطن ان يقرأ ما يليق بالمجلس ويناسبه وأن تكون قراءته في آيات الرجاء والخوف والمواعظ والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة والتأهيب لها وقصر الامل ومكارم الأخلاق
حسن الوقف
[فصل] ينبغي للقارئ إذا ابتدأ من وسط السورة أو وقف على غير آخرها أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط بعضه ببعض
وأن يقف على الكلام المرتبط ولا يتقيد بالاعشار والاجزاء فانها قد تكون في وسط الكلام المرتبط كالجزء الذي في قوله تعالى وما نفسي وفي قوله تعالى فما كان جواب قومه)
وقوله تعالى ومن يقنت منكن لله ورسوله وفي قوله تعالى وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وفي قوله تعالى إليه يرد علم الساعة وفي قوله تعالى وبدا لهم سيئات وفي قوله (قال فما خطبكم أيها المرسلون وكذلك الأحزاب كقوله تعالى (واذكروا الله في أيام معدودات وقوله تعالى قل هل أنبئكم بخير من ذلكم) فكل هذا وشبيهه ينبغي أن يبتدأ به ولا يوقف عليه فإنه متعلق بما قبله ولا يغترن بكثرة الغافلين له من القراء الذين لا يراعون هذه الآداب ولا يفكرون في هذه المعاني وامتثل ما روى الحاكم أبو عبد الله باسناده عن السيد الجليل الفضيل بن عياض رضي الله عنه قال لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها ولا تغترن بكثرة الهالكين ولا يضرك قلة السالكين
ولهذا المعنى قالت العلماء قراءه سورة قصيرة بكاملها أفضل من قراءة بعض سورة طويلة بقدر القصيرة فانه قد يخفى الارتباط على بعض الناس في بعض الأحوال وقد روى ابن أبي داود باسناده عن عبد الله بن أبي الهذيل التابعي المعروف رضي الله عنه قال كانوا يكرهون أن يقرؤوا بعض الآية ويتركوا بعضها
[فصل] في أحوال تكره فيها القراءة
اعلم أن قراءة القرآن على الإطلاق إلا في أحوال مخصوصة جاء الشرع بالنهي عن القراءة فيها وأنا أذكر الآن ما حضرني منها مختصرة بحذف الادلة فانها مشهورة
- 1 – فتكره القراءة في حالة الركوع والسجود والتشهد وغيرها من أحوال الصلاة سوى القيام
- 2 – وتكره القراءة بما زاد على الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية اذا سمع قراءة الامام
- 3 – وتكره حالة القعود على الخلاء
- 4 – وفي حالة النعاس
- 5 – وكذا إذا استعجم عليه القرآن
- 6 – وكذا في حالة الخطبة لمن يسمعها
ولا تكره لمن لم يسمعها بل تستحب هذا هو المختار الصحيح وجاء عن طاوس كراهيتها وعن إبراهيم عدم الكراهة فيجوز أن يجمع بين كلاميهما بما قلنا كما ذكره اصحابنا
ولا تكره القراءة في الطواف هذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء وحكاه ابن المنذر عن عطاء ومجاهد وابن المبارك وأبي ثور وأصحاب الرأي وحكي عن الحسن البصري وعروة بن الزبير ومالك كراهتها في الطواف والصحيح الاول وقد تقدم بيان الاختلاف في القراءة في الحمام وفي الطريق وفيمن فمه نجس
البدعة المدروسة
[فصل] من البدع المنكرة في القراءة
ما يفعله جهلة المصلين بالناس في التراويح من قراءة سورة الأنعام في الركعة الأخيرة في الليلة السابعة معتقدين أنها مستحبة فيجمعون امورا منكرة
- 1 – منها اعتقادها مستحبة
- 2 – ومنها إيهام العوام ذلك
- 3 – ومنها تطويل الركعة الثانية على الأولى وانما السنة تطويل الأولى
- 4 – ومنها التطويل على المأمومين
- 5 – ومنها هذرمة القراءة
ومن البدع المشابهة لهذا قراءة بعض جهلتهم في الصبح يوم الجمعة بسجدة غير سجدة ألم تنزيل قاصدا ذلك وإنما السنة قراءة ألم تنزيل في الركعة الأولى وهل أتى في الثانية
[فصل] في مسائل غريبة تدعو الحاجة اليها
1 منها أنه إذا كان يقرأ فعرض له ريح فينبغي ان يمسك عن القراءة حتى يتكامل خروجها ثم يعود الى القراءة كذا رواه ابن أبي داود وغيره عن عطاء وهو أدب حسن 2 – ومنها أنه اذا تثاءب أمسك عن القراءة حتى ينقضي التثاؤب ثم يقرأ
قال مجاهد وهو حسن ويدل عليه ما ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه فإن الشيطان يدخل رواه مسلم 3 – ومنها أنه إذا قرأ قول الله عز وجل (وقال اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقالت اليهود يد الله مغلولة وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ونحو ذلك من الآيات ينبغي أن يخفض بها صوته كذا كان إبراهيم النخعي رضي الله عنه يفعل 4 – ومنها ما رواه ابن أبي داود باسناد ضعيف عن الشعبي أنه قيل
له إذا قرأ الانسان إن الله وملائكته يصلون على النبي يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم: قال نعم 5 – ومنها أنه يستحب له أن يقول ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال من قرأ والتين والزيتون فقال أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين رواه أبو داود والترمذي باسناد ضعيف عن رجل عن أعرابي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال الترمذي هذا الحديث إنما يروى بهذا الاسناد عن الأعرابي عن أبي هريرة قال ولا يسمى وروى ابن ابي داود والترمذي ومن قرأ آخر لا أقسم بيوم القيامة أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فليقل بلى ومن قرأ فبأي آلاء ربكما تكذبان أو فبأي حديث بعده يؤمنون فليقل آمنت بالله وعن ابن عباس رضي الله عنهما وابن الزبير وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا قرأ أحدهم سبح اسم ربك الأعلى قال سبحان ربي الأعلى وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول فيها سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه صلى فقرأ آخر سورة بني اسرائيل ثم قال الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) وقد نص بعض أصحابنا على أنه يستحب أن يقال في الصلاة ما قدمناه
وفي حديث أبي هريرة في السور الثلاث وكذلك يستحب أن يقال باقي ما ذكرناه وما كان في معناه والله أعلم