أَربعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنافِقاً ، وإنْ كَانَتْ خَصلةٌ مِنهُنَّ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ خَصلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها

جامع العلوم والحكم

في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم

ابن رجب الحنبلي


الحديث الثامن والأربعون

عَنْ عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قالَ : (( أَربعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنافِقاً ، وإنْ كَانَتْ خَصلةٌ مِنهُنَّ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ خَصلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها : مَنْ إذا حَدَّثَ كَذَبَ ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وإذا خَاصم فَجَر ، وإذا عَاهَد غَدَرَ )) خرَّجه البُخاريُّ ([1]) ومُسلمٌ ([2]) .

هذا الحديث خرَّجاه في ” الصحيحين ” من رواية الأعمش ، عن عبد الله بن مُرَّةَ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وخرَّجا في ” الصحيحين ” ([3]) أيضاً من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال : (( آيةُ المنافق ثلاثٌ : إذا حدَّث كَذَبَ ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتُمِن خَانَ )) . وفي رواية لمسلم ([4]) : (( وإن صام وصلَّى وزَعَمَ أنَّه مُسلمٌ )) وفي رواية له أيضاً ([5]) : (( من علامات المنافق ثلاثة )) . وقد رُوي هذا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر .

وهذا الحديث قد حمله طائفةٌ ممَّن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فإنَّهم حدَّثوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فكذَّبوه ، وائتمنهم على سرِّه فخانوه ، ووعدُوه أن يخرُجوا معه في الغزو فأخلفوه ، وقد روى محمَّدٌ المُحْرِمُ هذا التأويلَ عن عطاءٍ ، وأنَّه قال : حدثني به جابرٌ ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وذكر أنَّ الحسنَ رجع إلى
قول عطاء هذا لما بلغه عنه ([6]) . وهذا كذب ، والمحرم شيخ كذابٌ معروف

بالكذب ([7]) .

وقد رُوي عن عطاء من وجهين آخرين ضعيفين أنَّه أنكر على الحسن قوله : ثلاثٌ من كنَّ فيه ، فهو منافق ، وقال : قد حدَّث إخوةُ يوسف فكذبوا ، ووعدوا فأخلفوا ، وائتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين ([8]) ، وهذا لا يصح عن عطاء ، والحسن لم يقل هذا من عنده وإنَّما بلغه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم . فالحديث ثابت عنه صلى الله عليه وسلم لا شكَّ في ثبوته وصحته والذي فسره به أهلُ العلم المعتبرون أنَّ النفاقَ في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير ، وإبطان خلافه ، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين :

أحدهما : النفاقُ الأكبرُ ، وهو أنْ يظهر الإنسانُ الإيمانَ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويُبطن ما يُناقض ذلك كلَّه أو بعضه ، وهذا هو النِّفاق الذي كان على عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم ، وأخبر أنَّ أهله في الدَّرْكِ الأسفل من النار ([9]) .

والثاني : النفاق الأصغر ، وهو نفاق العمل ([10]) ، وهو أنْ يُظهر الإنسانُ علانيةً
صالحةً ، ويُبطن ما يُخالف ذلك .

وأصولُ هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث ، وهي خمسة :

أحدها : أن يُحدِّث بحديث لمن يصدِّقه به وهو كاذب له ، وفي ” المسند ” ([11]) عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( كَبُرَت خيانةً أنْ تحدِّث أخاك حديثاً هو لك مصدِّقٌّ ، وأنت به كاذب )) .

قال الحسنُ : كان يقال : النفاقُ اختلاف السِّرِّ والعلانية ، والقول
والعمل ، والمدخل والمخرج ، وكان يقالُ : أُسُّ النفاق الذي بني عليه النفاق
الكذبُ ([12]) .

الثاني : إذا وَعَدَ أخلف ، وهو على نوعين :

أحدُهُما : أنْ يَعِدَ ومِنْ نيته أنْ لا يفي بوعده ، وهذا أشرُّ الخلف ، ولو قال : أفعل كذا إنْ شاء الله تعالى ومن نيته أنْ لا يفعل ، كان كذباً وخُلفاً ، قاله الأوزاعيُّ .

الثاني : أنْ يَعِدَ ومن نيته أنْ يفي ، ثم يبدو له ، فيُخلِفُ من غير عذرٍ له في
الخلف .

وخرَّج أبو داود ([13]) ، والترمذي ([14]) من حديث زيد بنِ أرقم ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إذا وعَد الرَّجُلُ ونَوى أنْ يفي به ، فلم يَفِ ، فلا جُناحَ عليه )) . وقال الترمذي ([15]) : ليس إسنادُه بالقوي .

وخرّجه الإسماعيلي وغيره من حديث سلمان أنَّ علياً لقي أبا بكر وعمر ،
فقال : ما لي أراكما ثقيلين ؟ قالا : حديثٌ سمعناه من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ذكر خلالَ المنافق :
(( إذا وَعَدَ أخلَفَ ، وإذا حَدَّثَ كَذَب ، وإذا اؤتُمِنَ خَانَ )) فأيُّنا ينجو من هذه
الخصالِ ؟ فدخل عليٌّ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فقال : (( قد حدَّثتهما ، ولم
أضعه على الموضع الذي تضعونَه ، ولكن المنافق إذا حدَّث وهو يحدِّث نفسه أنْ
يكذبَ ، وإذا وَعَدَ وهو يحدِّث نفسه أنْ يُخلِفَ ، وإذا اؤتمِنَ وهو يُحدث نفسه أنْ
يخونَ )) ([16]) .

وقال أبو حاتم الرازي ([17]) في هذا الحديث من رواية سلمان وزيد بن أرقم : الحديثان مضطربان وفي الإسنادين مجهولان. وقال الدارقطني ([18]) : الحديث غير ثابت ، والله أعلم .

وخرَّج الطبراني ([19]) والإسماعيلي من حديث عليٍّ مرفوعاً : (( العِدَةُ دَينٌ ، ويلٌ

لمن وعد ثم أخلف )) قالها ثلاثاً ، وفي إسناده جهالة ، ويُروى من حديث ابن مسعود ، قال : لا يَعِدْ أحدكُم صَبِيَّه ، ثم لا يُنجِزُ له ، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( العِدَةُ
عطية )) ([20]) وفي إسناده نظر ، وأوَّله صحيح عن ابن مسعود من قوله .

وفي مراسيل الحسن عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( العِدَةُ هِبَةٌ )) ([21]) . وفي ” سنن أبي داود” ([22]) عن مولى لِعبد الله بن عامر بن ربيعة، عن عبدِ الله بن عامر بن ربيعة ، قال : جاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبيٌّ ، فخرجتُ لألعب ، فقالت أمي : يا عبد الله تعالَ أُعطِك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما أردتِ أن تعطيه ؟ )) قلت : أردت أن أعطيه تمراً ، فقال : (( أما إنْ لم تفعلي كُتبت عليك كذبة )) . وفي إسناده من لا يُعرف .

وذكر الزهريُّ عن أبي هُريرة ، قال : من قال لِصبيٍّ : تَعَالَ هاك تمراً ، ثم لا يُعطيه شيئاً فهي كذبة ([23]) .

وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعدِ ، فمنهم من أوجبه مطلقاً ، وذكر البخاري في “صحيحه” ([24]) أنَّ ابن أشوع قضى بالوعد ، وهو قولُ طائفة من أهل الظاهر وغيرهم ، منهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضى تغريماً للموعود ، وهو المحكيُّ عن مالك ، وكثيرٌ من الفقهاء لا يوجبونه مطلقاً .

والثالث : إذا خاصم فجر ويعني بالفجور أنْ يخرج عن الحقِّ عمداً حتى يصير الحقُّ باطلاً والباطلُ حقاً ، وهذا مما يدعو إليه الكذبُ ([25]) ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (( إيَّاكم والكَذِبَ ، فإنَّ الكذِبَ يهدي إلى الفُجور ، وإنَّ الفجور يهدي إلى النارِ )) ([26]) .

وفي ” الصحيحين ” ([27]) عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِمُ )) .

وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( إنَّكم لتَختَصمون إليَّ ولعلَّ بعضَكُم أنْ يكونَ ألحنَ بحُجَّته من بعض ، وإنَّما أقضي على نحو مما أَسْمَعُ ، فمن قضيتُ له بشيءٍ من حقِّ أخيه ، فلا يأْخُذْهُ ، فإنَّما أقطع له قِطعةً مِنَ النَّار )) ([28]) .

وقال صلى الله عليه وسلم : (( إنَّ مِنَ البيانِ سِحراً )) ([29]) .

فإذا كان الرجلُ ذا قدرةٍ عند الخصومة – سواء كانت خصومتُه في الدِّين أو في الدنيا – على أنْ ينتصر للباطل ، ويُخيل للسَّامع أنَّه حقٌّ ، ويوهن الحقَّ ، ويخرجه في صورة الباطل ، كان ذلك مِنْ أقبحِ المحرَّمات ، ومن أخبث خصال النفاق ، وفي
” سنن أبي داود ” ([30]) عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال : (( مَنْ خَاصَمَ في باطلٍ وهو يعلَمُهُ لم يَزَلْ في سَخَطِ الله حتى يَنـزِعَ )) .

وفي رواية له ([31]) أيضاً : (( ومَنْ أعانَ على خصومةٍ بظلم ، فقد باء بغضب من الله )) .

الرابع : إذا عاهد غدر ، ولم يفِ بالعهد ، وقد أمر الله بالوفاء بالعهد ، فقال : } وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً { ([32]) ، وقال : } وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً { ([33]) ، وقال : } إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ
{ ([34]) .

وفي ” الصحيحين “([35]) عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( لِكُلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامَةِ يُعرف به )) ، وفي رواية : (( إنَّ الغادرَ يُنصبُ له لواءٌ يومَ القيامة ، فيقال : ألا هذه غَدرةُ فلان )) ([36])، وخرَّجاه ([37]) أيضاً من حديث أنس بمعناه .

وخرَّج مسلم ([38]) من حديث أبي سعيدٍ ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( لِكلِّ غادرٍ لواء عندَ استه يومَ القِيامة )) .

والغدرُ حرامٌ في كلِّ عهدٍ بين المسلم وغيره ، ولو كان المعاهَدُ كافراً ، ولهذا في حديث عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ قَتلَ نفساً مُعاهداً بغير حقها لم يَرَحْ([39]) رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحها ليوجَدُ من مسيرة أربعين عاماً )) خرّجه البخاري ([40]).

وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقُضوا منها شيئاً .

وأما عهودُ المسلمين فيما بينهم ، فالوفاء بها أشدُّ ، ونقضُها أعظم إثماً .

ومِنْ أعظمها : نقضُ عَهدِ الإمام على مَنْ بايعه ، ورضِيَ به ، وفي
” الصحيحين ” ([41]) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهُم الله يومَ القيامةِ ولا يُزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ ، فذكر منهم : ورجلٌ بايع إماماً لا يُبايعه إلاَّ لدنيا ، فإنْ أعطاه ما يريد ، وفَّى له ، وإلا لم يفِ له )) .

ويدخل في العُهود التي يجب الوفاءُ بها ، ويحرم الغَدْرُ فيها : جميعُ عقود المسلمين فيما بينهم ، إذا تَرَاضَوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاءُ بها ([42]) ، وكذلك ما يجبُ الوفاء به لله U ممَّا يعاهدُ العبدُ ربَّه عليه من نذرِ التَّبرُّرِ ونحوه .

الخامس : الخيانةُ في الأمانة ، فإذا اؤتمِنَ الرجلُ أمانةً ، فالواجبُ عليه أنْ يُؤدِّيها ، كما قال تعالى : } إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا { ([43]) ، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( أدِّ الأمانة إلى من ائتَمَنَكَ )) ([44]) ، وقال في خطبته في حجة الوداع : (( مَنْ كانَت عندَه أمانةٌ ، فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها )) ([45]) وقال  U : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ { ([46]) فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق .

وفي حديث ابن مسعودٍ من قوله ، وروي مرفوعاً : (( القتلُ في سبيل الله يُكفِّر كلَّ ذنب إلا الأمانة، يُؤتى بصاحب الأمانةِ فيقال له: أدِّ أَمانتكَ، فيقول: أنّى يا ربِّ وقد ذهبتِ الدُّنيا ؟ فيقالُ: اذهبوا به إلى الهاوية، فيهوي فيها حتَّى ينتهيَ إلى قعرها ، فيَجِدُها هناك كهيئتها، فيحمِلُها، فيضعها على عنقه فيَصْعَدُ بها في نار جهنم حتّى إذا رأى أنَّه قد خرج منها ، زلَّت فهوت ، وهو في إثرها أبد الآبدين )) قال : والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم ، والأمانة في الحديث ، وأشدُّ ذلك الودائع ([47]) .

وقد روي عن محمد بن كعب القرظي أنَّه استنبط ما في هذا الحديث – أعني حديث : (( آية المنافق ثلاث )) ([48]) – من القرآن ، فقال : مصداق ذلك في كتاب الله تعالى : } إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ { إلى قوله :
} وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ { ([49]) ، وقال تعالى : } وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ { إلى قوله : } فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ { ([50])، وقال: } إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ { إلى قوله: } لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ { ([51]) ورُوي عن ابن مسعود نحوُ هذا الكلام ، ثم تلا قوله : } فَأَعْقَبَهُمْ

نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ { ([52]) الآية .

وحاصلُ الأمرِ أنَّ النفاق الأصغر كُلَّه يرجِع إلى اختلاف السريرة والعلانية قاله الحسن ([53]) ، وقال الحسن أيضاً : من النفاق اختلافُ القلب واللسان ، واختلاف السِّرِّ والعلانية ، واختلاف الدخول والخروج ([54]) .

وقال طائفة من السَّلف : خشوعُ النفاق أنْ ترى الجسدَ خاشعاً ، والقلب ليس بخاشع ، وقد رُوي معنى ذلك عن عمر ، وروي عنه أنَّه قال على المنبر : إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم المنافقُ العليم ، قالوا : كيف يكون المنافق عليماً ؟ قال : يتكلم بالحكمةِ ، ويعمل بالجور ([55]) ، أو قال : المنكر . وسُئل حذيفة عن المنافق ، فقال : الذي يصف الإيمان ولا يعمل به ([56]) .

وفي ” صحيح البخاري ” ([57]) عن ابن عمر أنَّه قيل له : إنا نَدخُلُ على سلطاننا ، فنقول لهم بخلاف ما نتكلَّمُ إذا خرجنا من عندهم ، قال : كُنَّا نعدُّ هذا نفاقاً .

وفي ” المسند ” ([58]) عن حُذيفة ، قال : إنَّكم لتكلِّمون كلاماً إنْ كُنّا لنعدُّه

على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاقَ ، وفي رواية ([59]) قال : إنْ كان الرجلُ ليتكلَّمُ بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيصير بها منافقاً ، وإنِّي لأسمعها من أحدِكم في اليوم في المجلس عشر مرارٍ .

قال بلالُ بنُ سعد : المنافق يقولُ ما يَعرِفُ ، ويعمل ما يُنكِرُ .

ومن هنا كان الصحابة يخافون النفاقَ على أنفسهم ، وكان عمرُ يسأل حُذيفة عن نفسه .

وسئل أبو رجاء العطاردي : هل أدركتَ من أدركتَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشون النفاقَ ؟ فقال : نَعَمْ إني أدركتُ منهم بحمد الله صدراً حسناً ، نعم شديداً ، نعم شديداً ([60]) .

وقال البخاري في ” صحيحه ” ([61]) : وقال ابنُ أبي مُليكة : أدركتُ ثلاثين من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه .

ويُذكر عن الحسن قال : ما خافه إلاَّ مؤمِنٌ ، ولا أمنه إلا منافق ([62]) . انتهى .

وروي عن الحسن أنَّه حَلَفَ : ما مضى مؤمِنٌ قطُّ ولا بقي إلا وهو من النفاق مُشفِق ، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن . وكان يقول : من لم يخفِ النفاق ، فهو منافق ([63]) .

وسَمِعَ رجل أبا الدرداء يتعوَّذُ من النفاق في صلاته ، فلما سلَّم ، قال له : ما شأنك وشأنُ النفاق ؟ فقال : اللهمَّ غفراً – ثلاثاً – لا تأمن البلاءَ ، واللهِ إنَّ الرجل ليُفتَنُ في ساعةٍ واحدة ، فينقلِبُ عن دينه ([64]). والآثار عن السَّلف في هذا كثيرة جداً . قال سفيان الثوري : خلافُ ما بيننا وبين المرجئة ثلاث ، فذكر منها قال : نحن نقول : النفاق ، وهم يقولون : لا نفاق([65]) .

وقال الأوزاعي : قد خاف عمر النفاقَ على نفسه ، قيل له : إنَّهم يقولون :
إنَّ عمر لم يَخَفْ أنْ يكونَ يومئذ منافقاً حتى سأل حُذيفة ، ولكن خاف أنْ يُبتلى
بذلك قبل أنْ يموت ، قال : هذا قولُ أهل البدع ، يشير إلى أنَّ عمر كان يخاف
النفاقَ على نفسه ([66]) في الحال ، والظَّاهر أنَّه أراد أنَّ عمر كان يخاف على نفسه في الحال من النفاق الأصغر ، والنفاق الأصغر وسيلةٌ وذريعةٌ إلى النفاق الأكبر ، كما أنَّ المعاصي بريدُ الكفر ، فكما يخشى على من أصرَّ على المعصية أنْ يُسلَبَ الإيمانَ عندَ
الموت ، كذلك يخشى على مَنْ أصرَّ على خصالِ النفاق أنْ يُسلَبَ الإيمانَ ، فيصير
منافقاً خالصاً .

وسُئِلَ الإمامُ أحمد : ما تقولُ فيمن لا يخاف على نفسه النفاق ؟ فقال : ومن يأمنُ على نفسه النفاق ؟ وكان الحسن يُسمي من ظهرت منه أوصافُ النفاق العملي منافقاً ، وروي نحوه عن حذيفة .

وقال الشعبي : من كذب ، فهو منافق ([67]) ، وحكى محمد بن نصر المروزي هذا القول عن فرقةٍ من أهل الحديث ، وقد سبق في أوائل الكتاب ذكرُ الاختلاف عن الإمام أحمد وغيره في مرتكب الكبائر : هل يسمي كافراً كفراً لا يَنقلُ عن الملة أم لا ؟ واسمُ الكفر أعظم من اسم النفاق ، ولعلَّ هذا هوَ الذي أنكره عطاءٌ عن الحسن إن صحَّ ذلك عنه ([68]) .

ومِنْ أعظم خِصال النفاق العملي : أنْ يعملَ الإنسان عملاً ، ويُظهرَ أنَّه قصد به الخيرَ ، وإنَّما عمله ليتوصَّل به إلى غرض له سيِّئٍ ، فيتمّ له ذلك ، ويتوصَّل بهذه الخديعةِ إلى غرضه ، ويفرح بمكره وخِداعه وحَمْدِ النَّاس له على ما أظهره ، وتوصل به إلى غرضه السيِّئِ الذي أبطنه ، وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود ، فحكى عن المنافقين أنَّهم : } اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ { ([69]) ، وأنزل في اليهود : } لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { ([70]) وهذه الآية نزلت في اليهود ، سألهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ فكتموه ، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أنَّهم قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك، وفرِحُوا بما أُوتوا من كتمانهم وما سُئِلوا عنه ، قال ذلك ابن عباس ، وحديثُه مخرج في ” الصحيحين ” ([71]) .

وفيهما ([72]) أيضاً عن أبي سعيد أنَّها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلَّفوا عنه ، وفَرِحُوا بمقعدهم خلافَه فإذا قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الغزو ، اعتذروا إليه ، وحلفوا ، وأحبُّوا أنْ يُحمدوا بما لم يفعلوا .

وفي حديث ابن مسعود ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( مَنْ غَشَّنا ، فَلَيسَ مِنّا ، والمّكْرُ والخّديعةُ في النَّارِ )) ([73]) .

وقد وصف الله المنافقين بالمخادعة ، وأحسن أبو العتاهية في قوله ([74]) :

َيسَ دُنيا إلاّ بدينٍ وليسَ الدِّينُ إلاَّ مكارمَ الأخلاقِ

إنَّما المكر والخديعةُ في النَّارِ هُما مِنْ خِصالِ أَهْلِ النِّفاق

ولما تقرَّر عند الصحابة y أنَّ النفاق هو اختلافُ السرِّ والعلانية خشي
بعضهم على نفسه أنْ يكونَ إذا تغير عليه حضورُ قلبه ورقتُه وخشوعه عندَ سماع
الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أنْ يكونَ ذلك منه نفاقاً ، كما في ” صحيح مسلم ” ([75]) عن حنظلة الأسيدي ([76]) أنَّه مرَّ بأبي بكر وهو يبكي ، فقال : ما لك ؟ قالَ : نافق حنظلةُ يا أبا بكر ، نكون عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذكِّرُنا بالجنة والنار كأنّا رأيُ عين ، فإذا رجعنا ، عافَسنا ([77]) الأزواج والضيعة ([78]) فنسينا كثيراً ، قالَ أبو بكر : فوالله إنّا لكذلك ، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالَ : (( ما لك يا حَنْظَلة ؟ )) قال : نافق حنظلة يا رسولَ الله ، وذكر له مثلَ ما قال لأبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لو تَدُومونَ على الحال التي تقومون بها من
عندي ، لصَافَحَتكُم الملائكة في مجالسكم وفي طُرُقِكم ، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً )) .

وفي ” مسند البزار ” ([79]) عن أنس قال : قالوا : يا رسول الله ، إنا نكونُ عندك على حالٍ ، فإذا فارقناك كُنّا على غيره ، قال : (( كيف أنتم وربكم ؟ )) قالوا : الله

ربُّنا في السرِّ والعلانية ، قال : (( ليس ذاكم النفاق )) .

ورُوي من وجه آخر عن أنس ([80]) قال : غدا أصحابُ رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : هلكنا ، قال : (( وما ذاك ؟ )) قالوا : النفاق ، النفاق ، قال : (( ألستم تَشهدون أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسول الله ؟ )) قالوا : بلى ، قال : (( فلَيسَ ذلك بالنِّفاق )) ثم ذكر معنى حديث حنظلة كما تقدَّم .


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *