جامع العلوم والحكم
في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم
ابن رجب الحنبلي
الحديث الخامس والأربعون
عَنْ جابر بن عبد الله أنَّه سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَامَ الفَتحِ وهُوَ بمكَّةَ يَقُولُ :
(( إنَّ الله ورَسُولَهُ حرَّمَ ([1]) بَيعَ الخَمْرِ والمَيتَةِ والخِنْزِيرِ والأصنامِ )) فقيلَ : يا رَسولَ الله أرأيتَ شُحومَ المَيتَةِ ، فإنَّهُ يُطلَى بِها السُّفُنُ ، ويُدهَنُ بِها الجُلُودُ ، ويَستَصبِحَ بِها النَّاسُ ؟ قَالَ : (( لا ، هُوَ حَرامٌ )) ، ثمَّ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذلك : (( قَاتَل الله اليَهودَ ، إنَّ الله حَرَّمَ عليهِمُ الشُّحومَ ، فأَجْمَلوهُ ، ثمَّ باعُوه ، فأَكَلوا ثَمَنَه )) خرَّجه البُخاريُّ ([2]) ومُسلمٌ ([3]) .
هذا الحديث خرّجاه في ” الصحيحين ” من حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء ، عن جابر . وفي رواية لمسلم ([4]) أنْ يزيد قال : كتب إليَّ عطاء ، فذكره ، ولهذا قال أبو حاتم الرازي ([5]) : لا أعلم يزيدَ بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئاً ، يعني أنَّه إنَّما يروي عنه كتابَه ، وقد رواه أيضاً يزيدُ بنُ أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد بن عبدة ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
وفي ” الصحيحين ” ([6]) عن ابن عباس قال : بلغ عمرَ أنَّ رجلاً باع خمراً ، فقال : قاتله الله ، ألم يعلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( قاتلَ الله اليهودَ ، حُرِّمَتْ عليهمُ الشُّحومُ ، فجَمَلوها فباعُوها )) ، وفي رواية : (( وأكلُوا أثمانها )) .
وخرَّج أبو داود ([7]) من حديث ابن عباسٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوه ، وزاد فيه :
(( وإنَّ الله إذا حرَّم أكلَ شيءٍ ، حرَّم عليهم ثمنه )) ، وخرَّجه ابن أبي شيبة ([8]) ، ولفظه : (( إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه )) .
وفي “الصحيحين” ([9]) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( قاتَلَ الله يهوداً، حُرِّمَت عليهمُ الشُّحومُ ، فباعُوها وأكلوا أثمانها )) .
وفي ” الصحيحين ” ([10]) عن عائشة ، قالت : لما أُنزِلَت الآياتُ من آخر سورة البقرة ، خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فاقترأهُنَّ على الناس ، ثم نهى عن التِّجارة في الخمر ، وفي رواية لمسلم ([11]) : لمَّا نزلتِ الآياتُ من آخر سورة البقرة في الرِّبا ، خرج
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فحرَّم التجارة في الخمر .
وخرَّج مسلم ([12]) من حديث أبي سعيد ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إنَّ الله حرَّم الخمر ، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيءٌ ، فلا يشرب ولا يبع )) . قال : فاستقبل الناسُ بما كان عندهم منها في طريق المدينة ، فسفكوها .
وخرَّج أيضاً ([13]) من حديث ابن عباس أنَّ رجلاً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( هل عَلِمْت أنَّ الله قد حرَّمها ؟ )) قال : لا ، قال : فسارَّ إنساناً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بِما سَارَرْتَه ؟ )) قال : أمرتُه ببيعها ، قال : (( إنَّ الذي حَرَّمَ شُربها حَرَّمَ بيعها )) ، قال : ففتح المزاد حتّى ذهب ما فيها .
فالحاصل من هذه الأحاديث كُلِّها أنَّ ما حرَّم الله الانتفاعَ به ، فإنَّه يحرم بيعُه وأكلُ ثمنه ، كما جاء مصرحاً به في الراوية المتقدمة : (( إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه )) ([14]) ، وهذه كلمةٌ عامَّةٌ جامعة تَطَّرِدُ في كُلِّ ما كان المقصودُ من الانتفاع به حراماً ، وهو قسمان :
أحدهما : ما كان الانتفاعُ به حاصلاً مع بقاء عَينِه ، كالأصنامِ ، فإنَّ منفعتها المقصودة منها هوَ الشرك بالله ، وهو أعظمُ المعاصي على الإطلاق ([15]) ، ويلتحِقُ بذلك ما كانت منفعته محرَّمة ، ككتب الشِّركِ والسِّحر والبِدعِ والضَّلالِ ، وكذلك
الصورُ المحرمةُ ، وآلات الملاهي المحرمة كالطنبور ، وكذلك شراءُ الجواري للغناء ([16]) .
وفي ” المسند ” ([17]) عن أبي أُمامة ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( إنَّ الله بعثني رحمةً وهُدى للعالمين ، وأمرني أنْ أمحق المزاميرَ والكنَّارات – يعني : البرابط والمعازف – والأوثان التي كانت تُعبد في الجاهلية ، وأقسم ربي بعزَّته لا يشرب عبدٌ من عبيدي جرعةً من خمر إلا سقيته مكانَها من حميم جهنم ، معذباً أو مغفوراً له ، ولا يسقيها صبياً صغيراً إلا سقيته مكانَها من حميم جهنم ، معذباً أو مغفوراً له ، ولا يدعها عبدٌ من عبيدي من مخافتي إلاَّ سقيتها إيَّاه في حظيرةِ القُدُس ، ولا يحلُّ بيعُهُنَّ ولا شراؤُهُنَّ ، ولا تعليمُهُنَّ ، ولا تجارة فيهن ، وأثمانهم حرام )) يعني : المغنِّيات .
وخرَّجه الترمذي ([18]) ، ولفظه : لا تبيعوا القيناتِ ولا تشتروهن ، ولا تُعلِّموهُنَّ ، ولا خَيرَ في تِجارةٍ فيهن ، وثمنُهُنَّ حرام ، في مثل ذلك أنزل الله : } وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ { ([19]) الآية ، وخرَّجه ابنُ ماجه ([20]) أيضاً ، وفي إسناد الحديث مقال ، وقد رُوي نحوه من حديث عمر ([21]) وعليٍّ ([22]) بإسنادين فيهما
ضعفٌ أيضاً .
ومن يحرم الغناءَ كأحمد ومالك ، فإنَّهما يقولان : إذا بيعت الأمةُ المغنية ، تُباع على أنَّها ساذجةٌ ، ولا يُؤخذُ لغنائها ثمنٌ ، ولو كانت الجاريةُ ليتيمٍ ، ونصَّ على ذلك أحمد ، ولا يمنعُ الغناءُ من أصل بيع العبد والأمة ؛ لأنَّ الانتفاع به في غير الغناء حاصلٌ بالخدمة وغيرها ، وهو من أعظم مقاصدِ الرَّقيق ([23]) . نعم ، لو علم أنَّ المشتري لا يشتريه إلاّ للمنفعة المحرمة منه ، لم يجز بيعُه لهُ عندَ الإمام أحمد وغيره من العلماء ، كما لا يجوزُ عندهم بيعُ العصير ممن يتخذه خمراً ، ولا بيعُ السِّلاح في الفتنة ، ولا بيع الرَّياحين والأقداح لمن يعلم أنَّه يشربُ عليها الخمر ، أو الغلام لمن يعلم منه الفاحشة ([24]) .
القسم الثاني : ما ينتفع به مع إتلاف عينه ، فإذا كان المقصود الأعظم منه محرماً ، فإنَّه يحرم بيعُه ، كما يحرمُ بيعُ الخنـزير والخمر والميتة ، مع أنَّ في بعضها منافع غيرَ محرمة ، كأكل الميتة للمضطرِّ ، ودفع الغصَّة بالخمر ،
وإطفاءِ الحريق به . والخرْز بشعر الخنْزير عند قوم ، والانتفاع بشعره وجلده عند من يرى ذلك ، ولكن لمَّا كانت هذه المنافعُ غيرَ مقصودة ، لم يعبأ بها ، وحرم البيعُ بكون المقصودِ الأعظم من الخنـزير والميتة أكلَهما ، ومن الخمر شربَها ،
ولم يلتفت إلى ما عدا ذلك ، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى لمَّا قيل له : أرأيتَ شحومَ الميتةِ ، فإنَّه يُطلى بها السُّفُن ، ويُدهن بها الجُلودُ ، ويَستصبِحُ بها الناسُ ، فقال : (( لا ، هو حرام )) ([25]) .
وقد اختلفَ الناسُ في تأويلِ قوله صلى الله عليه وسلم : (( هو حرامٌ )) فقالت طائفة : أراد أنَّ هذا الانتفاعَ المذكور بشحوم الميتة حرام ، وحينئذٍ فيكونُ ذلك تأكيداً للمنع من بيع الميتة ، حيث لم يجعل شيئاً من الانتفاع بها مباحاً ([26]) .
وقالت طائفة : بل أرادَ أنَّ بيعها حرامٌ ، وإنْ كان قد ينتفع بها بهذه الوجوه ، لكن المقصود الأعظم من الشحوم هو الأكل ، فلا يُباحُ بيعُها لذلك .
وقد اختلفَ العلماءُ في الانتفاع بشحوم الميتة ، فرخَّص فيه عطاءٌ ، وكذلك نقل ابنُ منصورٍ عن أحمد وإسحاق ، إلاّ أنَّ إسحاقَ قال : إذا احتيجَ إليه ، وأمَّا إذا وُجِدَ عنه مندوحةٌ ، فلا ، وقال أحمد : يجوزُ إذا لم يمسه بيده ، وقالت طائفة : لا يجوزُ ذلك ، وهو قولُ مالك والشافعي وأبي حنيفة ، وحكاه ابن عبد البرّ إجماعاً عن غير عطاء .
وأمَّا الأدْهانُ الطاهرة إذا تنجَّست بما وقع فيها من النجاسات ، ففي جواز الانتفاع بها بالاستصباح ونحوه اختلافٌ مشهور في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ، وفيه روايتان عن أحمد ([27]) .
وأما بيعُها ، فالأكثرون على أنَّه لا يجوزُ بيعُها ، وعن أحمد رواية : يجوز بيعُها من كافرٍ ، ويُعلم بنجاستها ، وهو مروىٌّ عن أبي موسى الأشعري ، ومن أصحابنا من خرَّج جوازَ بيعها على جواز الاستصباح بها وهو ضعيفٌ مخالفٌ لنصِّ أحمد بالتفرقة ، فإنَّ شحومَ الميتة لا يجوزُ بيعُها وإنْ قيل بجواز الانتفاع بها ، ومنهم من خرَّجه على القول بطهارتها بالغسل ، فيكون – حينئذٍ – كالثوب المتمضّخ بنجاسة . وظاهر كلام أحمد منعُ بيعها مطلقاً ؛ لأنَّه علل بأنَّ الدُّهنَ المتنجس فيهِ ميتة ، والميتة
لا يُؤكل ثمنها ([28]) .
وأما بقية أجزاءِ الميتة ، فما حُكِمَ بطهارته منها ، جاز بيعُه ، لجواز الانتفاع به ، وهذا كالشَّعر والقَرنِ عندَ من يقول بطهارتهما ، وكذلك الجلدُ عندَ من يرى أنَّه طاهر بغيرِ دباغ ، كما حُكي عن الزهري ، وتبويبُ البخاري يدلُّ عليهِ ([29]) ، واستدلَّ بقولِهِ : (( إنَّما حَرُم من الميتة أكلُها )) ([30]) . وأما الجمهور الذين يرون نجاسة الجلدِ قبل الدباغ ، فأكثرهم منعوا من بيعه حينئذٍ ؛ لأنَّه جزءٌ من الميتة ([31]) ، وشذَّ بعضهم ، فأجاز بيعه كالثوب النجس ، ولكن الثوب طاهر طرأت عليه النجاسةُ ، وجلد الميتة جزءٌ منها ، وهو نجسُ العين . وقال سالمُ بنُ عبد الله بن عمر : هل بيعُ جلودِ الميتة إلاَّ كأكل لحمها ؟ وكرهه طاووس وعكرمة ، وقال النخعي : كانوا يكرهون أنْ يبيعوها ، فيأكلوا أثمانها .
وأما إذا دبغت ، فمن قال بطهارتها بالدبغ ، أجاز بيعها ، ومن لم ير طهارتها
بذلك ، لم يُجِزْ بيعها . ونصَّ أحمد على منع بيعِ القمح إذا كان فيه بولُ الحمار حتى يُغسل ، ولعلَّه أراد بيعه ممَّن لا يعلم بحاله ، خشية أنْ يأكله ولا يعلم نجاسته .
وأما الكلب ، فقد ثبت في ” الصحيحين ” ([32]) عن أبي مسعود الأنصاري أنَّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب .
وفي ” صحيح مسلم ” ([33]) عن رافع بن خديج سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : (( شرُّ الكسب مَهْرُ البغيّ ، وثمن الكلب ، وكسب الحجام )) .
وفيه عن معقل الجزري عن أبي الزبير ، قال : سألت جابراً عن ثمن الكلب
والسِّنور ، فقال : زجر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ([34]) . وهذا إنّما يُعرف عن ابن لهيعة عن أبي الزبير . وقد استنكر الإمامُ أحمد رواياتِ مَعْقِلٍ عن أبي الزبير ، وقال : هي تشبه أحاديثَ ابنِ لهيعة ، وقد تُتُبِّعِ ذلك ، فوُجِدَ كما قاله أحمد رحمه الله .
وقد اختلف العلماءُ في بيع الكلب ، فأكثرهم حرَّموه ، منهم الأوزاعي ، ومالك في المشهور عنه ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق ، وغيرهم ([35]) ، وقال أبو هريرة : هو سحت ([36]) ، وقال ابن سيرين : هو أخبثُ الكسب ([37]) . وقال
عبدُ الرحمان بنُ أبي ليلى : ما أُبالي ثمن كلب أكلت أو ثمنَ خنْزير ([38]) . وهؤلاء لهم مآخذ :
أحدها : أنَّه إنّما نُهي عن بيعها لنجاستها ([39]) ، وهؤلاء التزموا تحريمَ بيع كلِّ نجسِ العين ، وهذا قولُ الشافعي ، وابن جرير ، ووافقهم جماعةٌ من أصحابنا ، كابنِ عقيل في ” نظرياته ” وغيره ، والتزموا أنَّ البغلَ والحمارَ إنَّما نجيز بيعهما إذا لم نقل بنجاستهما ، وهذا مخالفٌ للإجماع .
والثاني : أنَّ الكلبَ لم يُبح الانتفاعُ به واقتناؤه مطلقاً كالبغل والحمار ، وإنَّما أُبيحَ اقتناؤُه لحاجاتٍ مخصوصةٍ ، وذلك لا يُبيح بيعه كما لا تبيحُ الضرورةُ إلى الميتة والدم بَيعَهُما ، وهذا مأخذُ طائفةٍ من أصحابنا وغيرهم .
والثالث : أنَّه إنَّما نُهي عن بيعه لخسَّته ومهانته ، فإنَّه لا قيمةَ له إلاَّ عند ذوي الشُّحِّ والمهانَةِ ، وهو متيسِّرُ الوجودِ ، فنُهي عن أخذ ثمنِه ترغيباً في المواساة بما يفضل منه عن الحاجة ، وهذا مأخذُ الحسن البصري وغيره من السَّلف ، وكذا قال بعضُ أصحابنا في النَّهي عن بيع السِّنَّورِ .
ورخَّصت طائفةٌ في بيع ما يُباح اقتناؤُه مِنَ الكلاب ، ككلب الصَّيد ، وهو قولُ عطاء والنَّخعي وأبي حنيفة وأصحابه ، ورواية عن مالك ، وقالوا : إنَّما نهي عن بيع ما يحرُمُ اقتناؤُه منها ([40]) . وروى حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور ، إلا كلب صيد ، خرَّجه النَّسائي ([41]) ، وقال : هو حديثٌ منكر ، وقال أيضاً : ليس بصحيح ، وذكر الدارقطني ([42]) أنَّ الصحيحَ وقفُه على جابر ، وقال أحمد : لم يصحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رخصةٌ في كلب الصيد ، وأشار البيهقي ([43]) وغيره إلى أنَّه اشتبه على بعض الرواة هذا الاستثناء ، فظنه من البيع، وإنَّما هو مِنَ الاقتناء ، وحماد بن سلمة في رواياته عن أبي الزبير ليس بالقوي، ومن قال : إنَّ هذا الحديث على شرط مسلم – كما ظنَّه طائفةٌ من المتأخرين – فقد أخطأ ؛ لأنَّ مسلماً لم يخرِّج لحمَّاد بن سلمة ، عن أبي الزبير شيئاً ، وقد بيَّن في
كتاب ” التمييز ” ([44]) أنَّ رواياته عن كثير من شيوخه أو أكثرهم غيرُ قوية .
فأمَّا بيعُ الهرِّ ، فقد اختلف العلماءُ في كراهته ، فمنهم من كرهه ، ورُوي ذلك عن أبي هريرة وجابر وعطاء وطاووس ومجاهد ، وجابر بن زيد ، والأوزاعي ، وأحمد في رواية عنه ، وقال : هو أهونُ من جلود السِّباع ، وهذا اختيارُ أبي بكر من أصحابنا ، ورخص في بيع الهرِّ ابن عباس وعطاء في رواية والحسن وابن سيرين والحكم وحماد ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه ([45]) ، وعن إسحاق روايتان ، وعن الحسن أنَّه كره بيعها ، ورخَّصَ في شرائها للانتفاع بها .
وهؤلاء منهم من لم يصحِّح النهي عن بيعها ، قال أحمد : ما أعلم فيه شيئاً يثبت أو يصحُّ ، وقال أيضاً : الأحاديث فيه مضطربةٌ .
ومنهم من حمل النهي على ما لا نفع فيه كالبرِّيِّ ونحوه ([46]) .
ومنهم من قال : إنَّما نهى عن بيعها ؛ لأنَّه دناءة وقلة مروءة ، لأنَّها متيسرة الوجود والحاجة إليها داعية ، فهي من مرافِق الناس التي لا ضررَ عليهم في بذل فضلها ، فالشُّحُّ بذلك مِنْ أقبحِ الأخلاق الذميمة ، فلذلك زجر عن أخذ ثمنها .
وأما بقية الحيوانات التي لا تُؤكل ، فما لا نفع فيه كالحشرات ونحوه لا يجوزُ بيعُه ([47]) ، وما يُذكر من نفع في بعضها ، فهو قليلٌ ، فلا يكون مبيحاً للبيع ، كما لم يبح النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بيعَ الميتة لما ذكر له ما فيها من الانتفاع ، ولهذا كان الصحيحُ أنَّه لا يُباحُ بيعُ العلق لِمَصِّ الدم ، ولا الدِّيدان للاصطياد ونحو ذلك .
وأما ما فيه نفعٌ للاصطياد منها ، كالفهد والبازيِّ والصَّقر ، فحكى أكثرُ الأصحاب في جواز بيعها روايتين عن أحمد ، ومنهم من أجازَ بيعَها ، وذكر الإجماعَ
عليه ([48]) ، وتأوَّل رواية الكراهة كالقاضي أبي يعلى في ” المجرد ” ([49]) ، ومنهم من قال : لا يجوزُ بيع الفهد والنّسر ، وحكى فيه وجهاً آخر بالجواز ، وأجاز بيع البُزاة والصُّقور ، ولم يحكِ فيه خلافاً ، وهو قولُ ابن أبي موسى ([50]) .
وأجاز بيع الصقر والبازي والعُقاب ونحوه أكثرُ العلماء ، منهم : الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق ، والمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات عنه جوازُ بيعها ، وتوقف في رواية عنه في جوازه إذا لم تكن معلَّمة ، قال الخلاَّل : العمل على ما رواه الجماعة أنَّه يجوزُ بيعُها بكلِّ حالٍ .
وجعل بعضُ أصحابنا الفيلَ حكمه حكم الفهد ونحوه ([51]) ، وفيه نظر ، والمنصوص عن أحمد في رواية حنبل أنَّه لا يحِلُّ بيعه ولا شراؤه ، وجعله كالسَّبُع ، وحُكي عن الحسن أنَّه قال : لا يُركب ظهره ، وقال : هو مسخ ، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّه لا منفعةَ فيه .
ولا يجوزُ بيعُ الدُّبِّ ، قاله القاضي في ” المجرد ” ، وقال ابن أبي موسى : لا
يجوزُ بيعُ القردِ ([52]) ، قال ابن عبد البرِّ : لا أعلمُ في ذلك خلافاً بين العلماء ، وقال
القاضي في ” المجرد ” : إنْ كان ينتفع به في موضع ، لحفظ المتاع ، فهو كالصَّقر والبازيِّ ([53]) ، وإلا ، فهو كالأسد لا يجوزُ بيعه ، والصحيح المنعُ مطلقاً ، وهذه المنفعة يسيرةٌ ، وليست هي المقصودة منه ، فلا تُبيح البيعَ كمنافعِ الميتة .
ومما نُهي عن بيعه جيفُ الكفار إذا قُتِلوا ، خرّج الإمام أحمد ([54]) من حديث ابن عباس قال : قتل المسلمون يوم الخندق رجلاً من المشركين ، فأعطوا بجيفته مالاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ادفعوا إليهم جيفَته ، فإنَّه خبيثُ الجيفة ، خبيثُ الدِّيةِ )) ، فلم يقبل منهم شيئاً . وخرَّجه الترمذي ([55]) ، ولفظه : إنَّ المشركين أرادوا أنْ يشتروا جَسَد رجلٍ من المشركين فأبى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يبيعهم . وخرَّجه وكيع في كتابه من وجه آخر عن عكرمة مرسلاً ، ثم قال وكيع : الجيفة لا تُباع .
وقال حرب : قلت لإسحاق ، ما تقول في بيع جيف المشركين من
المشركين([56]) ؟ قال : لا . وروى أبو عمرو الشيباني أنَّ علياً أتي بالمستورد العجلي وقد تنصّر ، فاستتابه فأبى أنْ يتوبَ ، فقتله ، فطلبت النصارى جيفته بثلاثين ألفاً ، فأبى عليٌّ فأحرقه ([57]) .