كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين
المؤلف: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري
(المتوفى: 324هـ)
المعتزلة
باب اختلافهم في البارئ هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان؟ أم في كل مكان؟
وهل تحمله الحملة أم يحمله العرش؟ وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة؟
142 – قول منكري أنه في مكان
اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة:
قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال: إنه في كل مكان حال وقول من قال: لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين أنكرتا القول: إنه في مكان دون مكان.
143 – أقوال مثبتي أنه في مكان
1 – وقال قائلون: هو جسم خارج من جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بلون ولا طعم ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلا على معنى أنه فوقه غير مماس له وأنه فوق الأشياء وفوق العرش ليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها.
2 – وقال هشام بن الحكم: أن ربه في مكان دون مكان وأن مكانه هو العرش وأنه مماس للعرش وإن العرش قد حواه وحده.
3 – وقال بعض أصحابه: أن البارئ قد ملأ العرش وأنه مماس له.
4 – وقال بعض من ينتحل الحديث: أن العرش لم يمتلئ به وأنه يقعد نبيه عليه السلام معه على العرش.
5 – وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال -عز وجل-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ولا نقدم بين يدي الله في القول بل نقول استوى بلا كيف وأنه نور كما قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] وأن له وجهاً كما قال الله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] وأن له يدين كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وأن له عينين كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث[1] ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6 – وقالت المعتزلة: أن الله استوى على عرشه بمعنى استولى.
7 – وقال بعض الناس: الاستواء القعود والتمكن.
144 – اختلافهم في العرش
واختلف الناس في حملة العرش ما الذي تحمل؟
1 – فقال قائلون: الحملة تحمل البارئ وأنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وإن العرش له أطيط[2] إذا ثقل عليه كأطيط الرحل.
2 – وقال بعضهم: ليس يثقل البارئ ولا يخف ولا تحمله الحملة ولكن العرش هو الذي يخف ويثقل وتحمله الحملة.
3 – وقال بعضهم: الحملة ثمانية أملاك.
4 – وقال بعضهم: ثمانية أصناف.
5 – وقال قائلون: أنه على العرش وأنه بائن منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل ببينونة ليس على العزلة والبينونة من صفات الذات.
القول في المكان
145 – اختلافهم في المكان
اختلفت المعتزلة في ذلك.
1 – فقال قائلون: إن الله بكل مكان بمعنى أنه مدبر لكل مكان.
2 – وقال قائلون: البارئ لا في مكان بل هو على ما لم يزل عليه.
3 – وقال قائلون: البارئ في كل مكان بمعنى أنه حافظ للأماكن وذاته مع ذلك موجودة بكل مكان.
146 – اختلافهم في أنه تعالى لم يزل عالما قادرا
واختلفوا هل يقال: أن البارئ لم يزل عالماً قادراً حياً أم لا؟ يقال ذلك على مقالتين:
1 – فقال قائلون: لم يزل الله عالماً قادراً حياً.
2 – وزعم كثير من المجسمة أن البارئ كان قبل أن يخلق الخلق ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا مريد ثم أراد وإرادته عندهم حركته فإذا أراد كون شيء تحرك فكان الشيء لأن معنى أراد تحرك وليست الحركة غيره وكذلك قالوا في قدرته وعلمه وسمعه وبصره أنها معان وليست غيره وليست بشيء لأن الشيء هو الجسم.
وقال قائلون: حركة البارئ غيره.
147 – اختلافهم في معنى يتحرك
واختلف القائلون: “إن البارئ يتحرك” على مقالتين:
1 – فزعم هشام أن حركة البارئ هي فعله الشيء وكان يأبى أن يكون البارئ يزول مع قوله يتحرك.
وأجاز عليه السكاك الزوال[3] وقال: لا يجوز عليه الطفر.
وحكي عن رجل كان يعرف بأبي شعيب أن البارئ يسر بطاعة أوليائه وينتفع بها وبإنابتهم ويلحقه العجز بمعاصيهم إياه تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
148 – اختلافهم في جواز رؤية الله تعالى
واختلفوا في رؤية البارئ بالأبصار على تسع عشرة مقالة:
1 – فقال قائلون: يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات[4].
2 – وأجاز عليه بعضهم الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول إذا رأوا إنساناً يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه.
3 – وأجاز كثير مما أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا: أن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك حكي ذلك عن بعض أصحاب مضر وكهمس.
4 – وحكي عن أصحاب عبد الواحد بن زيد أنهم كانوا يقولون: أن الله – سبحانه – يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن.
5 – وقد قال قائلون: إنا نرى الله في الدنيا في النوم فأما في اليقظة فلا.
وروي عن رقبة بن مصقلة أنه قال: رأيت رب العزة في النوم فقال: لأكرمن مثواه يعني سليمان التيمي صلى الفجر بطهر العشاء أربعين سنة.
6 – وامتنع كثير من القول أنه يرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه وقالوا: أنه يرى في الآخرة.
149 – اختلافهم في كيفية الرؤية
واختلفوا ايضا في ضرب آخر:
1 – فقال قائلون: نرى جسما محدودا مقابلا لنا في مكان دون مكان.
2 – قال زهير الأثري: ذات الله -عز وجل- في كل مكان وهو مستو على عرشه ونحن نراه في الآخرة على عرشه بلا كيف.
وكان يقول: أن الله يجيء يوم القيامة إلى مكان لم يكن خالياً منه وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ولم تكن خالية منه.
150 – اختلافهم في رؤية الله -عز وجل- بالأبصار
واختلفوا في رؤية الله -عز وجل- بالأبصار هل هي إدراك له بالأبصار أم لا؟
1 – فقال قائلون: هي إدراك له بالأبصار وهو يدرك بالأبصار.
2 – وقال قائلون: يرى الله – سبحانه – بالأبصار ولا يدرك بالأبصار.
151 – اختلافهم في آلة الرؤية
واختلفوا في ضرب آخر:
1 – فقال قائلون: نرى الله جهرة ومعاينة.
2 – وقال قائلون: لا نرى الله جهرة ولا معاينة.
3 – ومنهم من يقول: أحدق إليه إذا رأيته.
4 – ومنهم من يقول: لا يجوز التحديق إليه.
5 – وقال قائلون منهم: ضرار وحفص الفرد إن الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا هذه فندركه بها وندرك ما هو بتلك الحاسة.
6 – وقالت البكرية: إن الله يخلق صورة يوم القيامة يرى فيها ويكلم خلقه منها.
7 – وقال الحسين النجار: إنه يجوز أن يحول الله العين إلى القلب ويجعل لها قوة العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤية له أي علماً له.
152 – الإختلاف في رؤية الله تعالى بالقلوب
وأجمعت المعتزلة على أن الله لا يرى بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب؟
1 – فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة: أن الله يرى بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بها وأنكر ذلك الفوطي وعباد.
2 – وقالت المعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية: أن الله لا يرى بالأبصار في الدنيا والآخرة ولا يجوز ذلك عليه.
153 – الإختلاف في جواز رؤيته تعالى بالأبصار
واختلفوا في الرؤية لله بالأبصار هل يجوز أن تكون أو هي كائنة لا محالة؟ على مقالتين:
1 – فقال قائلون: يجوز أن يرى الله – سبحانه – في الآخرة بالأبصار وقال: نقول أنه بتاتاً وقال: نقول أنه يرى بالأبصار.
2 – وقال قائلون: نقول بالأخبار المروية وبما في القرآن أنه يرى بالأبصار في الآخرة بتاتاً يراه المؤمنون.
وكل المجسمة إلا نفرا يسيرا يقول بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم.
154 – الإختلاف في العين والوجه واليد ونحوها
واختلفوا في العين واليد والوجه على أربع مقالات:
1 – فقالت المجسمة: له يدان ورجلان ووجه وعينان وجنب يذهبون إلى الجوارح والأعضاء.
2 – وقال أصحاب الحديث: لسنا نقول في ذلك إلا ما قاله الله -عز وجل- أو جاءت به الرواية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول: وجه بلا كيف ويدان وعينان بلا كيف.
3 – وقال عبد الله بن كلاب: أطلق اليد والعين والوجه خبراً لأن الله أطلق ذلك ولا أطلق غيره فأقول: هي صفات لله -عز وجل- كما قال في العلم والقدرة والحياة أنها صفات.
4 – وقالت المعتزلة بإنكار ذلك إلا الوجه وتأولت اليد بمعنى النعمة وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] أي بعلمنا والجنب بمعنى الأمر وقالوا في قوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أي في أمر الله وقالوا: نفس البارئ هي هو وكذلك ذاته هي هو وتأولوا قوله: {الصَّمَدُ} على وجهين: أحدهما أنه السيد والآخر أنه المقصود إليه في الحوائج.
[1] إشارة إلى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى سماء الدنيا حين بقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له” والحديث أخرجه أصحاب الصحاح الخمسة وانظر كذلك موسوعة أطراف الحديث النبوية حيث يشير إلى مواطن ورود الحديث
[2] الأطيط: صوت الظهر من شدة الجوع وأطيط البطن: صوت يسمع عند الجوع وأصل الأطيط: نقيض صوت المحامل والرحال إذا ثقل عليها الركبان.
[3] الزوال هنا ليس المقصود به الفناء وإنما التحرك مكن مكان إلى آخر
[4] إضافة إلى ما ذكر من مراجع عن المعتزلة انظر الحديث عن هذه الواقعة في تلبيس إبليس: 168