مختصر زاد المعاد لابن القيم
( فصل )
فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وأيده الله بنصره وبالمؤمنين ، وألّف بين قلوبهم بعد العداوة ، فمنعته أنصار الله ، وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر ، وبذلوا أنفسهم دونه ، وقدّموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج ، وكان أولى بهم من أنفسهم ؛ رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة ، وشمّروا لهم عن ساق العداوة ، وصاحوا بهم من كل جانب ، والله تعالى يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة ، واشتد الجناح ، فأذن لهم حينئذ في القتال ، ولم يفرضه عليهم ، فقال تعالى : ! 2 < أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير > 2 ! ‘ سورة الحج : 39 ‘ وقيل : إن هذا بمكة ، لأن السورة مكية . وهذا غلط لوجوه :
أحدها : أن الله لم يأذن في القتال بمكة .
الثاني : أن السياق يدل على أن الإذن بعد إخراجهم من ديارهم بغير حق .
الثالث : أن قوله : ! 2 < هذان خصمان اختصموا في ربهم > 2 ! الآية نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر .
الرابع : أنه خاطبهم فيها ب ! 2 < يا أيها الذين آمنوا > 2 ! والخطاب بذلك كله مدني .
الخامس : أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعم اليد وغيره ، ولا ريب أن الأمر المطلق بالجهاد بعد الهجرة .
السادس : أن الحاكم روى في ‘ مستدركه ‘ عن ابن عباس بإسناد على شرطهما ، قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن ، فأنزل الله عز وجل : ! 2 < أذن للذين يقاتلون > 2 ! الآية وهي أول آية نزلت في القتال . انتهى .
وسياق السورة يدل على أن فيها المكي والمدني ، فإن قصة إلقاء الشيطان في أمنيّته مكية ، والله أعلم .
ثم فرض عليهم القتال لمن قاتلهم ، فقال تعالى : ! 2 < وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم > 2 ! ‘ سورة البقرة : 190 ‘ ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة وكان محرماً ، ثم مأذوناً به ، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأموراً به لجميع المشركين ، إما فرض عين على أحد القولين ، أو كفاية على المشهور .
والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين ، إما بالقلب ، وإما باللسان ، وإما باليد ، وإما بالمال ، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنوع ، وأما الجهاد بالنفس ، ففرض كفاية ، وأما بالمال ، ففي وجوبه قولان ، والصحيح وجوبه ، لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء ، وعلق النجاة من النار والمغفرة ، ودخول الجنة به ، فقال تعالى : ! 2 < يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم > 2 ! الآيات ‘ سورة الصف : 10 ‘ وأخبر سبحانه أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وأعاضهم عليها الجنة ، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه ، ثم أكده بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى ، ثم أكده بأن أمرهم أن يستبشروا بذلك ، ثم أعلمهم بأنه هو الفوز العظيم ، فليتأمل العاقل مع ربه ما أجلَّ هذا العقد ، فإن الله عز وجل هو المشتري ، والثمن الجنة ، والذي جرى على يديه هذا العقد أشرف رسله ، من الملائكة ومن البشر ، وإن سلعة هذا شأنها لقد هُيِّئت لأمر عظيم . % ( قد هيؤوك لأمر لو فطنت له % فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل ) %
مهر الجنة والمحبة بذل النفس والمال لمالكهما ، فما للجَبَان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة ، بالله ما هزلت فيستامها المفلسون ، ولا كسدت فينفقها بالنسيئة المعسرون ، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد ، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس ، فتأخر البطالون ، وقام المحبُّون ينتظرون أيهم يصلح أن تكون نفسه الثمن ، فدارت السلعة بينهم ، ووقعت في يد ! 2 < أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين > 2 ! ‘ المائدة : 57 ‘ .
لما كثر المدّعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة ، فلو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى الخلي حُرقة الشجي ، فتنوع المدّعون في الشهود ، فقيل : لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة ! 2 < قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله > 2 ! ‘ سورة آل عمران : 31 ‘ فتأخر الخلق كلهم ، وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله ، وهديه وأخلاقه ، وطولبوا بعدالة البينة ، فقيل : لا تقبل العدالة إلا بتزكية ! 2 < يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم > 2 ! ‘ سورة المائدة : 57 ‘ فتأخر أكثر المدعين للمحبة ، وقام المجاهدون ، فقيل لهم : إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم ، فسلموا ما وقع عليه العقد ، وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين .
فلما رأى التجار عظمة المشتري ، وقدر الثمن ، وجلالة من جرى العقد على يديه ، ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه ، عرفوا أنّ للسلعة شأناً ليس لغيرها ، فرأوا من الغَبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة ، تذهب لذتها ، وتبقى تبعتها ، فعقدوا مع المشتري بيعةَ الرضوان من غير خيار ، فلما تم العقد وسلموا المبيع ، قيل : قد صارت نفوسكم وأموالكم لنا ، والآن قد رددناها عليكم أوفر ما كانت ، وأضعاف أموالكم معها ! 2 < ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا > 2 ! الآية ‘ سورة آل عمران : 169 ‘ لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم إلا ليظهَر الجود والكرم في قبول البيع والإعطاء عليه أجل الأثمان ، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن .
وتأمل قصة جابر وجمله كيف وفاه الثمن ، وزاده ، ورد عليه البعير ، فذكّره بهذا حال الله مع أبيه ، وأخبره أن الله أحياه وكلمه كفاحاً ، وقال : ‘ يا عبدي تمن عليَّ أعطك ‘ فسبحان من عظمَ جوده وكرمه أن يحيط به الخلائق لقد أعطى السلعة وأعطى الثمن ووفق لتكميل العقد ، وقبل المبيع على عيبه ، وأعطى عليه أجلَّ الأثمان ، واشترى عبده من نفسه بماله ، وجمع له بين الثمن والمثمن ، وأثنى عليه ، ومدحه بهذا العقد ، وهو الذي وفقه له وشاءه منه :
فحي هلاً إن كنت ذا همةٍ فقد
حدى بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم
إذا ما دعى لبّيك ألفاً كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن
نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
وخذ منهم زاداً إليهم وسر على
طريق الهدى والحب تصبح واصلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد
ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وأحي بذكراهم سراك إذا ونت
ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها
أمامكِ ورد الوصف فابغي المناهلا
وخذ قبساً من نورهم ثم سر به
فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحيّ على واد الأراك فقل به
عساك تراهم ثم إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عند معرف الأحبة
فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن
تفت فمنى يا ويح من كان غافلا
وحيّ على جنات عدن فإنها
منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا
وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
وحيّ على يوم المزيد بجنةِ الخلود
فجد بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رسوماً دارساتٍ فما بها
مقيل وجاوزها فليست منازلا
وخذ يمنةً عنها على المنهج الذي
عليه سرى وفد المحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة
فعند اللقا ذا الكد يُصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي
ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية ، والهمم العالية ، وأسمع منادي الإيمان مَن كانت له أذن واعية وأسمع والله من كان حياً ، فهزَّه السماع إلى منازل الأبرار وحدا به في طريق سيره ، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار .
فقال : ‘ انتدب الله لمن خرج في سبيله ، لا يخرجه إلا إيمان بي ، وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ، ولولا أن أشق على أمتي ، ما قعدت خلف سرية ، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ، ثم أحيا ، ثم أقتل ، ثم أحيا ، ثم أقتل ‘ .
وقال : ‘ مثل المجاهد في سبيل الله ، كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله ، لا يفتر عن صيام ولا صلاة حتى يرجع ‘ . وقال : ‘ غدوة في سبيل الله ، أو روحة ، خير من الدنيا وما فيها ‘ وقال : ‘ الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم ‘ .
وقال : أنا زعيم – أي : كفيل – لمن آمن بي وأسلم ، وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة ، وبيت في وسط الجنة ، وبيت في أعلى الجنة ، من فعل ذلك لم يدع للخير مطلباً ، ولا من الشر مهرباً ، يموت حيث شاء أن يموت ‘ .
وقال : ‘ من قاتل في سبيل الله – من رجل مسلم – فواق ناقة ، وجبت له الجنة ‘ .
وقال : ‘ إن في الجنة مائة درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله بين كل درجتين ، كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله ، فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة ‘ .
وقال : من أعان مجاهداً في سبيل الله ، أو غارماً في غرمه ، أو مكاتباً في رقبته ، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ‘ وقال : ‘ من اغبرت قدماه في سبيل الله ، حرّمها الله على النار ‘ وقال : ‘ لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ، ودخان جهنم في وجه عبد ‘ .
وقال : ‘ رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأُجري عليه رزقه ، وأمن الفتّان ‘ وقال لرجل حرس المسلمين ليلة على ظهر فرسه من أولها إلى الصباح لم ينزل إلا لصلاة أو قضاء حاجة ‘ قد أوجبت ، فلا عليك ألا تعمل بعدها ‘ .
وذكر أبو داود عنه : ‘ من لم يغز ، ولم يجهز غازياً ، أو يخلف غازياً في أهله بخير ، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة ‘ .
وفسر أبو أيوب الأنصاري الإلقاء باليد إلى التهلكة بترك الجهاد .
وصح عنه : أن النار أول ما تُسعر بالعالم والمنفق والمقتول في الجهاد إذا فعلوا ذلك ليقال .