مختصر زاد المعاد لابن القيم
الإسراء والمعراج
( فصل ) | ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى البيت المقدس راكباً على البراق صحبة جبرائيل ، فنزل هناك ، وصلى بالأنبياء إماماً ، وربط البراق بحلقة باب المسجد ، وقيل : إنه نزل بيت لحم ، ولا يصح عنه ذلك ألبتة .
ثم عُرِجَ به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبرائيل ، ففتح لهما ، فرأى هناك آدم أبا البشر صلى الله عليه وسلم ، فسلم عليه ، فرد عليه السلام ، ورحب به ، وأقر بنبوته ، وأراه الله أرواح السعداء من بنيه عن يمينه ، وأرواح الأشقياء عن يساره .
ثم عرج به إلى السماء الثانية ، فرأى فيها يحيى وعيسى ،
ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف ،
ثم إلى الرابعة ، فرأى فيها إدريس ،
ثم إلى الخامسة ، فلقي فيها هارون ،
ثم إلى السادسة ، فلقيَ فيها موسى ، فلما جاوزه بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : لأن غلاماً بُعِثَ بعدي يدخل الجنة من أُمته أكثر ممن يدخلها من أُمتي ،
ثم إلى السابعة ، فلقي فيها إبراهيم ، ثم رفعت له سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور ، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله ، فدنا منه حتى (كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) .
وفرض عليه خمسين صلاة ، فرجع حتى مرّ على موسى فقال :
بمَ أُمِرْت ؟ قال : ‘ بخمسين صلاة ‘ قال : إن أمتك لا تطيق ذلك ، ارجع إلى ربك ، فاسأله التخفيف لأمتك ، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره ، فأشار : أن نعم إن شئت .
فعلا به جبرائيل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو مكانه . هذا لفظ البخاري في ‘ صحيحه ‘ .
وفي بعض الطرق : فوضع عنه عشراً ، ثم نزل حتى مر بموسى ، فأخبره ، فقال : ارجع إلى ربك ، فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمساً فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف .
قال : ‘ قد استحييت من ربي ، ولكني أرضى وأسلم ‘ فلما نفذ ، نادى مناد : ‘ قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ‘ .
واختلف الصحابة : هل رأى ربه تلك الليلة أم لا ؟ فصح عن ابن عباس أنه رآه ، وصح عنه أنه قال : رآه بفؤاده ، وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك ، وقالا : إن قوله ! 2 < ولقد رآه نزلة أخرى > 2 ! إنما هو جبرائيل ، وصح عن أبي ذر أنه سأله : هل رأيت ربك ؟ قال : ‘ نور أنى أراه ‘ أي : حال بيني وبين رؤيته النور ، كما في اللفظ الآخر : ‘ رأيت نوراً ‘ .
وحكى الدارمي اتفاق الصحابة أنه لم يره .
قال شيخ الإسلام : وليس قول ابن عباس مناقضاً لهذا ، ولا قوله : رآه بفؤاده . وقد صح عنه : ‘ رأيت ربي تبارك وتعالى ‘ لكن هذا في المدنية في منامه .
وعلى هذا بنى الإمام أحمد ، فقال : نعم رآه ، فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بد ، ولم يقل : إنه رآه في يقظته ، لكن مرة قال : رآه ، ومرة قال : رآه بفؤاده ، وحكيت عنه رواية من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه ، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك ، وأما قوله ابن عباس : إنه رآه بفؤاده مرتين ، فإن كان استناده إلى قوله : ما كذب الفؤاد ما رأى .. ثم قال : ولقد رآه نزلة أخرى..
والظاهر أنه مستنده ، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبرائيل رآه في صورته مرتين ، وقول ابن عباس هذا ، هو مستند أحمد في قوله : رآه بفؤاده .
وأما قوله : ^ ( ثم دنى فتدلى ) ^ فهذا غير الدّنوّ والتدلي في قصة الإسراء ، فالذي في القرآن جبرائيل كما قالت عائشة وابن مسعود ، والسياق يدل عليه ، فإنه قال : ! 2 < علمه شديد القوى > 2 ! إلى آخره .
وأما ‘ الدنوّ ‘ و ‘ التدلي ‘ في الحديث ، فهو صريح أنه دنوّ الرب تبارك وتعالى وتدلّيه .
فلما أصبح صلى الله عليه وسلم في قومه ، أخبرهم ، فاشتد تكذيبهم له ، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس ، فجلاه الله حتى عاينه ، وطفق يخبرهم عنه ، ولا يستطيعون أن يردوا عليه ، وأخبرهم عن عيرهم ، في مسراه ورجوعه ، وعن وقت قدومها ، والبعير الذي يقدمها ، فكان الأمر كما قال ، فلم يزدهم ذلك إلا ثبوراً .
ونقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا : إن الإسراء بروحه ، ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال : كان الإسراء مناماً ، وبين ذلك وبينهما فرق عظيم ، وهما لم يقولا إن الإسراء كان مناماً فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة ، فيرى كأنه قد عُرج به إلى السماء ، أو ذُهب به إلى مكة ، وروحه لم تصعد ، ولم يذهب ، وإنما مَلك الرؤيا ضرب له المثال ، والذين قالوا : عُرج بروحه .
لم يريدوا أنه كان مناماً ، وإنما أرادوا أن الروح عُرج بها حقيقة ، وباشرت منه جنس ما تباشر بعد المفارقة ،
لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد حتى يشق بطنه وهو حي لا يتألم ، عُرج بذات روحه حقيقة من غير إماتة ، ومن سواه لا تنال روحه ذلك إلا بعد الموت ، فإن الأنبياء إنما استقرت أرواحهم في الرفيق الأعلى بعد موتهم ،
ومع هذا فلها إشراف على البدن بحيث يرد السلام على من سلم عليه ، وبهذا التعلق رأى موسى يصلي في قبره ، ورآه في السماء .
ومعلوم أنه لم يعرج به من قبره ، ثم رد عليه ، بل ذلك مقام روحه واستقرارها ، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى معاد الأرواح إلى أجسادها ، ومن كثف إدراكه عن هذا ، فلينظر إلى الشمس في علو محلها وتأثيرها في الأرض وحياة النبات والحيوان بها ، وشأن الروح فوق هذا .
( فَقُلْ للعيونِ الرُّمدِ إياكِ أن تَري *** سَنَا الشّمْسِ فاسْتَغْشي ظلام اللّياليا )
قال ابن عبد البر : كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى .
وكان الإسراء مرة ، وقيل : مرتين ، مرة يقظة ، ومرة مناماً ، وأرباب هذا كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وغيره ، لقوله فيه : ‘ ثم استيقظت وأنا في المسجد ‘ وقوله فيه : ‘ وذلك قبل أن يوحى إليه ‘ ومنهم من قال : ثلاث مرات .
وكل هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل ، والصواب الذي عليه أئمة أهل النقل أن الإسراء كان مرة واحدة ، ويا عجباً لهؤلاء كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تُفرض عليه الصلاة خمسين .
وقد غلّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء ، ومسلم أورد المسند منه ، ثم قال : فقدّم وأخّر وزاد ونقص .
ولم يسرد الحديث ، وأجاد رحمه الله .