كتاب الطب النبوي لابن القيم
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْأَدْوَاءِ الْمُعْدِيَةِ بِطَبْعِهَا وَإِرْشَادِهِ الْأَصِحَّاءَ إِلَى مُجَانَبَةِ أَهْلِهَا
ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مسلم» مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارجع فقد بايعناك» «2» .
(1) القولنج: مرض معوي مؤلم يعسر معه خروج التفل والريح
(2) أخرجه مسلم في السلام، وأخرجه ابن ماجه وأحمد وابن خزيمة وابن جرير عن عمرو بن الشريد عن أبيه
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ» «1» .
وَفِي «سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُدِيمُوا النَّظَرَ إِلَى الْمَجْذُومِينَ» «2» .
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» «3» .
وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلِّمِ الْمَجْذُومَ، وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَيْدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ» «4» .
الْجُذَامُ: عِلَّةٌ رَدِيئَةٌ تَحْدُثُ مِنَ انْتِشَارِ الْمِرَّةِ السَّوْدَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ، فَيَفْسُدُ مِزَاجُ الْأَعْضَاءِ وَهَيْئَتُهَا وَشَكْلُهَا، وَرُبَّمَا فَسَدَ فِي آخِرِهِ اتِّصَالُهَا حَتَّى تَتَأَكَّلَ الْأَعْضَاءُ وَتَسْقُطَ وَيُسَمَّى دَاءَ الْأَسَدِ.
وَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْأَطِبَّاءِ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لِكَثْرَةِ مَا تَعْتَرِي الْأَسَدَ.
وَالثَّانِي: لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ تُجَهِّمُ وَجْهَ صَاحِبِهَا وَتَجْعَلُهُ فِي سَحْنَةِ الْأَسَدِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَفْتَرِسُ مَنْ يَقْرَبُهُ، أَوْ يَدْنُو مِنْهُ بِدَائِهِ افْتِرَاسَ الْأَسَدِ.
وَهَذِهِ الْعِلَّةُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ مِنَ الْعِلَلِ الْمُعْدِيَةِ الْمُتَوَارَثَةِ، وَمُقَارِبُ الْمَجْذُومِ، وَصَاحِبِ السُّلِّ يَسْقَمُ بِرَائِحَتِهِ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَنُصْحِهِ لَهُمْ نَهَاهُمْ عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعَرِّضُهُمْ لِوُصُولِ الْعَيْبِ وَالْفَسَادِ إِلَى أَجْسَامِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ،
وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ تَهَيُّؤٌ وَاسْتِعْدَادٌ كَامِنٌ لِقَبُولِ هَذَا الدَّاءِ، وَقَدْ تَكُونُ الطَّبِيعَةُ سَرِيعَةَ الِانْفِعَالِ قَابِلَةً لِلِاكْتِسَابِ مِنْ أَبْدَانِ مَنْ تُجَاوِرُهُ وَتُخَالِطُهُ، فَإِنَّهَا نَقَّالَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ خَوْفُهَا مِنْ ذَلِكَ وَوَهْمُهَا مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ إِصَابَةِ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَهَا، فَإِنَّ الْوَهْمَ فَعَّالٌ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ،
وَقَدْ تَصِلُ رَائِحَةُ الْعَلِيلِ إِلَى الصَّحِيحِ فَتُسْقِمُهُ، وَهَذَا مُعَايَنٌ فِي بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، وَالرَّائِحَةُ أَحَدُ أَسْبَابِ الْعَدْوَى،
وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ اسْتِعْدَادِ الْبَدَنِ وَقَبُولِهِ لِذَلِكَ الدَّاءِ، وَقَدْ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً، فَلَمَّا أَرَادَ الدُّخُولَ بِهَا، وَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا، فَقَالَ: «الحقي بأهلك» «5» .
(1) أخرجه البخاري في الطب، وأخرجه موصولا أبو نعيم في مستخرجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما
(2) أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن ابن عباس
(3) أخرجه البخاري في الطب، ومسلم في السلام. وأبو داود وابن ماجه وأحمد والبيهقي وابن جرير
(4) أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد، وأخرجه ابن السني وأبو نعيم في الطب وصنعّفه.
(5) أخرجه الإمام أحمد
وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُعَارَضَةٌ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ تُبْطِلُهَا وَتُنَاقِضُهَا، فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الترمذي، مِنْ حَدِيثِ جابر»
، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم آخذ بِيَدِ رَجُلٍ مَجْذُومٍ، فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ، وَقَالَ: «كُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ» ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَبِمَا ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ»
وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَيْنَ أَحَادِيثِهِ الصَّحِيحَةِ. فَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ مَعَ كَوْنِهِ ثِقَةً ثَبْتًا، فَالثِّقَةُ يَغْلَطُ، أَوْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ إِذَا كَانَ مِمَّا يَقْبَلُ النَّسْخَ،
أَوْ يَكُونُ التَّعَارُضُ فِي فَهْمِ السَّامِعِ، لَا فِي نَفْسِ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ صَرِيحَانِ مُتَنَاقِضَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَيْسَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ، فَهَذَا لَا يُوجَدُ أَصْلًا، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ إِلَّا الْحَقُّ،
وَالْآفَةُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَمَعْلُولِهِ، أَوْ مِنَ الْقُصُورِ فِي فَهْمِ مُرَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى غَيْرِ مَا عَنَاهُ بِهِ، أَوْ مِنْهُمَا مَعًا، وَمِنْ ها هنا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفَسَادِ مَا وَقَعَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ ابن قتيبة فِي كِتَابِ «اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ» لَهُ حِكَايَةً عَنْ أَعْدَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ، قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ رَوَيْتُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ» . وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النُّقْبَةَ تَقَعُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ، فَيَجْرَبُ لِذَلِكَ الْإِبِلُ.
قَالَ: «فَمَا أَعْدَى الْأَوَّلَ» «2» ، ثُمَّ رَوَيْتُمْ «لَا يُورَدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ» ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ بَيْعَةَ الإسلام، فأرسل إليه البيعة، وأمره بِالِانْصِرَافِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَقَالَ: «الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ. قَالُوا:
وَهَذَا كُلُّهُ مُخْتَلِفٌ لا يشبه بعضه بعا.
قَالَ أبو محمد: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ، وَلِكُلِّ مَعْنًى مِنْهَا وَقْتٌ وَمَوْضِعٌ، فَإِذَا وُضِعَ مَوْضِعَهُ زَالَ الِاخْتِلَافُ.
(1) أخرجه الترمذي في الأطعمة، وأبو داود في الطب، وابن ماجه في الطب وَقَالَ الترمذي: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ المفضل بن فضالة، والمفضل قال فيه ابن معين: ليس بذاك. أي ضعيف.
(2) أخرجه الإمام أحمد
وَالْعَدْوَى جِنْسَانِ: أَحَدُهُمَا: عَدْوَى الْجُذَامِ، فَإِنَّ الْمَجْذُومَ تَشْتَدُّ رَائِحَتُهُ حَتَّى يُسْقِمَ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَتَهُ وَمُحَادَثَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ تَحْتَ الْمَجْذُومِ، فَتُضَاجِعُهُ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ، فَيُوصِلُ إِلَيْهَا الْأَذَى، وَرُبَّمَا جُذِمَتْ،
وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ يَنْزِعُونَ فِي الْكِبَرِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ سِلٌّ وَدِقٌّ وَنُقْبٌ. وَالْأَطِبَّاءُ تَأْمُرُ أَنْ لَا يُجَالَسَ الْمَسْلُولُ وَلَا الْمَجْذُومُ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَعْنَى الْعَدْوَى، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى تَغَيُّرِ الرَّائِحَةِ، وَأَنَّهَا قَدْ تُسْقِمُ مَنْ أَطَالَ اشْتِمَامَهَا،
وَالْأَطِبَّاءُ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ بِيُمْنٍ وَشُؤْمٍ، وَكَذَلِكَ النُّقْبَةُ تَكُونُ بِالْبَعِيرِ- وَهُوَ جَرَبٌ رَطْبٌ- فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِلَ أَوْ حَاكَّهَا، وَأَوَى فِي مَبَارِكِهَا، وَصَلَ إِلَيْهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يَسِيلُ مِنْهُ، وَبِالنَّطَفِ نَحْوَ مَا بِهِ،
فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُورَدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ» ، كَرِهَ أَنْ يُخَالِطَ الْمَعْيُوهُ الصَّحِيحَ، لِئَلَّا يَنَالَهُ مِنْ نَطَفِهِ وَحِكَّتِهِ نَحْوٌ مِمَّا بِهِ.
قَالَ: وَأَمَّا الْجِنْسُ الْآخَرُ مِنَ الْعَدْوَى، فَهُوَ الطَّاعُونُ يَنْزِلُ بِبَلَدٍ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ خَوْفَ الْعَدْوَى، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَقَعَ بِبَلَدٍ، وَأَنْتُمْ بِهِ، فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ، فَلَا تَدْخُلُوهُ» .
يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْبَلَدِ إِذَا كَانَ فِيهِ كَأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ يُنْجِيكُمْ مِنَ اللَّهِ، وَيُرِيدُ إِذَا كَانَ بِبَلَدٍ، فَلَا تَدْخُلُوهُ،
أَيْ: مَقَامُكُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا طَاعُونَ فِيهِ أَسْكَنُ لِقُلُوبِكُمْ، وَأَطْيَبُ لِعَيْشِكُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُعْرَفُ بِالشُّؤْمِ أَوِ الدَّارُ، فَيَنَالُ الرَّجُلَ مَكْرُوهٌ أَوْ جَائِحَةٌ، فَيَقُولُ:
أَعَدَتْنِي بِشُؤْمِهَا، فَهَذَا هُوَ الْعَدْوَى الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا عَدْوَى» «1»
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلِ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ الْمَجْذُومِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالِاخْتِيَارِ، وَالْإِرْشَادِ.
وَأَمَّا الْأَكْلُ مَعَهُ، فَفَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلِ الْخِطَابُ بِهَذَيْنِ الْخِطَابَيْنِ جُزْئِيٌّ لَا كُلِّيٌّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ خَاطَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، فَبَعْضُ النَّاسِ يكون قويّ الإيمان، قويّ التوكل
(1) أخرجه الإمام مالك، والبخاري في النكاح، ومسلم في السلام والترمذي
تَدْفَعُ قُوَّةُ تَوَكُّلِهِ قُوَّةَ الْعَدْوَى، كَمَا تَدْفَعُ الطَّبِيعَةِ قُوَّةَ الْعِلَّةِ فَتُبْطِلُهَا، وَبَعْضُ النَّاسِ لَا يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ، فَخَاطَبَهُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالتَّحَفُّظِ،
وَكَذَلِكَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ الْحَالَتَيْنِ مَعًا، لِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمَّةُ فِيهِمَا، فَيَأْخُذَ مَنْ قَوِيَ مِنْ أُمَّتِهِ بِطَرِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَالْقُوَّةِ وَالثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَيَأْخُذَ مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ بِطَرِيقَةِ التَّحَفُّظِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَهُمَا طَرِيقَانِ صَحِيحَانِ.
أَحَدُهُمَا: لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ، وَالْآخَرُ لِلْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، فَتَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ حُجَّةٌ وَقُدْوَةٌ بِحَسَبِ حَالِهِمْ وَمَا يُنَاسِبُهُمْ،
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوَى، وَأَثْنَى عَلَى تَارِكِ الْكَيِّ، وَقَرَنَ تَرْكَهُ بِالتَّوَكُّلِ،
وَتَرَكَ الطِّيَرَةَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لَطِيفَةٌ حَسَنَةٌ جِدًّا مَنْ أَعْطَاهَا حَقَّهَا، وَرُزِقَ فِقْهَ نَفْسِهِ فِيهَا، أَزَالَتْ عَنْهُ تَعَارُضًا كَثِيرًا يَظُنُّهُ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ.
وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ مِنْهُ، وَمُجَانَبَتِهِ لِأَمْرٍ طَبِيعِيٍّ، وَهُوَ انْتِقَالُ الدَّاءِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالرَّائِحَةِ إِلَى الصَّحِيحِ،
وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَكْرِيرِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَامَسَةِ لَهُ، وَأَمَّا أَكْلُهُ مَعَهُ مِقْدَارًا يَسِيرًا مِنَ الزَّمَانِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، فَلَا بَأْسَ بِهِ،
وَلَا تَحْصُلُ الْعَدْوَى مِنْ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، فَنَهَى سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَحِمَايَةً لِلصِّحَّةِ، وَخَالَطَهُ مُخَالَطَةً مَا لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَجْذُومُ الَّذِي أَكَلَ مَعَهُ بِهِ مِنَ الْجُذَامِ أَمْرٌ يَسِيرٌ لَا يُعْدِي مِثْلُهُ، وَلَيْسَ الْجَذْمَى كُلُّهُمْ سَوَاءً، وَلَا الْعَدْوَى حَاصِلَةٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا تَضُرُّ مُخَالَطَتُهُ، وَلَا تُعْدِي، وَهُوَ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، ثُمَّ وَقَفَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ، وَلَمْ يُعْدِ بَقِيَّةَ جِسْمِهِ، فهو أن يُعْدِيَ غَيْرَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: إِنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَاضَ الْمُعْدِيَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ،
فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ، وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي،
وَنَهَى عَنِ الْقُرْبِ مِنْهُ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مُفْضِيَةً إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا،
فَفِي نَهْيِهِ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ، وَفِي فِعْلِهِ بَيَانُ أَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِشَيْءٍ، بَلِ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ إِنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا، فَلَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَإِنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَيْهَا قُوَاهَا فَأَثَّرَتْ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، فَيُنْظَرُ فِي تَارِيخِهَا، فَإِنْ عُلِمَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهَا، حُكِمَ بِأَنَّهُ النَّاسِخُ، وَإِلَّا توقفنا فيها.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: بَلْ بَعْضُهَا مَحْفُوظٌ، وَبَعْضُهَا غير محفوظ، وتكلمات فِي حَدِيثِ «لَا عَدْوَى» ، وَقَالَتْ: قَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ أَوَّلًا، ثُمَّ شَكَّ فِيهِ فَتَرَكَهُ، وَرَاجَعُوهُ فِيهِ، وَقَالُوا: سَمِعْنَاكَ تُحَدِّثُ بِهِ، فَأَبَى أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ.
قَالَ أبو سلمة: فَلَا أَدْرِي، أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَمْ نَسَخَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَ؟
وَأَمَّا حَدِيثُ جابر: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ، فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ، فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَصِحُّ، وَغَايَةُ مَا قَالَ فِيهِ الترمذي: إِنَّهُ غَرِيبٌ، لَمْ يُصَحِّحْهُ وَلَمْ يُحَسِّنْهُ. وَقَدْ قَالَ شعبة وَغَيْرُهُ: اتَّقُوا هَذِهِ الْغَرَائِبَ.
قَالَ الترمذي: وَيُرْوَى هَذَا مِنْ فِعْلِ عمر، وَهُوَ أَثْبَتُ، فَهَذَا شَأْنُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ عُورِضَ بِهِمَا أَحَادِيثُ النَّهْيِ، أَحَدُهُمَا: رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ التَّحْدِيثِ بِهِ وَأَنْكَرَهُ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ «الْمِفْتَاحِ» بِأَطْوَلَ مِنْ هذا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.