جامع العلوم والحكم
في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم
ابن رجب الحنبلي
الحديث الثالث والثلاثون
عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْواهُم ، لادَّعى رِجالٌ أموالَ قَومٍ ودِماءهُم ولكن البَيِّنَةُ على المُدَّعي واليَمينُ على مَنْ أَنْكر )) . حديثٌ حسنٌ ، رواهُ البَيهقيُّ وغيرُهُ هكذا ، وبَعضُهُ في
” الصحيحين ” .
أصلُ هذا الحديث خرَّجاه في ” الصحيحين ” ([1]) من حديث ابن جريج ، عن ابن أبي مُليكة ، عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( لو يُعطى النَّاسُ بدعواهم ، لادَّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم ، ولكن اليمين على المدَّعى عليه )) .
وخرَّجاه ([2]) أيضاً من رواية نافع بنِ عمر الجمحي ، عن ابن أبي مُليكة ، عن ابن عباس : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قضى أنَّ اليمين على المدَّعى عليه .
واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساقه ابنُ الصَّلاح قبله في الأحاديث الكليات ، وقال : رواه البيهقي ([3]) بإسناد حسن .
وخرَّجه الإسماعيلي في ” صحيحه ” ([4]) من رواية الوليد بن مسلم ، حدثنا ابنُ جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( لو يُعطى الناسُ بدعواهم ، لادَّعى رجالٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم ، ولكنَّ البيِّنةَ على الطَّالب ، واليمين على المطلوب )) .
وروى الشَّافعي ([5]) : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مُليكة ، عن ابن عباس : أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : (( البينة على المُدَّعي )) قال
الشافعي ([6]) : وأحسبه – ولا أُثبته – أنَّه قال : (( واليمين على المُدَّعى عليه )) .
وروى محمد بن عمر بن لُبابة الفقيه الأندلسيُّ ، عن عثمان بن أيوب الأندلسيِّ – ووصفه بالفضل – ، عن غازي بن قيس ، عن ابن أبي مُليكة ، عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث ، وقال : (( لكن البينة على منِ ادَّعى ، واليمين على من أنكر )) وغازي بن قيس الأندلسي كبيرٌ صالح ، سمع من مالكٍ وابن جريج وطبقتِهما ، وسقط من هذا الإسناد ابنُ جريج ، والله أعلم .
وقد استدلَّ الإمام أحمد وأبو عبيد بأنّ النَّبيَّصلى الله عليه وسلم قال : (( البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر )) ، وهذا يدلُّ على أنَّ اللفظ عندهما صحيحٌ محتجٌّ به ، وفي المعنى أحاديث كثيرة ، ففي ” الصحيحين ” ([7]) عن الأشعث بن قيس ، قال : كان بيني وبين رجلٍ خصومةٌ في بئرٍ ، فاختصمنا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( شاهداك أو يمينه )) ، قلت : إذاً يحلِفُ ولا يُبالي ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( من حلف على يمينٍ يستحقُّ بها مالاً هو فيها فاجرٌ ، لَقِي الله وهو عليه غضبان )) ، فأنزل الله تصديقَ ذلك ، ثم اقترأ هذه الآية : } إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً (([8]) وفي رواية لمسلم بعد قوله : (( إذاً يحلفُ )) قال : (( ليس لك إلاّ ذلك )) . وخرَّجه أيضاً مسلم ([9]) بمعناه من حديث وائلِ بنِ حجر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
وخرَّج الترمذي ([10]) من حديث العَرْزَمي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جَدِّهِ ، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، قال في خطبته : (( البيِّنةُ على المدَّعي ، واليمينُ على المُدَّعى عليه )) ، وقال : في إسناده مقال ، والعَرْزَميُّ يضعف في الحديث من قبل حفظه . وخرَّج الدارقطني ([11]) من رواية مسلم بن خالد الزنجي – وفيه ضعف – ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( البيِّنة على المدَّعي ، واليمين على من أنكر ، إلاَّ في القسامة )) . ورواه الحفاظ ([12]) عن ابن جريج ، عن عمرو مرسلاً .
وخرَّجه أيضاً ([13]) من رواية مجاهد عن ابن عمر ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في خطبته يومَ الفتح : (( المُدَّعى عليه أولى باليمين إلا أن تقومَ بيِّنة )) ، وخرَّجه الطبراني، وعنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وفي إسناده كلام . وخرَّج الدارقطني هذا المعنى من وجوه متعددة ضعيفة .
وروى حجاج الصَّوَّافُ ، عن حميد بن هلال ، عن زيد بن ثابت ، قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أيُّما رَجُلٍ طلبَ عندَ رجل طلبة ، فإنَّ المطلوب هو أولى باليمين )) ([14]) . خرَّجه أبو عبيد والبيهقي ، وإسناده ثقات ، إلا أنَّ حميدَ بنَ هلال ما أظنُّه لقيَ زيدَ بن ثابتٍ ، وخرَّجه الدارقطني ، وزاد فيه (( بغير شهداء )) .
وخرّج النسائي ([15]) من حديث ابن عباس ، قال : جاء خصمان إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ،
فادّعى أحدُهما على الآخر حقاً ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للمدَّعي : (( أقم بيِّنَتَك )) ، فقال :
يا رسول الله ، ما لي بينة ، فقال للآخر : (( احلِف بالله الذي لا إله إلا هو : ما له عَلَيكَ أو عِندَكَ شيء )) .
وقد رُوي عن عمر أنَّه كتب إلى أبي موسى : أن البيِّنة على المدَّعي ، واليمين على من أنكر ([16]) . وقضى بذلك زيد بن ثابت على عمر لأبيِّ بنِ كعب ولم
ينكراه ([17]) .
وقال قتادة : فصلُ الخطاب الذي أوتيه داود u : هو أنَّ البيِّنة على المدَّعي ، واليمين على من أنكر ([18]) .
قال ابنُ المنذر ([19]) : أجمع أهلُ العلم على أن البيِّنَةَ على المدعي ، واليمين على
المدعى عليه ، قال : ومعنى قوله : (( البيِّنة على المدَّعِي )) يعني : يستحقُّ بها ما ادَّعى ، لأنَّها واجبةٌ عليه يؤخذ بها ، ومعنى قوله : (( اليمين على المدَّعى عليه )) أي : يبرأُ بها ، لأنَّها واجبةٌ عليه ، يؤخَذُ بها على كلِّ حالٍ . انتهى .
وقد اختلف الفقهاءُ من أصحابنا والشَّافعية في تفسير المدَّعي والمدَّعى عليه .
فمنهم من قال : المدَّعي : هو الذي يُخلَّى وسكوته من الخصمين ، والمدَّعى عليه : من لا يُخلى وسكوته منهما .
ومنهم من قال : المدَّعِي : من يطلبُ أمراً خفيّاً على خلاف الأصل أو الظاهر ، والمدَّعى عليها بخلافه ([20]) .
وبَنَوا على ذلك مسألةً ، وهي : إذا أسلمَ الزَّوجانِ الكافران قبلَ الدُّخول ، ثم اختلفا ، فقال الزوج : أسلمنا معاً ، فنكاحُنا باقٍ ، وقالت الزوجةُ : بل سبَق أحدُنا إلى الإسلام ، فالنِّكاح مُنفسخٌ ، فإن قلنا : المدعي من يُخلى وسكوته ، فالمرأةُ هي المدَّعي ، فيكون القولُ قولَ الزوج ، لأنه مدَّعى عليه ؛ إذ لا يخلَّى وسكوته ، وإن قلنا : المدعي من يدعي أمراً خفياً ، فالمدعي هنا هو الزوج ، إذ التقارن في الإسلام خلاف الظاهر ، فالقولُ قولُ المرأة ؛ لأن الظَّاهر معها .
وأما الأمينُ إذا ادعى التَّلف ، كالمودَع إذا ادَّعى تلفَ الوديعة ، فقد قيل : إنَّه
مدَّعٍ ؛ لأنَّ الأصلَ يُخالِفُ ما ادَّعاه ، وإنَّما لم يحتج إلى بينةٍ ، لأنَّ المودعَ ائتمنه ، والائتمان يقتضي قَبُولَ قوله .
وقيل : إنَّ المدعي الذي يحتاج إلى بيّنة هو المدعي ، ليُعطى بدعواه مالَ قوم أو دماءهم ، كما ذكر ذلك في الحديث ، فأمَّا الأمينُ ، فلا يدعي ليُعطى شيئاً ، وقيل : بل هو مدَّعى عليه ؛ لأنَّه إذا سكت ، لم يترك ، بل لابدَّ له من ردِّ الجواب ، والمودع مدَّعٍ ؛ لأنَّه إذا سكت ترك ؛ ولو ادَّعى الأمينُ ردَّ الأمانة إلى من ائتمنه ؛ فالأكثرون على أنَّ قوله مقبولٌ أيضاً كدعوى التَّلف. وقال الأوزاعي : لا يُقبل قوله ، لأنَّه مدَّعٍ . وقال مالكٌ وأحمدُ في رواية : إنْ ثبت قبضُه للأمانة ببيِّنةٍ ، لم يقبل قولُه في الرَّدِّ بدون البينة ، ووَجَّهَ بعضُ أصحابنا ذلك بأنَّ الإشهادَ على دفع الحقوق الثابتة بالبيِّنةِ واجبٌ ، فيكونُ تركُه تفريطاً ، فيجب به الضَّمانُ ، وكذلك قال طائفةٌ منهم في دفع مال اليتيم إليه : لابدَّ له من بيِّنةٍ ؛ لأنَّ الله تعالى أمر بالإشهاد عليه فيكون واجباً .
وقد اختلف الفقهاءُ في هذا الباب على قولين :
أحدهما : أنَّ البيِّنَة على المدَّعِي أبداً . واليمين على المدَّعى عليه أبداً ، وهو قولُ أبي حنيفة ، ووافقه طائفةٌ مِنَ الفُقهاء والمحدِّثين كالبخاري ، وطرَّدوا ذلك في كلِّ دعوى ، حتى في القسامة ، وقالوا : لا يحلِفُ إلاَّ المدَّعى عليه ، ورأَوْا أنْ لا يُقضى بشاهد ويمين ؛ لأنَّ اليمينَ لا تكونُ على المدَّعي ، ورأوا أنَّ اليمينَ لا تُرد على المدعي ؛ لأنَّها لا تكونُ إلاَّ في جانب المُنكِر المدعى عليه . واستدلُّوا في مسألة القسامةِ بما رَوى سعيدُ بن عبيد ، حدثنا بُشيرُ بن يسارٍ الأنصاريُّ ، عن سهل بن أبي حثمة: أنَّه أخبرَه أنَّ نفراً منهمُ انطلقوا إلى خيبر، فتفرَّقوا فيها ، فوجدوا أحدَهم قتيلاً ، فذكر الحديثَ ، وفيه : فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( تأتوني بالبيِّنةِ على من قتله )) ، قالوا : ما لنا بيِّنةٌ ، قال : (( فيحلفون )) ، قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود ، فكره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُطَلَّ دمُهُ ، فوداه مئةً من إبل الصدقة . خرَّجه البخاري ([21]) ، وخرَّجه مسلم ([22]) مختصراً ولم يتمَّه ، ولكن هذه الرواية تُعارِض رواية يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة فذكر قصة القتيلِ ، وقال فيه : فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يُقسِمُ خمسون منكم على رجلٍ منهم ، فيدفع برُمته )) ، وهذه هي الرواية المشهورة الثابتة المخرَّجة بلفظها بكمالها في ” الصحيحين ” ([23]) . وقد ذكر الأئمَّة الحُفَّاظُ أنّ رواية يحيى بن سعيدٍ أصحُّ من رواية سعيد بن عُبيدٍ الطَّائي ، فإنَّه أجلُّ وأعلم وأحفظ ، وهو من أهل المدينة ، وهو أعلمُ بحديثهم من الكوفيِّين .
وقد ذَكَر الإمام أحمد مخالفة سعيد بن عبيد ليحيي بن سعيد في هذا الحديث ، فنفض يده ، وقال : ذاك ليس بشيءٍ ، رواه على ما يقول الكوفيون ، وقال : أذْهَبُ إلى حديث المدنيين يحيى بن سعيد . وقال النَّسائيُّ : لا نعلم أحداً تابعَ سعيد بن عُبيدٍ على روايته عن بشير بن يسار ، وقال مسلم في كتاب ” التمييز ” ([24]) : لم يحفظه سعيدُ بنُ عُبيدٍ على وجهه ؛ لأنَّ جميع الأخبار فيها سؤال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إيَّاهم قسامة خمسين يميناً ، وليس في شيء من أخبارهم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سألهم البيِّنَةَ ، وترك سعيد القسامة ، وتواطُؤُ الأخبارِ بخلافه يقضي عليه بالغلط ، وقد خالفه يحيى بن سعيد .
وقال ابن عبد البرّ ([25]) في رواية سعيد بن عبيد : هذه روايةُ أهل العراق عن بُشير بن يسار ، وروايةُ أهل المدينة عنه أثبتُ ، وهم به أقعدُ ، ونقلُهم أصحُّ عند أهل العلم .
قلت : وسعيد بن عُبيد اختصر قصَّة القسامة ، وهي محفوظةٌ في الحديث ، وقد خرَّج النَّسائيُّ ([26]) من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم طلب من ولي القتيل شاهِدين على من قتله ، فقال : ومن أين أُصيبُ شاهدين ؟ قال : (( فتحلِفُ خمسين قسامةً )) ، قال : كيف أحلِفُ على ما لم أعلم ؟ قال :
(( فتستحلفُ منهم خمسين قسامة )) فهذا الحديث يَجمَعُ به بين روايتي سعيد بن
عُبيد ، ويحيى بن سعيد ، ويكونُ كلٌّ منهما تركَ بعض القصَّة ، فترك سعيدٌ ذِكرَ قسامة المدَّعين ، وترك يحيى ذكر البيِّنة قبل طلب القسامة ، والله أعلم .
وأما مسألة الشَّاهد مع اليمين ، فاستدلَّ من أنكر الحكم بالشَّاهد واليمين بحديث : (( شَاهِداك أو يمينه )) ([27]) وقوله صلى الله عليه وسلم : (( ليس لك إلاَّ ذلك )) ([28]) ، وقد تكلم القاضي إسماعيل المالكي في هذه اللفظة ، وقال : تفرَّد بها منصورٌ عن أبي وائل ، وخالفه سائرُ الرُّواة ، وقالوا : إنَّه سأله : (( ألك بيِّنَةٌ أم لا ؟ )) والبيِّنَةُ لا تقف على الشَّاهدين فقط . بل تعمُّ سائر ما يُبيِّنُ الحقَّ .
وقال غيرُه : يحتمل أنْ يريدَ بشاهديه كلَّ نوعين يشهدان للمدَّعي بصحَّة دعواه يتبيَّن بهما الحقّ، فيدخُلُ في ذلك شهادةُ الرجلين، وشهادةُ الرَّجُل مع المرأتين ، وشهادةُ الواحد مع اليمين ، وقد أقام الله سبحانه أيمانَ المدَّعي مقامَ الشُّهود في
اللعان .
وقوله في تمام الحديث : (( ليس لك إلاّ ذلك )) : لم يُرِد به النَّفيَ العامَّ ، بل النَّفي الخاصَّ ، وهو الذي أراده المدَّعي ، وهو أنْ يكونَ القولُ قولَه بغير بيِّنةٍ ، فمنعه من ذلك ، وأبى ذلك عليه ، وكذلك قولُه في الحديث الآخر : (( ولكن اليمين على المدَّعى عليه )) إنَّما أريد بها اليمينُ المجردة عن الشهادة ، وأوَّلُ الحديث يدلُّ على
ذلك ، وهو قوله : (( لو يُعطى النَّاسُ بدعواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ رجال وأموالهم )) فدلَّ على أن قولَه : (( اليمين على المُدَّعَى عليه )) إنَّما هي اليمينُ القاطعة للمنازَعَةِ مع عدم البينة ، وأما اليمينُ المثبتة للحقِّ ، مع وجود الشهادة ، فهذا نوعٌ آخر ، وقد ثبت بسنَّةٍ أخرى .
وأمَّا ردُّ اليمين على المدَّعي ، فالمشهورُ عن أحمد موافقةُ أبي حنيفة ([29]) ، وأنَّها لا تُرَدُّ ، واستدلَّ أحمدُ بحديثِ : (( اليمين على المدَّعى عليه )) ، وقال في رواية أبي طالب عنه : ما هو ببعيدٍ أن يقال له : تحلف وتستحقُّ ، واختار ذلك طائفةٌ مِنْ متأخِّري الأصحاب ، وهو قولُ مالك والشافعي وأبي عُبيد ، ورُوي عن طائفة مِنَ الصَّحابة ، وقد ورد فيه حديثٌ مرفوعٌ خرَّجه الدارقطني ([30]) وفي إسناده نظر ([31]) .
قال أبو عبيد : ليس هذا إزالةً لليمين عن موضعها ، فإنَّ الإزالة أنْ لا يقضي باليمين على المطلوب ، فأمَّا إذا قُضِيَ بها عليه ، فرضي بيمين صاحبه ، كان هو الحاكم على نفسه بذلك ، لأنَّه لو شاء ، لحلف وبريء ، وبطلَت عنه الدَّعوى .
والقول الثاني في المسألة : أنَّه يُرجَّحُ جانبُ أقوى المتداعيين ، وتجعل اليمينُ في جانبه ، هذا مذهب مالكٍ ، وكذا ذكر القاضي أبو يعلى في خلافه أنَّه مذهبُ أحمد ، وعلى هذا تتوجَّهُ المسائلُ التي تقدَّم ذكرُها مِن الحكم بالقسامة والشَّاهِد واليمين ، فإنَّ جانبَ المدعي في القسامة لمَّا قوي باللوث جُعِلَتْ اليمينُ في جانبه ، وحُكِمَ له بها ، وكذلك المدَّعي إذا أقام شاهداً ، فإنه قوي جانبه ، فحلف معه ، وقُضي له .
وهؤلاء لهم في الجواب عن قوله : (( البينة على المدعي )) طريقان :
أحدهما : أنَّ هذا خُصَّ من هذا العموم بدليل .
والثاني : أنَّ قوله : (( البينة على المدعي )) ليس بعامٍّ ؛ لأنَّ المرادَ : على المدعي المعهود ، وهو من لا حُجَّةَ له سوى الدَّعوى كما في قوله : (( لو يُعطى الناسُ بدعواهم ، لادَّعى رجالٌ دماءَ قومٍ وأموالهم )) ، فأمَّا المدَّعي الذي معه حجةٌ تقوِّي دعواه ، فليس داخلاً في هذا الحديث .
وطريق ثالث وهو أنَّ البينة : كُلُّ ما بيَّن صحَّة دعوى المدَّعي ، وشهِدَ بصدقِه ، فاللوثُ مع القسامة بيِّنةٌ ، والشَّاهد مع اليمين بيِّنةٌ .
وطريق رابع سلكه بعضُهم ، وهو الطَّعنُ في صحَّةِ هذه اللفظة ، أعني قولَه :
(( البينة على المدَّعي )) ، وقالوا : إنَّما الثَّابتُ هو قوله : (( اليمينُ على المدَّعى عليه )) . وقوله : (( لو يُعطى الناسُ بدعواهم ، لادَّعى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالهم )) ، يدلُ على أنَّ مدَّعي الدَّمِ والمالِ لابدَّ له مِنْ بيِّنةٍ تدلُّ على ما ادَّعاه ، ويدخل في عموم ذلك أنّ مَنِ ادَّعى على رجلٍ أنَّه قتل موروثَه ، وليس معه إلاّ قولُ المقتولِ عند موته : جرحني فلان ، أنَّه لا يُكتفى بذلك ، ولا يكونُ بمجرَّده لوثاً ، وهذا قولُ الجمهور ، خلافاً للمالكيَّة ، وأنَّهم جعلوه لوثاً يقسم معه الأولياءُ ، ويستحقُّون الدَّم .
ويدخل في عمومه أيضاً من قذف زوجته ولاعَنَها ، فإنَّه لا يُباحُ دمُها بمجرَّدِ
لعانها ، وهو قولُ الأكثرين خلافاً للشافعي ، واختار قولَه الجوزجانيُّ ، لظاهر قوله U : } وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ { ([32]) ، والأوَّلون منهم من حمل العذابَ على الحبس ، وقالوا : إنْ لم تلاعِن ، حُبِست حتى تُقرَّ أو تُلاعِن ، وفيه نظر .
ولو ادَّعت امرأةٌ على رجل أنَّه استكرهها على الزِّنى ، فالجمهورُ أنَّه لا يثبتُ بدعواها عليه شيء . وقال أشهب من المالكية : لها الصداقُ بيمينها ، وقال غيرُه منهم : لها الصَّداقُ بغيرِ يمين ، هذا كلُّه إذا كانت ذاتَ قدر ، وادَّعت ذلك على متَّهم تليقُ به الدَّعوى ، وإنْ كان المرميُّ بذلك مِنَ أهل الصَّلاح ، ففي حدِّها للقذف عن مالك روايتان .
وقد كان شُريح وإياس بن معاوية يحكمان في الأموال المتنازع فيها بمجرَّد القرائن الدَّالَّةِ على صدق أحد المتداعيين ، وقضى شُريحٌ في أولاد هرَّةٍ تداعاها امرأتان ، كلٌّ منهما تقولُ هي ولد هِرَّتي ، قال شريحُ : ألقِها مع هذه ، فإن هي قرَّت ودرَّت واسبطرَّتْ فهي لها ، وإن هي فرت وهرَّت وازبأرت ، فليس لها ([33]) . قال ابن قتيبة : قوله : اسبطرّت ، يريد : امتدَّت للإرضاع ([34]) ، وإزبأرت : اقشعرَّت وتنفَّشت . وكان يقضي بنحو ذلك أبو بكر الشامي من الشَّافعية ، ورجح قولَه ابنُ عقيل مِنْ أصحابنا .
وقد رُوي عن الشافعي وأحمد استحسان قولِ القافة في سرقة الأموال ، والأخذ بذلك ، ونقل ابنُ منصور عن أحمد : إذا قال صاحبُ الزَّرع : أفسدت غنمُك زرعي باللَّيل ، يُنظَرُ في الأثر ، فإنْ لم يكن أثرُ غنمِه في الزَّرع ، لابدَّ لصاحب الزَّرع من أنْ يجيء بالبيِّنَةِ . قال إسحاق بن راهويه كما قال أحمد ؛ لأنَّه مدَّع ، وهذا يدلُّ على اتِّفاقهما على الاكتفاء برؤية أثرِ الغنم ، وأنَّ البيِّنَةَ إنَّما تُطلب عندَ عدم الأثر .
وقوله : (( واليمين على المُدَّعى عليه )) يدلُّ على أنَّ كلَّ مَنِ ادَّعى عليه دعوى ، فأنكر ، فإنَّ عليه اليمينَ ، وهذا قولُ أكثرِ الفقهاء ، وقال مالك : إنَّما تجبُ اليمينُ على المنكر إذا كان بين المتداعيين نوعُ مخالطة ، خوفاً من أن يتبذَّل السُّفهاءُ الرؤساء بطلب أيمانهم .
وعنده : لو ادَّعى على رجلٍ أنَّه غصبه ، أو سرقَ منه ، ولم يكن المدَّعى عليه متَّهماً بذلك ، لم يُستَحلَف المدَّعى عليه ، وحكي أيضاً عن القاسم بن محمد ، وحميد بن عبد الرحمان ، وحكاه بعضُهم عن فقهاءِ المدينة السَّبعَةِ ، فإن كان من أهل الفضل ، وممَّن لا يُشارُ إليه بذلك ، أُدِّبَ المدعي عندَ مالكٍ ، ويُستدلُّ بقوله :
(( اليمينُ على المدَّعى عليه )) على أنَّ المدَّعي لا يمينَ عليه ، وإنَّما عليه البيِّنَة ، وهو قول الأكثرين .
وروي عن عليٍّ أنَّه أحلَفَ المدَّعي مع بيِّنته أنَّ شهودَه شهِدُوا بحقٍ ، وفعله أيضاً شُريح ، وعبدُ الله بن عتبة وابن مسعود وابن أبي ليلى ، وسوَّار العنبري
وعُبيد الله بن الحسن ، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ، وروي عن النَّخعي أيضاً . وقال إسحاق : إذا استرابَ الحاكمُ ، وجب ذلك .
وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة ، فقال أحمد : قد فعله عليٌ ، فقال له : أيستقيمُ هذا ؟ فقال : قد فعله عليٌّ ، فأثبت القاضي هذا روايةً عن أحمد ، لكنه حملَها على الدَّعوى على الغائب والصَّبيِّ ، وهذا لا يصحُّ ؛ لأنَّ عليّاً إنَّما حلَّف المدَّعي مع بيِّنته على الحاضر معه ، وهؤلاء يقولون : هذه اليمينُ لتقوية الدَّعوى إذا ضَعُفَتْ باسترابة الشُّهود كاليمين مع الشَّاهد الواحد ([35]) . وكان بعضُ المتقدمين يُحلِّفُ الشُّهود إذا استرابهم([36]) أيضاً ، ومنهم سوَّارٌ العنبريُّ قاضي البصرة ، وجوَّز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دونَ القضاة . وقد قال ابنُ عباس في المرأة الشَّاهدة على الرَّضاع : إنَّها تُستحلَفُ ، وأخذ به الإمام أحمد .
وقد دلَّ القرآن على استحلاف الشهودِ عند الارتياب بشهادتهم في الوصيَّة
في السفر في قوله تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ { إلى قوله :
} فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ { ([37]) ، وهذه الآية لم يُنسخ العملُ بها عندَ جمهور السَّلف ، وقد عملَ بها أبو موسى ، وابن مسعود ، وأفتى بها عليٌّ ، وابن عباس ، وهو مذهبُ شريح والنَّخعيّ وابن أبي ليلى ، وسفيان والأوزاعي وأحمد وأبي عبيد وغيرهم ، قالوا : تُقبل شهادة الكفَّار في وصيَّة المسلمين في السَّفر ، ويُستحلَفان مع شهادتهما . وهل يمينهما من باب تكميل الشهادة ، فلا يُحكم بشهادتهما بدون يمين ، أم من باب الاستظهار عند الريبة ؟ وهذا محتمل ، وأصحابنا جعلوها شرطاً ، وهو ظاهرُ ما روي عن أبي موسى وغيره .
وقد ذهب طائفة من السَّلف إلى أنَّ اليمين مع الشاهد الواحد هو من باب الاستظهار ، فإن رأى الحاكمُ الاكتفاءَ بالشَّاهد الواحدِ ، لبُروزِ عدالته ، وظُهور صِدْقِه ، اكتفى بشهادته بدون يمين الطالب .
وقوله : } فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا { ([38]) يدلُّ على أنَّه إذا ظهر خللٌ في شهادة الكفّار ، حلف أولياء الميت على خيانتهما وكذبهما ، واستحقُّوا ما حلَفُوا عليه ، وهذا قولُ مجاهدٍ وغيره من السَّلف .
ووجه ذلك أنَّ اليمين في جانبِ أقوى المتداعيين ، وقد قَوِيَتْ هاهنا دعوى الورثةِ بظهور كذب الشُّهود الكفَّار ، فتردُّ اليمينُ على المدَّعين ، ويحلفون مع
اللوث ، ويستحقُّون ما ادَّعوهُ ، كما يحلفُ الأولياءُ في القسامة مع اللوث ، ويستحقون بذلك الدِّيَةَ والدَّم أيضاً عندَ مالكٍ وأحمد وغيرهما .
وقضى ابنُ مسعود في رجل مسلم حضره الموت ، فأوصى إلى رجلين مسلمين
معه ، وسلَّمهما ما معه مِنَ المال ، وأشهدَ على وصيَّته كفّاراً ، ثم قدم الوصيّان ، فدفعا بعض المال إلى الورثة ، وكتما بعضَه ، ثمَّ قدم الكفّارُ ، فشهدوا عليهم بما كتموه منَ المال ، فدعا الوصيَّينِ المسلِمَين ، فاستحلفهما : ما دفع إليهما أكثرَ ممَّا دفعاه ، ثم دعا الكفَّارَ ، فشهدُوا وحلفوا على شهادتهم ، ثم أمر أولياءَ الميت أن يحلِفوا أنَّ ما شهدت به اليهودُ والنَّصارى حقٌّ ، فحلَفُوا ، فقضى على الوصِيَّين بما حلفوا عليه ([39]) ، وكان ذلك في خلافة عثمان ، وتأوَّل ابنُ مسعود الآية على ذلك ، فكأنَّه قابلَ بين يمين الأوصياء والشُّهود الكفار فأسقطهما ، وبقي مع الورثة شهادة الكفَّار ، فحلفُوا معها ، واستحقُّوا ، لأنَّ جانبَهم ترجَّح بشهادة الكفَّار لهم ، فجعل اليمينَ مع أقوى المتداعيين ، وقضى بها .
واختلف الفقهاء : هل يُستحلف في جميع حقوق الآدميين كقول الشافعي ورواية عن أحمد أو لا يستحلف إلاَّ فيما يقضي فيه بالنُّكول كرواية عن أحمد ؟ أو لا يستحلف إلا فيما يصحّ بذله كما هوَ المشهور عن أحمد ؟ أو لا يستحلف إلاَّ في كلِّ دعوى لا تحتاجُ إلى شاهدين كما حُكي عن مالك ؟
وأما حقوقُ الله U ، فمن العلماءِ من قالَ : لا يُستحلفُ فيها بحالٍ ، وهو
قولُ أصحابنا وغيرهم ، ونصَّ عليهِ أحمدُ في الزَّكاة ، وبه قالَ طاووسٌ ، والثوريُّ
والحسن بن صالحٍ وغيرهم ، وقال أبو حنيفة ومالكٌ واللَّيثُ والشافعيُّ : إذا اتُّهمَ ،
فإنَّه يُستحلَفُ ، وكذا حُكي عن الشَّافعي فيمن تزوَّجَ مَنْ لا تحلُّ لهُ ، ثمَّ ادعى
الجهلَ : أنَّه يُحلَّفُ على دعواه ، وكذا قالَ إسحاق في طلاق السَّكران : يحلف أنَّه
ما كان يعقل ، وفي طلاق النَّاسي : يحلف على نسيانه ، وكذا قال القاسمُ بن محمَّد وسالم بن عبد الله في رجل قال لامرأته : أنت طالقٌ : يحلفُ أنَّه ما أرادَ به الثَّلاثَ ، وتردُّ إليه .
وخرَّج الطبراني ([40]) من رواية أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان أُناسٌ مِنَ الأعراب يأتونَ بلحمٍ ، فكان في أنفسنا منه شيءٌ ، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( اجْهَدُوا أيمانَهم أنَّهم ذبحوها ، ثمَّ اذكُروا اسمَ اللهِ
وكلُوا )) وأبو هارون ضعيف جداً .
وأما المؤتمن في حُقوق الآدميِّينَ حيث قُبِلَ قولُه ، فهل عليه يمين أم لا ؟ فيه ثلاثةُ أقوال للعلماء :
أحدها : لا يمينَ عليه ؛ لأنَّه صدَّقه بائتمانِه ، ولا يمين مع التَّصديقِ ، وبالقياسِ على الحاكم ، وهذا قولُ الحارث العُكلي .
والثاني : عليه اليمينُ ، لأنَّه منكر ، فيدخل في عموم قوله : (( واليمين على من أنكر )) ، وهو قولُ شريحٍ وأبي حنيفة والشَّافعيّ ومالكٍ في رواية ، وأكثر أصحابنا .
والثالث : لا يمين عليه إلاّ أنْ يُتَّهَمَ وهو نصُّ أحمد ، وقول مالك في رواية لما تقدم مِنَ ائتمانه .
وأمَّا إذا قامت قرينةٌ تُنافي حالَ الائتمان ، فقد اختلَّ معنى الائتمان .
وقوله : (( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر )) إنَّما أُريد به إذا
ادَّعى على رجلٍ ما يدَّعيه لنفسه ، وينكر أنَّه لمن ادَّعاه عليه ، ولهذا قال في أوَّل
الحديث : (( لو يُعطى الناسُ بدعواهم ، لادّعى رجالٌ دماء قومٍ وأموالهم )) ، فأما من ادّعى ما ليس له مدَّعٍ لنفسه ، منكر لدعواه ، فهذا أسهلُ مِنَ الأوَّلِ ، ولابدَّ للمدَّعي هنا من بيِّنةٍ ، ولكن يُكتفى مِنَ البيِّنةِ هنا بما لا يُكتفى بها في الدَّعوى على المدَّعي لنفسه المنكر .
ويشهد لذلك مسائل :
منها : اللقطة إذا جاء من وصفها ، فإنَّها تُدفَعُ إليه بغير بيِّنَةٍ بالاتفاق ، لكن منهم من يقول : يجوزُ الدَّفْعُ إذا غلب على الظَّنِّ صِدقُهُ ، ولا يجبُ ، كقول الشافعي وأبي حنيفة ، ومنهم من يقول : يجب دفعُها بذكرِ الوصف المطابق ، كقول مالك وأحمد .
ومنها : الغنيمة إذا جاء من يدَّعي منها شيئاً ، وأنَّه كان له ، واستولى عليه
الكفّار ، وأقام على ذلك ما يُبيِّنُ أنَّه له اكتُفي به ، وسُئِلَ عن ذلك أحمد وقيل له : فيريد على ذلك بينة ؟ قالَ : لابدَّ مِنْ بيانٍ يدلُّ على أنَّه لهُ ، وإنْ علم ذَلِكَ ، دفعه إليه الأمير . وروى الخلال بإسناده عن الرُّكين بن الربيع ، عن أبيه قالَ : جشر لأخي فرس بعين التمر ، فرآه في مربط سعدٍ ، فقالَ : فرسي ، فقالَ سعد : ألك
بينة ؟ قال : لا ، ولكن أَدْعُوه ، فَيُحَمْمِمُ ، فدعاه فحمحم ، فأعطاه إيّاه ([41]) ، وهذا يحتمل أنه كان لحق بالعدوِّ ، ثم ظهر عليه المسلمون ، ويحتمل أنَّه عرف أنه ضالٌّ، فوضع بين الدواب الضالة ، فيكون كاللقطة .
ومنها الغصوب إذا علم ظلم الولاة ، وطلب ردَّها من بيت المال ، قال أبو الزناد : كان عمرُ بنُ عبد العزيز يردُّ المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة ، كان يكتفي باليسير ، إذا عرف وجه مَظْلمةِ الرَّجُلِ ردَّها عليه ، ولم يكلِّفْهُ تحقيقَ البيِّنةِ ، لما يعرف مِنْ غشم الوُلاة قبله على الناس ، ولقد انفد بيت مال العراق في ردِّ المظالم حتى حُمِلَ إليها مِنَ الشَّامِ ، وذكر أصحابُنا أنَّ الأموالَ المغصوبةَ مع قُطَّاعِ الطَّريق واللصوص يُكتفى مِن مدَّعيها بالصِّفَة كاللقطة ، ذكره القاضي في خلافه ، وأنَّه ظاهرُ كلام أحمد .
([1]) صحيح البخاري 6/43 ( 4552 ) ، وصحيح مسلم 5/128 ( 1711 ) ( 1 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 15193 ) ، وابن ماجه ( 2321 ) ، والنسائي في ” الكبرى “
( 5994 ) ، والطحاوي في ” شرح معاني الآثار ” 3/191 ، وابن حبان ( 5082 )
و( 5083 ) ، والطبراني في ” الكبير ” ( 1124 ) و( 1125 ) وفي ” الأوسط ” ، له
( 7971 ) .
([2]) البخاري 3/187 ( 2514 ) و233 ( 2668 ) ، ومسلم 5/128 ( 1711 ) ( 2 ) .
([3]) في ” سننه ” 10/252 ، وانظر : المهذب في اختصار السنن الكبير 4/2097 ( 8840 ) .
([4]) أخرجه : البيهقي 10/252 من طريق الإسماعيلي .
([5]) في ” مسنده ” ( 1693 ) بتحقيقي ، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في ” المعرفة “
( 5978 ) ، والبغوي ( 2501 ) .
([6]) جملة: (( قال الشافعي )) لم ترد في ” المسند ” ، وهي في الأم 7/93 ، وطبعة الوفاء 10/285.
([7]) صحيح البخاري 3/45 ( 2357 ) و159 ( 2417 ) و232 ( 2667 ) و234
( 2677 ) و6/42 ( 4550 ) و8/167 ( 6660 ) و171 ( 6677 ) و9/90
( 7184 ) ، وصحيح مسلم 1/86 ( 138 ) ( 220 ) .
([8]) آل عمران : 77 .
([9]) في ” صحيحه ” 1/86 ( 139 ) ( 223 ) و87 ( 139 ) ( 224 ) .
([10]) في ” جامعه ” ( 1341 ) .
([11]) في ” سننه ” 3/111 و4/218 .
([12]) وممن خالفه من الحفاظ عبد الرزاق وحجاج ؛ لذا قال الدارقطني عقب الحديث : (( خالفه عبد الرزاق وحجاج روياه عن ابن جريج ، عن عمرو مرسلاً )) .
([13]) سنن الدارقطني 4/218 .
([14]) أخرجه : الدارقطني 4/219 ، والبيهقي 10/253 .
([15]) في ” الكبرى ” ( 6006 ) و( 6007 ) ، وإسناده ضعيف لاختلاط عطاء بن السائب ، وقال الذهبي في ” الميزان ” 3/72 : (( ومن مناكير عطاء مما رواه عنه روح بن القاسم ، وأبو الأحوص ، وأبو حمزة السكري وغيرهم … )) ثم ساق هذا الحديث .
([16]) أخرجه : ابن أبي شيبة 4/340 ، والدارقطني 4/206 – 207 ، والبيهقي 10/150 و253 .
([17]) أخرجه : وكيع في ” أخبار القضاة ” 1/108 ، والبيهقي 10/136 .
([18]) أخرجه : عبد الرزاق في ” تفسيره ” ( 2584 ) ، والطبري في ” تفسيره ” ( 22911 ) ، وطبعة التركي 20/51 ، والبيهقي 10/253 ، وابن عساكر في ” تاريخ دمشق ” 17/101 .
وانظر : تفسير القرطبي 15/162 ، وعمدة التفسير لابن كثير 3/146 ، والدر المنثور للسيوطي 5/564 .
([19]) في ” الإجماع ” : 75 .
([20]) انظر : فتح الباري 5/348 .
([21]) في ” صحيحه ” 9/11 ( 6898 ) .
([22]) في ” صحيحه ” 5/100 ( 1669 ) ( 5 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 4523 ) ، والنسائي 8/12 ، والطبراني في ” الكبير ” ( 5629 ) ، والبيهقي 8/120 .
([23]) البخاري 3/243 ( 2702 ) و4/123 ( 3173 ) و8/41 ( 6142 ) و( 6143 ) ، ومسلم 5/98 ( 1669 ) ( 1 ) و( 2 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 4520 ) ، والترمذي ( 1422 ) ، والنسائي 8/8 – 9 ، والطبراني في
” الكبير ” ( 4428 ) و( 5627 ) ، والبيهقي 8/118 – 119 .
([24]) : 64 .
([25]) في ” التمهيد ” 23/209 .
([26]) في ” المجتبى ” 8/12 وفي ” الكبرى ” ، له ( 6922 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 27809 ) ، وابن ماجه ( 2678 ) ، والطحاوي في ” شرح مشكل الآثار ” ( 4586 ) ، وهو حديث حسن ؛ فإنَّ رواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده من شرط الحسن .
([27]) سبق تخريجه .
([28]) سبق تخريجه .
([29]) فتح الباري 5/347 .
([30]) في ” سننه ” 4/213 من طريق محمد بن مسروق ، عن إسحاق بن الفرات ، عن الليث بن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق .
وأخرجه : الحاكم 4/100 ، وتمام في ” فوائده ” ( 933 ) ، والبيهقي 10/184 عن ابن
عمر .
([31]) وهو أنَّ في إسناده محمد بن مسروق ، وهو مجهول لا يعرف .
([32]) النور : 8 .
([33]) انظر : سير أعلام النبلاء 4/105 .
([34]) النهاية 2/335 .
([35]) انظر : السنن الكبرى للبيهقي 10/184 .
([36]) من قوله : (( الشهود كاليمين … )) إلى هنا سقط من ( ص ) .
([37]) المائدة : 106 .
([38]) المائدة : 107 .
([39]) أخرجه : الحاكم كما في ” إتحاف المهرة ” 10/273 ( 12744 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 3605 ) ، والحاكم 2/314 ، والبيهقي 10/165 عن أبي موسى الأشعري ، بنحوه .
([40]) في ” الأوسط ” ( 2367 ) ، وأبو هارون العبدي متروك الحديث ؛ فإسناد الحديث ضعيف جداً ، وانظر : مجمع الزوائد 4/36 لتعلم خطئه ؛ إذ قال : (( رجاله ثقات )) ، ومثل هذا في المجمع كثير .
([41]) أخرجه : ابن الجعد في ” مسنده ” : 338 ( 2324 ) ، وطبعة الفلاح 2/866 ( 2415 ) .