جامع العلوم والحكم
في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم
ابن رجب الحنبلي
الحديث الثاني والعشرون
عَنْ جَابِر بنِ عبدِ الله – رضي الله عنهما – : أنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أرأيتَ إذا صَلَّيتُ المَكتُوبَاتِ ، وصُمْتُ رَمَضانَ ، وأَحْلَلْتُ الحَلالَ ، وحَرَّمْتُ الحَرامَ ، ولم أزِدْ على ذلك شيئاً ، أأدخُلِ الجنَّةَ ؟ قالَ : (( نَعَمْ )) . رواهُ مسلم .
هذا الحديثُ خرَّجه مسلم( ) من رواية أبي الزبير ، عن جابر ، وزاد في آخره : قالَ : والله لا أزيدُ على ذَلِكَ شيئاً . وخرَّجه أيضاً( ) من رواية الأعمش ، عن أبي صالح ، وأبي سفيان ، عن جابر قالَ : قالَ النعمان بنُ قوقل : يا رسولَ الله ، أرأيت إذا صليتُ المكتوبةَ ، وحرمتُ الحرامَ ، وأحللتُ الحلالَ ولم أزِدْ على ذَلِكَ شيئاً أَأَدخُلُ الجَنَّةَ ؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( نعم )) .
وقد فسَّر بعضُهم تحليلَ الحلالِ باعتقادِ حلِّه ، وتحريمَ الحرامِ باعتقاد حُرمته مع اجتنابه( ) ، ويُحتمل أنْ يراد بتحليل الحلال إتيانُه ، ويكون الحلالُ هاهنا عبارةً عمَّا ليسَ بحرامٍ ، فيدخل فيه الواجبُ والمستحبُّ والمباحُ ، ويكونُ المعنى أنَّه يفعل ما ليس بمحرَّم عليه ، ولا يتعدَّى ما أُبيحَ له إلى غيره ، ويجتنب المحرَّمات . وقد روي عن طائفةٍ من السَّلفِ ، منهم : ابنُ مسعود وابن عباس في قوله عز وجل : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ( ) ، قالوا : يُحلُّون حلاله ويحرِّمون حرامَه ، ولا يُحرِّفونه عن مواضِعه( ) .
والمرادُ بالتحليل والتحريم : فعلُ الحلال واجتنابُ الحرام كما ذُكر في هذا الحديث. وقد قال الله تعالى في حقِّ الكفار الذين كانوا يُغيرون تحريمَ الشُّهور الحُرُم : إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ ( ) ، والمراد : أنَّهم كانوا يُقاتلون في الشهر الحرام عاماً ، فيُحلونه بذلك ، ويمتنعون من القتال فيه عاماً ، فيحرِّمونَهُ بذلك( ) .
وقال الله عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ( ) وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهداً في الدنيا وتقشفاً، وبعضهم حرَّم ذلك عن نفسه ، إمَّا بيمينٍ حَلَفَ بها ، أو بتحريمه على نفسه ، وذلك كُلُّه لا يوجبُ تحريمه في نفس الأمر ، وبعضُهم امتنع منه من غير يمينٍ ولا تحريمٍ ، فسمَّى الجميع تحريماً( ) ، حيث قصد الامتناعَ منه إضراراً بالنفس ، وكفاً لها عن شهواتها . ويقال في الأمثال : فلانٌ لا يحلِّلُ ولا يحرِّمُ ، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ، ولا يقفُ عندَ ما أُبيح له ، وإنْ كان يعتقدُ تحريمَ الحرام ، فيجعلون من فَعَلَ الحرامَ ولا يتحاشى منه مُحلِّلاً له ، وإنْ كان لا يعتقد حلّه .
وبكلِّ حالٍ ، فهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ من قام بالواجبات ، وانتهى عن
المحرَّمات ، دخلَ الجنة ، وقد تواترتِ الأحاديثُ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى ، أو ما هو قريبٌ منه ، كما خرَّجهُ النَّسائي ، وابنُ حبان ، والحاكم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( ما مِنْ عبدٍ يُصلِّي الصلواتِ الخمس ، ويصومُ رمضان ، ويُخرجُ الزَّكاة ، ويجتنبُ الكبائر السَّبعَ ، إلاَّ فُتِحَتْ له أبوابُ الجنة ، يدخُلُ من أيِّها شاء )) ، ثم تلا : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ( )( ).
وخرَّج الإمام أحمد( ) والنسائي( ) من حديث أبي أيوب الأنصاري ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( مَنْ عَبدَ الله ، لا يُشركُ به ، وأقامَ الصَّلاةَ ، وآتى الزَّكاة ، وصامَ رمضان ، واجتنبَ الكبائرَ ، فله الجنةُ ، أو دخل الجنة )) .
وفي ” المسند ” ( ) عن ابنِ عباس : أنَّ ضِمَامَ بنَ ثعلبةَ وفَدَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر له الصَّلوات الخمس ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وشرائع الإسلام كلها ، فلمَّا فرغ ، قال : أشهد أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً رسول الله ، وسأؤدِّي هذه الفرائض ، وأجتنبُ ما نهيتني عنه ، لا أزيدُ ولا أنقُصُ ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( إنْ صدقَ دخلَ الجنَّة )) . وخرَّجه الطبراني( ) مِنْ وجهٍ آخرَ ، وفي حديثه قال : والخامسة لا أَرَبَ لي فيها ، يعني : الفواحش ، ثم قال : لأعملنَّ بها ، ومن أطاعني ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( لئن صدقَ ، ليدخلنَّ الجنَّة )) .
وفي ” صحيح البخاري ” ( ) عن أبي أيوب : أنَّ رجلاً قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : أخبرني بعمل يُدخلني الجنَّة ، قال : (( تعبدُ الله لا تُشركُ به شيئاً ، وتقيمُ الصَّلاة ، وتُؤْتِي الزكاةَ ، وتَصِلُ الرَّحم )) . وخرّجه مسلم( ) إلاَّ أنَّ عنده أنَّه قال : أخبرني بعملٍ يُدنيني من الجنَّةِ ويُباعدُني من النَّارِ . وعنده في رواية : فلما أدبرَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنْ تمسَّك بما أُمِرَ به ، دخلَ الجنَّة )) .
وفي ” الصحيحين ” ( ) عن أبي هريرة : أنَّ أعرابياً قال : يا رسول الله ، دُلَّني على عملٍ إذا عملتُه دخلتُ الجنَّة ، قال : (( تعبدُ الله لا تُشركُ به شيئاً ، وتقيمُ الصَّلاةَ المكتوبة ، وتؤدِّي الزكاةَ المفروضة ، وتصومُ رمضانَ )) ، قال : والذي بعثك بالحقِّ ، لا أزيدُ على هذا شيئاً أبداً ولا أَنْقُصُ منه ، فلمَّا ولَّى ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( مَن سرَّه أنْ ينظرَ إلى رجلٍ من أهلِ الجنَّة ، فلينظر إلى هذا )) .
وفي ” الصحيحين ” ( ) عن طلحة بنِ عُبَيد الله : أنَّ أعرابياً جاء إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثائرَ الرأس ، فقال : يا رسولَ الله ، أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصَّلاةِ ؟ فقالَ : (( الصلوات الخمس ، إلا أنْ تَطوَّع شيئاً )) ، فقالَ : أخبرني بما فرض الله عليَّ منَ الصِّيامِ ؟ فقال : (( شهر رمضان ، إلا أنْ تطوَّع شيئاً )) فقال : أخبرني بما فرض الله عليَّ منَ الزَّكاة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام ، فقال : والذي أكرمك( ) بالحقِّ ، لا أتطوَّعُ شيئاً ولا أنقصُ ممَّا فرضَ الله عليَّ شيئاً ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أفلحَ إنْ صدق ، أو دخل الجنَّة إنْ صدق )) ولفظه للبخاري .
وفي ” صحيح مسلم ” ( ) عن أنس : أنَّ أعرابياً سألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه ، وزاد فيه : (( حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً )) فقال : والذي بعثك بالحقِّ لا أزيد عليهن ولا أنقُصُ منهن ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( لئنْ صدَقَ ليَدْخُلَنَّ الجنَّة )) .
ومراد الأعرابي أنَّه لا يزيدُ على الصلاة المكتوبة ، والزكاة المفروضة ، وصيام رمضان ، وحجِّ البيت شيئاً من التطوُّع ، ليس مرادُه أنَّه لا يعمل بشيءٍ من شرائعٍ الإسلام وواجباته غير ذلك ، وهذه الأحاديثُ لم يذكر فيها اجتناب المحرَّمات ؛ لأنَّ السائل إنَّما سأله عَنِ الأعمال التي يدخل بها عامِلُها الجنَّة .
وخرَّج الترمذي( ) من حديث أبي أُمامة قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخطُبُ في حجَّةِ الوداع يقول : (( أيُّها النَّاس ، اتَّقوا الله ، وصلُّوا خمسَكم ، وصُوموا شهركم ، وأدُّوا زكاةَ أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنَّة ربكم )) وقال : حسن صحيح ، وخرَّجه الإمام أحمد( ) ، وعنده : (( اعبدوا ربكم )) بدل قوله
: (( اتقوا الله )) . وخرَّجه بقي بن مخلد في ” مسنده ” من وجه آخر ، ولفظ حديثه : (( صلُّوا خمسَكم ، وصوموا شهرَكم ، وحُجُّوا بيتكم ، وأدُّوا زكاة أموالكم ، طيِّبةً بها أنفسكم ، تدخلوا جنَّة ربِّكم ))( ) .
وخرَّج الإمام أحمد( ) بإسناده عن ابنِ المنتفق ، قال : أتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات ، فقلت : ثنتان أسألُك عنهما : ما يُنجيني من النار ، وما يُدخلني الجنَّة ؟ قالَ : (( لئن كنتَ أوجزتَ في المسألة لقد أعظمتَ وأطولت ، فاعقل عني إذن : اعبد الله لا تشرك به شيئاً وأقم الصَّلاة المكتوبةَ ، وأدِّ الزَّكاةَ المفروضةَ ، وصُمْ رمضان، وما تُحِبُّ أنْ يفعله بكَ النَّاسُ، فافعله بهم ، وما تكره أنْ يأتي إليك الناس ، فذرِ الناس منه )) .
وفي روايةٍ له أيضاً قال : (( اتَّقِ الله ، لا تشركْ به شيئاً ، وتُقيم الصَّلاة ، وتُؤتِي الزَّكاة ، وتحجّ البيت ، وتصوم رمضان ، ولم تَزِدْ على ذلك )) وقيل : إنَّ هذا الصحابي هو وافد بني المنتفق ، واسمه لقيط( ) .
فهذه الأعمال أسبابٌ مقتضية لدخول الجنَّة ، وقد يكونُ ارتكابُ المحرَّمات موانع ، ويدلُّ على هذا ما خرَّجه الإمام أحمد( ) من حديث عمرو بن مرَّة الجهني ، قال : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسولَ الله ، شهدتُ أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأنَّك رسولُ الله ، وصلَّيتُ الخمس ، وأدَّيتُ زكاةَ مالي ، وصُمْتُ شهرَ رمضانَ ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( من مات على هذا ، كان مع النبيِّين والصدِّيقينَ والشهداءِ( ) يومَ القيامة هكذا – ونَصَبَ أصبعيه – ما لم يَعُقَّ والديه )) .
وقد ورد ترتُّب( ) دخولِ الجنة على فعلِ بعض هذه الأعمال كالصَّلاةِ ، ففي الحديث المشهور : (( من صلَّى الصلواتِ لوقتِها ، كان له عندَ الله عهدٌ أنْ يُدخِلَهُ الجنّة )) . وفي الحديث الصحيح : (( من صَلَّى البَرْدَينِ دخل الجنة )) ، وهذا كلُّه من ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عمله( ) إلاَّ باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه؛ ويدلُّ على هذا ما خرَّجه الإمام أحمد( ) عن بشير بنِ الخَصاصِيةِ ، قالَ : أتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لأبايِعَه ، فشرط عليَّ شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله ، وأنَّ محمداً عبده ورسوله ، وأنْ أُقيمَ الصَّلاةَ ، وأنْ أُوتي الزكاة ، وأنْ أحجَّ حجة الإسلام ، وأنْ أصومَ رمضان ، وأنْ أُجاهِد في سبيل الله ، فقلتُ : يا رسول الله أما اثنتان فوالله ما أُطيقُهُما : الجهاد والصَّدقةُ ، فقبضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَهُ ، ثمَّ حَرَّكَها ، وقال : (( فلا جهادَ ولا صدقةَ ؟ فبِمَ تدخلُ الجنَّة إذاً ؟ )) قلتُ : يا رسول الله أنا أُبايعُك ، فبايعتُه عليهنَّ كُلَّهنَّ . ففي هذا الحديث أنَّه لا يكفي في دخول الجنَّة هذه الخصالُ بدون الزكاة والجهاد .
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنَّ ارتكاب بعضِ الكبائر يمنع دخولَ الجنَّة ، كقوله: (( لا يدخل الجَنَّةَ قاطع ))( )، وقوله : (( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كِبْر ))( )، وقوله: (( لا تدخلوا الجنة حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤْمِنوا حتَّى تحابُّوا ))( ) والأحاديث التي جاءت في منع دخول الجنَّة بالدَّينِ حتى يُقضى ، وفي الصَّحيح
: (( أنَّ المؤمنين إذا جازوا الصِّراطَ ، حُبِسُوا على قنطرة يقتصُّ منهم مظالمُ كانت بينهم في الدنيا )) ( ) .
وقال بعض السَّلف : إنَّ الرجل ليُحبَسُ على باب الجنَّةِ مئة عام بالذنب كان يعملُه في الدنيا( ) . فهذه كُلُّها موانع .
ومن هنا يظهرُ معنى الأحاديث التي جاءت في ترتيب دخول الجنَّة على مجرَّد التوحيد ، ففي ” الصحيحين ” ( ) عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( ما مِنْ عبدٍ قال : لا إله إلاَّ الله ، ثمَّ مات على ذلك إلاَّ دخل الجنَّة )) ، قلت : وإنْ زنى وإنْ سرق ؟! قالَ : (( وإنْ زنى وإنْ سرق )) ، قالها ثلاثاً ، ثم قال في الرابعة : (( على رغم أنف أبي ذرٍّ )) ، فخرج أبو ذرٍّ ، وهو يقول : وإنْ رغم أنفُ أبي ذرٍّ .
وفيهما( ) عن عُبادة بنِ الصامت ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( مَنْ شهد أنْ لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ له ، وأنَّ محمداً عبده ورسولُه ، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسوله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه ، وأنَّ الجنَّةَ حقٌّ ، والنَّارَ حقٌّ ، أدخله الله الجنَّة على ما كان من عملٍ )) .
وفي ” صحيح مسلم ” ( ) عن أبي هريرة ، أو أبي سعيد – بالشَّكِّ – ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : (( أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله ، لا يلقى الله بهما عَبْدٌ
غيرَ شاك ، فيُحْجَبُ عن الجنَّة )) .
وفيه( ) عن أبي هُريرة : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له يوماً : (( مَنْ لَقِيتَ يشهد أنْ لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبُه ، فبشِّره بالجنَّة )) وفي المعنى أحاديث كثيرة جداً .
وفي ” الصحيحين ” ( ) عن أنس : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال يوماً لمعاذ : (( ما مِنْ عبدٍ يشهدُ أنْ لا إله إلا الله ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله إلاَّ حرَّمه الله على النار )) .
وفيهما( ) عن عِتبان بن مالك ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( إنَّ الله قد حرَّم على النَّارِ مَنْ قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بها وجه اللهِ )) .
فقال طائفةٌ من العلماء : إنَّ كلمة التوحيد سببٌ مقتضٍ لدخول الجنَّة وللنجاة مِنَ النَّارِ ، لكن له شروطٌ ، وهي الإتيانُ بالفرائضِ ، وموانعُ وهي إتيانُ الكبائر . قال الحسن للفرزدق : إنَّ لـ (( لا إله إلا الله )) شروطاً ، فإيَّاكَ وقذفَ المحصنة( ) . ورُوي عنه أنَّه قال : هذا العمودُ ، فأين الطُّنُبُ( ) ، يعني : أنَّ كلمةَ التوحيد عمودُ الفسطاط ، ولكن لا يثبتُ الفسطاطُ بدون أطنابه ، وهي فعلُ الواجبات ، وتركُ المحرَّمات .
وقيل للحسن : إنَّ ناساً يقولون : من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنَّة ، فقال : من قال : لا إله إلا الله ، فأدَّى حقَّها وفرضها ، دخلَ الجنَّةَ( ) .
وقيل لوهب بنِ مُنبِّه : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنَّة ؟ قال : بلى ؛ ولكن ما من مفتاحٍ إلا وله أسنان ، فإنْ جئتَ بمفتاحٍ له أسنانٌ فتح لك ، وإلاَّ لم يفتح لك( ).
ويشبه هذا ما رُوِيَ عن ابنِ عمر : أنَّه سُئِلَ عن لا إله إلا الله : هل يضرُّ معها عملٌ ، كما لا ينفع مع تركها عملٌ ؟ فقالَ ابن عمر : عش ولا تغتر( ) .
وقالت طائفةٌ – منهم : الضحاكُ والزهري – : كانَ هذا قبلَ الفرائض والحدود( ) ، فمِنْ هؤلاء مَنْ أَشار إلى أنَّها نُسِخَتْ ، ومنهم من قالَ : بل ضُمَّ إليها شروطٌ زيدت عليها ، وزيادة الشرط هل هي نسخ أم لا ؟ فيه خلاف مشهور بين الأصوليين ، وفي هذا كلِّه نظرٌ ، فإنَّ كثيراً مِنْ هذه الأحاديث متأخر بعدَ الفرائض والحدود .
وقال الثوري : نسختها الفرائضُ والحدودُ ، فيحتمل أنْ يكونَ مرادُه ما أراده هؤلاء ، ويحتمل أنْ يكون مرادُه أنَّ وجوبَ الفرائض والحدود تبين بها أنَّ عقوبات الدنيا لا تسقُطُ بمجرَّدِ الشهادتين ، فكذلك عقوباتُ الآخرة ، ومثل هذا البيان
وإزالة الإيهام كان السَّلفُ يُسَمُّونه نسخاً ، وليس هو بنسخ في الاصطلاح
المشهور .
وقالت طائفة : هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأنْ يقولها بصدقٍ وإخلاصٍ ، وإخلاصُها وصدقُها يمنع الإصرارَ معها على معصية( ) .
وجاء من مراسيل الحسن ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : (( من قال : لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنَّة )) قيل : وما إخلاصها ؟ قال : (( أنْ تحجُزَكَ عمَّا حرَّم الله ))( ) . وروي ذلك مسنداً من وجوه أخرَ ضعيفة( ) .
ولعل الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبلُ إلى هذا فإنَّ تحقق القلب بمعنى (( لا إله إلا الله )) وصدقه فيها ، وإخلاصه بها يقتضي أنْ يرسخَ فيه تألُّهُ الله وحده ، إجلالاً ، وهيبةً ، ومخافةً ، ومحبَّةً ، ورجاءً ، وتعظيماً ، وتوكُّلاً ، ويمتلئَ بذلك، وينتفيَ عنه تألُّه ما سواه من المخلوقين ، ومتى كان كذلك ، لم يبقَ فيه محبَّةٌ، ولا إرادةٌ ، ولا طلبٌ لغير ما يُريدُهُ الله ويحبُّه ويطلبه ، وينتفي بذلك مِنَ القلب جميعُ أهواءِ النُّفوس وإراداتها ، ووسواس الشيطان ، فمن أحب شيئاً وأطاعه ، وأحبَّ عليه وأبغض عليه ، فهو إلههُ ، فمن كان لا يحبُّ ولا يبغضُ إلا لله ، ولا يُوالي ولا يُعادي إلا له ، فالله إلههُ حقاً ، ومن أحبَّ لهواه ، وأبغض له ، ووالى عليه ، وعادى عليه ، فإلهه هواه ، كما قال تعالى : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ( ) قالَ الحسن : هوَ الذي لا يهوى شيئاً إلا ركبه( ) . وقال قتادة : هوَ الذي كلما هَوِيَ شيئاً ركبه ، وكلما اشتهى شيئاً أتاه ، لا يَحجزُه عن ذلك ورعٌ ولا تقوى( ) . ويُروى من حديث أبي أمامة مرفوعاً (( ما تحتَ ظلِّ السماء إلهٌ يُعبد أعظم عندَ الله من هوى متَّبع ))( ) .
وكذلك مَنْ أطاعَ الشيطان في معصية الله ، فقد عبده ، كما قال الله عز وجل
: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( ) .
فتبيَّن بهذا أنَّه لا يصحُّ تحقيقُ معنى قولِ : لا إله إلا الله ، إلاَّ لمن لم يكن في قلبه إصرارٌ على محبة ما يكرهه الله ، ولا على إرادة ما لا يُريده الله ، ومتى كان في القلب شيءٌ مِنْ ذلك ، كان ذلك نقصاً في التوحيد ، وهو مِنْ نوع الشِّرك الخفيِّ . ولهذا قال مجاهدٌ في قوله تعالى : أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ( ) قال : لا تحبُّوا غيري .
وفي ” صحيح الحاكم ” ( ) عن عائشة ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( الشِّركُ أخفى من دبيب الذَّرِّ على الصَّفا في الليلة الظَّلماء ، وأدناه أنْ تُحِبَّ على شيءٍ مِنَ الجَوْرِ ، وتُبغِضَ على شيءٍ مِنَ العدل ، وهل الدِّينُ إلا الحبّ والبغض ؟ قال الله عز وجل : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ( ) . وهذا نصٌّ في أنَّ محبةَ ما يكرهه الله ، وبغضَ ما يُحبه متابعةٌ للهوى ، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفيّ .
وخرَّج ابن أبي الدُّنيا من حديث أنس مرفوعاً : (( لا تزالُ لا إله إلا الله
تمنعُ العبادَ مِنْ سخط الله ، ما لم يُؤْثِروا دُنياهم على صَفقةِ دينهم ، فإذا آثرُوا
صفقةَ دُنياهم على دينهم ، ثم قالوا : لا إله إلا الله رُدَّتْ عليهم ، وقال الله :
كذبتم ))( ) .
فتبيَّن بهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (( من شهد أنْ لا إله إلا الله صادقاً من قلبه حرَّمه الله على النار )) ، وأنَّ من دخل النارَ من أهل هذه الكلمة ، فَلِقِلَّةِ صدقه في قولها ، فإنَّ هذه الكلمة إذا صدقت ، طهَّرت من القلب كلَّ ما سوى الله ، فمن صدق في قوله : لا إله إلا الله ، لم يُحبَّ سواه ، ولم يَرْجُ إلاَّ إيَّاه ، ولم يخشَ أحداً إلاَّ الله ، ولم يتوكَّل إلاَّ على الله ، ولم تبقَ له بقيَّةٌ من آثار نفسه وهواه ، ومتى بقي في القلب أثرٌ لسوى الله ، فمن قلَّة الصدق في قولها .
نارُ جهنَّم تنطفىء بنور إيمان الموحدين ، كما في الحديث المشهور : (( تقول النار للمؤمن : جُزْ يا مؤمنُ ، فقد أطفأ نورُك لهبي ))( ) .
وفي ” مسند الإمام أحمد ” ( ) عن جابرٍ ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يبقى برٌّ
ولا فاجر إلاّ دخلها ، فتكونُ على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم ،
حتى أنَّ للنار ضجيجاً من بردهم )) .
فهذا ميراثٌ وَرِثَه المؤمنون من حال إبراهيم ، فنارُ المحبة في قلوب المؤمنين تخافُ منها نارُ جهنم . قال الجنيد : قالت النار : يا ربِّ ، لو لم أُطِعك ، هل كنت تُعذِّبني بشيءٍ هو أشدُّ مني ؟ قالَ : نعم ، كنتُ أسلط عليك نارِي الكبرى ، قالت : وهل نارٌ أعظم مني وأشدُّ ؟ قال : نعم ، نار محبتي أسكنتُها قلوبَ أوليائي المؤمنين . وفي هذا يقول بعضهم :
ففي فؤادِ المُحِبِّ نارُ هوى
أحرُّ نارِ الجحيم أبردُهَا
ويشهد لهذا المعنى حديثُ معاذ ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( مَنْ كان آخِرَ كلامِهِ لا إله إلا الله ، دخل الجنَّة ))( ) ، فإنَّ المحتضرَ لا يكادُ يقولُها إلاَّ بإخلاصٍ ، وتوبةٍ ، وندمٍ على ما مضى ، وعزم على أنْ لا يعودَ إلى مثله ، ورجح هذا القولَ الخطابيُّ في مصنَّفٍ له مفرد في التوحيد ، وهو حسن .