جامع العلوم والحكم
في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم
ابن رجب الحنبلي
الحديث السابع
عَنْ تَميمٍ الدَّاريِّ t : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( الدِّينُ النَّصيحَةُ ثلاثاً )) ، قُلْنا : لِمَنْ يا رَسُولَ اللهِ ؟ قالَ : (( للهِ ولِكتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأئمَّةِ المُسلِمِينَ وعامَّتِهم )) رَواهُ مُسلمٌ .
هذا الحديث خرَّجه مسلم([1]) من رواية سُهيل بن أبي صالح ، عن عطاء بنِ يزيد الليثي ، عن تميم([2]) الدَّاري ، وقد روي عن سهيل وغيره ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ([3]) ، وخرَّجه الترمذي ([4]) من هذا الوجه ، فمن العلماء مَنْ صححه من الطريقين جميعاً ، ومنهم من قال : إنَّ الصحيح حديثُ تميم ، والإسناد الآخر وهم([5]) .
وقد رُوي هذا الحديثُ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديث ابنِ عمر ، وثوبان ، وابنِ عباسٍ ، وغيرهم([6]) .
وقد ذكرنا في أوَّل الكتاب عن أبي داود : أنَّ هذا الحديث أحدُ الأحاديث التي يدور عليها الفقه([7]) .
وقال الحافظ أبو نُعيم : هذا حديثٌ له شأن ، ذكر محمدُ بنُ أسلم الطوسي أنَّه أحدُ أرباع الدين([8]) .
وخرَّج الطبرانيُّ([9]) من حديث حُذيفة بن اليمان ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( مَنْ لا يَهْتَمُّ بأمرِ المُسلمين فليس منهم ، ومَنْ لَمْ يُمْسِ ويُصْبِحْ ناصِحاً للهِ ولرسوله ولكتابه ولإمامِه ولعامَّة المسلمين فليس منهم )) .
وخرَّج الإمامُ أحمد([10]) من حديث أبي أمامة ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : (( قال الله جل جلاله : أحبُّ ما تعبَّدَني به عبدي النصحُ لي )) .
وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عموماً ، وفي بعضها : النصح لولاة أمورهم ، وفي بعضها : نصح ولاة الأمور لرعاياهم .
فأما الأوَّل : وهو النصحُ للمسلمين عموماً([11]) ، ففي ” الصحيحين ” ([12]) عن جرير بن عبد الله قال : بايعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على إقامِ الصَّلاةِ ، وإيتاءِ الزكاة ، والنصح لكلِّ مسلم .
وفي ” صحيح مسلم ” ([13]) عن أبي هريرة ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( حقُّ المؤمن على المؤمن ستّ )) فذكر منها : (( وإذا استنصحك فانصَحْ له )) . ورُوي هذا الحديث من وجوه أخر عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ([14]) .
وفي ” المسند ” ([15]) عن حكيم بن أبي يزيد ، عن أبيه ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال
: (( إذا استَنْصَحَ أحَدُكُم أخاه ، فليَنْصَح له )) .
وأما الثاني : وهو النصحُ لولاة الأمور ، ونصحهم لرعاياهم ، ففي ” صحيح
مسلم ” عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( إنَّ الله يرضى لكم ثلاثاً : يَرْضَى
لكم ([16]) أنْ تعبُدُوه ولا تُشْرِكوا به شيئاً ، وأنْ تعتصِمُوا بحبلِ اللهِ جميعاً ولا تفرَّقوا ، وأنْ تُناصِحُوا مَنْ وَلاّه الله أمركم([17]) )) .
وفي ” المسند ” ([18]) وغيره عن جُبير بنِ مطعم : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بالخَيْفِ مِنْ مِنى : (( ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهنَّ قلبُ امرئ مسلم : إخلاصُ العمل لله ، ومناصحةُ ولاةِ الأمر ، ولزومُ جماعة المسلمين )) . وقد روى هذه الخطبة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم جماعةٌ منهم أبو سعيد الخدري([19]) .
وقد رُوي حديثُ أبي سعيد بلفظ آخر خرَّجه الدَّارقطني في ” الأفراد “([20]) بإسناد جيد ، ولفظه : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهن قلبُ امرئٍ مسلم : النصيحةُ لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين )) .
وفي ” الصحيحين ” ([21]) عن معقل بن يسار ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً ثُمَّ لم يُحِطْها بنصيحةٍ إلا لم يَدْخُلِ الجنة )) .
وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السَّلامُ أنَّهم نصحوا لأممهم كما أخبر بذلك([22]) عن نوحٍ ، وعن صالح ، وقال تعالى ([23]) : } لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ {([24]) يعني : أنَّ من تخلف عن الجهادِ لعذر ، فلا حرج عليه بشرط أنْ يكونَ ناصحاً لله ورسوله في تخلُّفِهِ ، فإنَّ المنافقين كانوا يُظهرون الأعذارَ كاذبين ، ويتخلَّفون عن الجهاد من غير نصح لله ورسوله .
وقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الدينَ([25]) النصيحةُ ، فهذا يدلُّ على أنَّ النصيحة تَشْمَلُ خصالَ الإسلام والإيمانِ والإحسانِ التي ذكرت في حديث جبريل ، وسمَّى ذلك كُلَّه([26]) ديناً ، فإنَّ النُّصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهِها ، وهو مَقام الإحسّان ، فلا يكملُ النُّصحُ لله بدون ذلك ، ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة ، ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرَّب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه وترك المحرَّمات والمكروهات على هذا الوجه أيضاً .
وفي مراسيل الحسن ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( أرأيتُم لو كان لأحدكم عبدانِ ، فكان أحدهما يُطِيعُه إذا أمره ، ويُؤدي إليه إذا ائتمنه ، وينصح له إذا غابَ عنه ، وكان الآخر يَعصيه إذا أمره ، ويخونُه إذا ائتمنه ، ويغِشُّه إذا غاب عنه كانا
سواء ؟ )) قالوا : لا ، قال : (( فكذاكم أنتم عند الله جل جلاله ))([27]) خرَّجه ابنُ أبي
الدنيا .
وخرَّج الإمام أحمد([28]) معناه من حديث أبي الأحوص ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ
صلى الله عليه وسلم .
وقال الفضيل بنُ عياض : الحبُّ أفضلُ من الخوف ، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يُحبك ، والآخر يخافك ، فالذي يُحبّك منهما ينصحُك([29]) شاهداً كنت أو غائباً لِحبه إيَّاك ، والذي يخافك عسى أنْ ينصحَك إذا شَهِدْتَ لما يخاف ، ويغشك إذا غبتَ ولا ينصحُك([30]) .
قال عبدُ العزيز بن رفيع : قال الحواريون لعيسى u : ما الخالصُ من
العمل ؟ قال : ما لا تُحِبُّ أنْ يَحْمَدَك الناسُ عليه ، قالوا : فما النصحُ لله ؟ قال : أنْ تبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس ، وإنْ عَرَض لكَ أمران : أحدهما لله ، والآخرُ للدنيا ، بدأت بحقِّ الله تعالى([31]) .
قال الخطابيُّ : النصيحةُ كلمةٌ يُعبر بها عن جملة هي إرادةُ الخيرِ للمنصوح له ، قال : وأصلُ النصح في اللغة الخُلوص ، يقال : نصحتُ العسل : إذا خلصتَه من الشمع .
فمعنى النصيحة لله سبحانه : صحةُ الاعتقادِ في وحدانيته ، وإخلاصُ النية في
عبادته ، والنصيحة لكتابه : الإيمانُ به ، والعمل بما فيه ، والنصيحة لرسوله : التصديق بنبوّته ، وبذل الطاعة له فيما أمَرَ به ، ونهى عنه ، والنصيحةُ لعامة المسلمين : إرشادُهم إلى مصالحهم . انتهى([32]) .
وقد حكى الإمامُ أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتاب ” تعظيم قدر
الصَّلاة ” ([33]) عن بعض أهلِ العلم أنَّه فسَّر هذا الحديث بما لا مزيدَ على حسنه ، ونحن نحكيه هاهنا بلفظه . قال محمد بن نصر : قال بعض أهل العلم : جماعُ تفسير النصيحة هو عنايةُ القلب للمنصوح له مَنْ كان ، وهي على وجهين : أحدهما
فرض ، والآخر نافلة ، فالنصيحةُ المفترضة لله : هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض ، ومجانبة ما حرَّم .
وأما النصيحة التي هي نافلة ، فهي إيثار مَحبته على محبة نفسه ، وذلك أنْ يَعْرِض أمران ، أحدهما لنفسه ، والآخرُ لربه ، فيبدأ بما كان لربه ، ويؤخر ما كان لنفسه ، فهذه جملة تفسير النصيحة لله ، الفرض منه والنافلة ، ولذلك تفسير ، وسنذكر بعضَه لِيفهم ([34]) بالتفسير من لا يفهم الجملة .
فالفرضُ منها مجانبةُ نهيه ، وإقامةُ فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقاً له ،
فإنْ عَجَزَ عن الإقامة بفرضه لآفة حَلَّتْ به من مرض ، أو حبس ، أو غير ذلك ،
عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلةُ المانعةُ له ، قال الله جل جلاله : } لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ {([35]) ، فسماهم محسنين لِنصيحتهم لله بقلوبهم لمَّا مُنِعُوا من الجهاد بأنفسهم .
وقد ترفع الأعمالُ كُلُّها عن العبد في بعض الحالات ، ولا يُرفع عنه النصحُ
لله ، فلو كان من المرض بحالٍ لا يُمكنه عملٌ بشيء من جوارحه بلسانٍ ولا غيره ،
غير أنَّ عقلَه ثابتٌ ، لم يسقط عنه النصحُ لله بقلبه([36]) وهو أنْ يندمَ على ذنوبه ، وينويَ إنْ صحَّ أنْ يقومَ بما افترض الله عليه ، ويجتنبَ ما نهاه عنه ، وإلا كان غير ناصح لله بقلبه .
وكذلك النصحُ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أوجبه على الناس عن أمرِ ربه ، ومن النصح الواجب لله أنْ لا يرضى بمعصية العاصي ، ويُحِبَّ طاعةَ من أطاعَ الله ورسولَه .
وأما النصيحةُ التي هي نافلةٌ لا فرض ([37]) : فبذل المجهود بإيثار الله تعالى على كُلِّ محبوب بالقلب وسائرِ الجوارح حتى لا يكونَ في الناصح فضل عن غيره ، لأنَّ الناصحَ إذا اجتهد لم يؤثر نفسه عليه، وقام بكُلِّ ما كان في القيام به سرورُه ومحبتُه ، فكذلك الناصحُ لربه ، ومن تنفَّل لله بدون الاجتهاد ، فهو ناصح على قدر عمله ، غير مستحق للنصح بكماله .
وأما النصيحة لكتاب الله ، فشدةُ حبه وتعظيمُ قدره ، إذ هو كلامُ الخالق ،
وشدةُ الرغبة في فهمه ، وشدةُ العناية([38]) لتدبره والوقوف عند تلاوتهِ ؛ لِطلب معاني ما أحبَّ مولاه أنْ يفهمه عنه ، ويقوم به له بعدَ ما يفهمه ، وكذلك الناصحُ من العباد يفهم وَصِيَّةَ من ينصحه ، وإنْ ورد عليه كتابٌ منه ، عُني بفهمه ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه ، فكذلك الناصحُ لِكتاب ربه ، يعنى بفهمه ؛ ليقوم لله بما أمر به كما يحب ويرضى ، ثم يَنْشُرُ ما فهم في العباد ويُديم دراسته بالمحبة له ، والتخلق بأخلاقه ، والتأدُّب بآدابه .
وأما النصيحة للرسولِ صلى الله عليه وسلم في حياته: فبذل المجهود في طاعته ونصرته ومعاونته، وبذل المال إذا أراده والمسارعة إلى محبته . وأما بعد وفاته : فالعناية بطلب سنته ، والبحث عن أخلاقه وآدابه ، وتعظيم أمره ، ولزوم القيام به ، وشدَّة الغضب ، والإعراض عمَّن تديَّن بخلاف سنته ، والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا ، وإنْ كان متديناً بها ، وحبّ مَنْ كان منه بسبيلٍ من قرابة ، أو صِهرٍ ، أو هِجرةٍ أو نُصرةٍ ، أو صحبة ساعة من ليلٍ أو نهارٍ على الإسلام والتشبه به في زيِّه ولباسه .
وأما النصيحةُ ([39]) لأئمة المسلمين : فحبُّ صلاحِهم ورشدهِم وعدلهم ، وحبُّ اجتماع الأمة عليهم ، وكراهةُ افتراقِ الأمة عليهم ، والتدينُ بطاعتهم في طاعة الله جل جلاله ، والبغضُ لمن رأى الخروجَ عليهم ، وحبُّ([40]) إعزازهم في طاعة الله جل جلاله .
وأما النصيحةُ للمسلمين : فأنْ يُحِبَّ لهم ما يُحِبُّ لنفسه ، ويكره لهم
ما يكره لنفسه ، ويُشْفِقَ عليهم ، ويرحمَ صغيرهم ، ويُوَقِّرَ كبيرَهم ، ويَحْزَنَ
لحزنهم ، ويفرحَ لفرحهم ، وإنْ ضرَّه ذلك في دنياه كرخص أسعارهم ، وإنْ
كان في ذلك فواتُ ربح ما يبيعُ من تجارته ، وكذلك جميعُ ما يضرُّهم عامة ، ويحب صلاحَهم وألفتَهم ودوامَ النعم عليهم ، ونصرَهم على عدوهم ، ودفعَ كل أذى ومكروه عنهم .
وقال أبو عمرو بن الصلاح ([41]) : النصيحة كلمةٌ جامعة تتضمَّنُ قيامَ الناصح للمنصوح له بوجوهِ الخير إرادةً وفعلاً.
فالنصيحةُ لله تعالى : توحيدُه ووصفُه بصفاتِ الكمال والجلال ، وتنـزيهُه عما يُضادُّها ويخالِفُها ، وتجنبُ معاصيه ، والقيامُ بطاعته ومحابه بوصفِ الإخلاصِ ، والحبُّ فيه والبغض فيه ، وجهادُ مَنْ كفر به تعالى وما ضاهى ذلك ، والدعاءُ إلى ذلك ، والحثُّ عليه .
والنصيحةُ لكتابه : الإيمانُ به وتعظيمُه وتنـزيهُه ، وتلاوتُه ([42]) حَقَّ تلاوته ، والوقوفُ مع أوامره ونواهيه ، وتفهُّم علومه وأمثاله ، وتدبرُ آياته ، والدعاءُ إليه ،
وذبُّ تحريف الغالين([43]) وطعنِ الملحدين عنه .
والنصيحةُ لِرسوله قريب من ذلك([44]) : الإيمان به وبما جاء به وتوقيرُه وتبجيلهُ ، والتمسك بطاعته، وإحياءُ سنته واستنشارة علومه ونشرُها ومعاداةُ من عاداه وعاداها، وموالاةُ من والاه ووالاها ، والتخلقُ بأخلاقه ، والتأدبُ بآدابه ومحبة آله وصحابته ونحو ذلك .
والنصيحة لأئمة المسلمين : معاونتُهم على الحق ، وطاعتُهم فيه ، وتذكيرهم به ، وتنبيههم في رفق ولطف ، ومجانبة الوثوب عليهم ، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك .
والنصيحةُ لعامة المسلمين : إرشادُهم إلى مصالحهم ، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم ، وستر عوراتهم ، وسدِّ خلاتهم ، ونصرتهم على أعدائهم ، والذبّ عنهم ، ومجانبة الغش والحسد لهم ، وأنْ يحبَّ لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ، وما شابه ذلك ، انتهى ما ذكره ([45]).
ومن أنواع نصحهم بدفع الأذى والمكروه عنهم : إيثارُ فقيرِهم وتعليمُ جاهلهم، وردُّ من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردِّهم إلى الحق ، والرفقُ بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محبة لإزالة فسادهم ولو بحصول ضررٍ له في دنياه ، كما قال بعضُ السَّلف : وددتُ أنَّ هذا الخلق أطاعوا الله وأنَّ لحمي قُرِضَ بالمقاريضِ([46]) ، وكان عمرُ بن عبد العزيز يقول : يا ليتنِي عملتُ فيكم
بكتابِ الله وعملتُم به ، فكلما عملتُ فيكم بسنة ، وقع منى عضوٌ حتى يكونَ آخر شيءٍ منها خروج نفسي .
ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله – وهو مما يختص به العلماء –
ردُّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة ، وبيانُ دلالتهما على ما يُخالف الأهواء
كلها ، وكذلك ردُّ الأقوال الضعيفة من زلات العلماء ، وبيانُ دلالة الكتاب والسنة على ردِّها ، ومن ذلك بيان ما صحَّ من حديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ومالم يصح منه بتبين حالِ رواته ومَنْ تُقْبَلُ رواياته منهم ومن لا تُقبل ، وبيان غلط مَنْ غلط من ثقاتهم الذين تقبل روايتهم .
ومن أعظمِ أنواع النصح أنْ يَنْصَحَ لمن استشاره في أمره ، كما قال صلى الله عليه وسلم :
(( إذا استَنْصَحَ أحدُكُم أخاه ، فليَنْصَحْ له )) ([47]) ، وفي بعض الأحاديث : (( إنَّ من حقِّ المسلم على المسلم أنْ ينصحَ له إذا غابَ )) ([48]) ومعنى ذلك : أنَّه إذا ذكر في غيبه بالسوء أنْ ينصره ، ويرد عنه ، وإذا رأى من يريد أذاه في غيبه ، كفه عن ذلك ، فإنَّ النصح في الغيب يدلُّ على صدق النصح، فإنَّه قد يظهر النصحَ في حضوره تملقاً، ويغشه في غيبه .
وقال الحسن : إنَّك لن تَبْلُغ حقَّ نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما تَعْجَزُ عنه .
قال الحسن : وقال بعضُ أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إنْ شئتم لأقسمنَّ لكم بالله إنَّ أحبَّ عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده ويُحببون عباد الله إلى الله ، ويسعون في الأرض بالنصيحة([49]) .
وقال فرقد السَّبَخِيُّ : قرأتُ في بعض الكتب : المحبُّ لله جل جلاله أميرٌ مُؤَمَّرٌ على الأمراء ، زمرتُه أوَّلُ الزمر يومَ القيامة ، ومجلسُه أقربُ المجالس فيما هناك والمحبةُ
منتهى القربة والاجتهاد ، ولن يسأَمَ المحبون من طول اجتهادهم لله جل جلاله ، يحبُّونه ويُحِبُّونَ ذكره ، ويُحبِّبونه إلى خلقه ، يمشون بَيْنَ عباده بالنصائح ، ويخافون عليهم من أعمالهم يومَ تبدو الفضائح ، أولئك أولياءُ الله وأحبَّاؤه وأهلُ([50]) صفوته ، أولئك الذين لا راحةَ لهم دونَ لقائه .
وقال ابنُ عُلَيَّةَ في قول أبي بكر المزني : ما فاق أبو بكر t أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم بصومٍ ولا صلاةٍ ، ولكن بشيء كان في قلبه ، قال : الذي كان في قلبه الحبُّ لله جل جلاله ، والنصيحة في خلقه .
وقال الفضيلُ بن عياض : ما أدركَ عندنا مَنْ أدرك بكثرة الصلاة والصيام ، وإنما أدرك عندنا بسخاءِ الأنفس ، وسلامةِ الصدور ، والنصح للأمة([51]) .
وسئل ابنُ المباركَ : أيُّ الأعمال أفضلُ ؟ قال : النصحُ لله .
وقال معمر : كان يقال : أنصحُ الناسِ لك مَنْ خاف الله فيك .
وكان السَّلفُ إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ ، وعظوه سراً حتّى قال بعضهم : مَنْ وعظ أخاه فيما بينه وبينَه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنَّما وبخه([52]).
وقال الفضيل : المؤمن يَسْتُرُ ويَنْصَحُ ، والفاجرُ يهتك ويُعيِّرُ .
وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كان مَنْ كان قبلكم إذا رأى الرجلُ من أخيه شيئاً يأمره في رفق ، فيؤجر في أمره ونهيه ، وإنَّ أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره .
وسئل ابنُ عباس – رضي الله عنهما – عن أمر السلطان بالمعروف ، ونهيه عن المنكر ، فقال : إنْ كنت فاعلاً ولابدَّ ، ففيما بينك وبينه([53]) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله : ليس على المسلم نصحُ الذمي ، وعليه نصحُ المسلم . وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( والنصح لكل مسلم ، وأنْ ينصح لجماعةِ المسلمين وعامتهم ))([54]) .
([1]) في ” صحيحه ” 1/53 ( 55 ) ( 95 ) و( 96 ) و1/54 ( 55 ) ( 96 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 837 ) ، وأحمد 4/102 ، والبخاري في ” التاريخ الكبير ” 6/248
( 2990 ) ، وابن أبي عاصم في ” السنة ” ( 1089 ) و( 1090 ) و( 1091 ) ، وعبد الله ابن أحمد في ” زياداته ” 4/102 ، والنسائي 7/156 وفي ” الكبرى ” ، له ( 7820 )
و( 7821 ) و( 8753 ) ، وابن حبان ( 4574 ) و( 4575 ) ، والبيهقي 8/163 وفي
” شعب الإيمان “، له ( 7400 ) و( 7401 ) ، والبغوي ( 3514 ) من حديث تميم الداري، به .
([2]) (( عن تميم )) لم ترد في ( ص ) .
([3]) أخرجه : أحمد 2/297 ، وابن أبي عاصم في ” السنة ” ( 1092 ) و( 1093 )
و( 1094 ) ، والنسائي 7/157 وفي “الكبرى” ، له ( 7822 ) و( 7823 ) و( 8754 ) ، وابن حجر في ” تغليق التعليق ” 2/58 من حديث أبي هريرة ، به .
([4]) في ” جامعه ” ( 1926 ) .
([5]) قال البخاري في ” التاريخ الأوسط ” 2/35 : (( مدار الحديث كله على تميم ولم يصح عن أحد غير تميم )) . وانظر : فتح الباري 1/182 .
([6]) أخرجه : الدارمي ( 2757 ) ، والبزار كما في ” كشف الأستار ” ( 62 ) ، وابن حجر في
” تغليق التعليق ” 2/60 من حديث ابن عمر ، به .
وأخرجه البخاري في ” التاريخ الكبير ” 2/11 ( 1522 ) ، وابن أبي عاصم في ” السنة “
( 1095 ) ، والروياني في “مسند الصحابة” ( 657 ) ، والطبراني في ” الأوسط ” ( 1206 ) من حديث ثوبان ، به .
وأخرجه : أحمد 1/351 ، والبزار كما في ” كشف الأستار ” ( 61 ) ، والطبراني في
” الأوسط ” ( 11198 ) ، وابن حجر في “تغليق التعليق” 2/59 من حديث ابن عباس، به .
([7]) في ( ص ) : (( الدين )) .
([8]) انظر : صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح 1/221 .
([9]) في ” الأوسط ” ( 7473 ) وفي ” الصغير ” ، له ( 890 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في ” أخبار أصبهان ” 2/252 من حديث حذيفة بن اليمان ، به ، وإسناده ضعيف ، انظر : مجمع الزوائد 1/87 .
([10]) في ” مسنده ” 5/254 . =
= وأخرجه : عبد الله بن المبارك في ” الزهد ” ( 204 ) ، والطبراني في ” الكبير ” ( 7833 )
و( 7880 ) ، وأبو نعيم في ” الحلية ” 8/175 ، والبغوي في ” شرح السنة ” ( 3515 ) من حديث أبي أمامة ، به ، وإسناده ضعيف جداً لضعف عبيد الله بن زَحْر ، ولشدة ضعف علي ابن يزيد الألهاني .
([11]) من قوله : (( وفي بعضها : النصح لولاة … )) إلى هنا سقط من ( ص ) .
([12]) صحيح البخاري 1/22 ( 57 ) و1/139 ( 524 ) و2/131 ( 1401 ) و3/94
( 2157 ) و3/247 ( 2715 )، وصحيح مسلم1/54 ( 56 ) ( 97 ) و( 98 ) و( 99 ).
وأخرجه : الحميدي ( 795 ) ( 798 ) ، وأحمد 4/360 و361 و364 و365 ، والدارمي
( 2543 ) ، والترمذي ( 1925 ) ، والنسائي 7/152 وفي ” الكبرى ” ، له ( 321 )
و( 7781 ) ، وابن خزيمة ( 2259 ) من حديث جرير بن عبد الله ، به .
([13]) 7/3 ( 2162 ) ( 5 ) .
وأخرجه : أحمد 2/321 و372 و412 ، والبخاري في ” الأدب المفرد ” ( 925 )
و( 991 ) ، والترمذي ( 2737 ) ، والنسائي 4/53 وفي ” الكبرى ” ، له ( 2065 ) ، وأبو يعلى ( 6504 ) ، وابن حبان ( 242 ) ، والبيهقي 5/347 و10/108 وفي “شعب الإيمان” ( 9167 ) ، والبغوي ( 1405 ) من حديث أبي هريرة ، به .
([14]) أخرجه : أحمد 1/89 ، والدارمي ( 2633 ) ، والبزار ( 850 ) من حديث علي ، به .
وأخرجه : أحمد 2/68 من حديث ابن عمر ، به .
([15]) مسند الإمام أحمد 3/418 .
وأخرجه : الطيالسي ( 1312 ) ، وعبد بن حميد ( 438 ) ، والطحاوي في ” شرح المعاني ” 4/11 ، والطبراني في ” الكبير ” 22/( 888 ) – ( 892 ) عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه ، به ، وإسناد الحديث فيه اضطراب من قبل عطاء بن السائب ؛ لكن المتن له ما يعضده .
([16]) عبارة : (( يرضى لكم )) سقطت من ( ص ) .
([17]) صحيح مسلم 5/130 ( 1715 ) ( 10 ) .
أخرجه : أحمد 2/327 و360 و367 ، والبخاري في ” الأدب المفرد ” ( 442 ) ، وابن حبان ( 3388 ) من حديث أبي هريرة ، به .
([18]) مسند الإمام أحمد 4/80 .
وأخرجه : ابن حبان في ” المجروحين ” 1/4-5 ، والطبراني في ” الكبير ” ( 1541 ) ، والحاكم 1/87 من حديث جبير بن مطعم ، به . وهو حديث قويٌّ .
([19]) أخرجه البزار كما في ” كشف الأستار ” ( 141 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، به .
([20]) لم أجده في أطراف الغرائب والأفراد .
([21]) صحيح البخاري 9/80 ( 7150 ) ، وصحيح مسلم 1/87 ( 142 ) ( 229 ) و6/8
( 142 ) ( 22 ) .
وأخرجه : أحمد 5/27 ، وأبو عوانة 4/386 ، وابن قانع في ” معجم الصحابة ” 3/79 من حديث معقل بن يسار ، به .
([22]) سقطت من ( ص ) .
([23]) (( تعالى )) لم ترد في ( ج ) .
([24]) التوبة : 91 .
([25]) زاد بعدها في ( ص ) : (( عند الله )) .
([26]) سقطت من ( ص ) .
([27]) أخرجه : البيهقي في كتاب ” الزهد الكبير ” 2/285 ، وإسناده ضعيف لإرساله .
([28]) في ” مسنده ” 4/137 .
وأخرجه : الحميدي ( 883 ) ، والطبراني في ” الكبير ” 19/( 622 ) عن أبي الأحوص ، عن أبيه ، به ، وهو حديث صحيح .
([29]) عبارة : (( منهما ينصحك )) سقطت من ( ص ) .
([30]) انظر : التخويف من النار للمصنف : 17 .
([31]) أخرجه : أحمد في ” الزهد ” ( 308 ) ، وابن أبي حاتم في ” التفسير ” ( 10207 ) عن أبي ثمامة الصائدي ، به .
وانظر : نوادر الأصول للحكيم الترمذي 2/27 .
([32]) انظر : حاشية السندي 1/158 .
([33]) ” تعظيم قدر الصلاة ” 2/691-694 .
([34]) في ( ص ) : (( وكذلك فصل تفسيره بعضهم ليفهم )) .
([35]) التوبة : 91 .
([36]) زاد بعدها في ( ص ) : (( وكذا النصح لرسوله فيما أوجبه على الناس )) .
([37]) عبارة : (( لا فرض )) سقطت من ( ص ) .
([38]) عبارة : (( فهمه وشدة العناية )) سقطت من ( ص ) .
([39]) زاد بعدها في ( ص ) : (( لكتابه )) .
([40]) سقطت من ( ص ) .
([41]) ” صيانة صحيح مسلم ” : 223-224 .
([42]) عبارة : (( حق تلاوته )) سقطت من ( ص ) .
([43]) الذب : يذب ذباً : دفع ومنع . تاج العروس 2/419 ( ذيب ) .
والتحريف : هو تغيير الكلمة عن معناها . العين : 183 ( حرف ) .
والغالين : من غلا : غلا الرجل في الأمر غُلواً : جاوز الحد . مجمل اللغة 3/683 ( غلو ) .
ومراد المصنف راجعه في كتاب ” شرح التبصرة والتذكرة ” 1/332-334 مع تعليقي عليه .
([44]) عبارة : (( قريب من ذلك )) سقطت من ( ص ) .
([45]) أي : ابن الصلاح .
([46]) هذا قول زهير بن نعيم البابي . انظر : صفوة الصفوة لابن الجوزي 4/7 ، وتهذيب الكمال للمزي 3/40 ، وتهذيب التهذيب لابن حجر 3/312 .
([47]) سبق تخريجه وهو في ” مسند الإمام أحمد ” 3/418 .
([48]) أخرجه : أحمد 2/321 ، والترمذي ( 2737 ) ، والنسائي 4/53 وفي ” الكبرى ” ، له
( 2065 ) ، والبيهقي في ” شعب الإيمان ” ( 8753 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وقال الترمذي : (( حديث صحيح )) .
([49]) أخرجه : ابن أبي الدنيا في ” الأولياء ” 1/20 عن رجل من أصحاب محمد r ، به .
([50]) سقطت من ( ص ) .
([51]) أخرجه : أبو نعيم في ” الحلية ” 8/103 ، والبيهقي في ” شعب الإيمان “
( 10891 ) .
([52]) قال الشافعي : من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه .
أخرجه : أبو نعيم في ” الحلية ” 9/140 .
([53]) أخرجه: سعيد بن منصور في ” سننه ” ( 846 ) ، والبيهقي في ” شعب الإيمان ” ( 7592 ).
([54]) سبق تخريجه .