كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ]
ِ وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ (الْعَدْلِ) لُغَةً وَشَرْعًا.
أَمَّا الْعَدْلُ فِي اللُّغَةِ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُتَوَسِّطِ فِي الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ فِي طَرَفَيِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ عَدْلًا.
فَالْوَسَطُ وَالْعَدْلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَدْ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ الْمُقَابِلُ لِلْجَوْرِ، وَهُوَ اتِّصَافُ الْغَيْرِ بِفِعْلِ مَا يَجِبُ لَهُ، وَتَرْكِ مَا لَا يَجِبُ، وَالْجَوْرُ فِي مُقَابَلَتِهِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ: وَيُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ يَتَعَدَّى الْفَاعِلُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمَلِكِ الْمُحْسِنِ إِلَى رَعِيَّتِهِ: عَادِلٌ.
وَأَمَّا فِي لِسَانِ الْمُتَشَرِّعَةِ، فَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَهْلِيَّةُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(1) الْغَرَضُ؛ بَالْغَيْنِ، صَوَابُهُ: الْفَرْضُ؛ بِالْفَاءِ.
وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَهْلِيَّةِ إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقَامَةِ السِّيرَةِ وَالدِّينِ.
وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى هَيْئَةٍ رَاسِخَةٍ فِي النَّفْسِ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ جَمِيعًا، حَتَّى تَحْصُلَ ثِقَةُ النُّفُوسِ بِصِدْقِهِ.
وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَبَعْضِ الصَّغَائِرِ وَبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ.
أَمَّا الْكَبَائِرُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ” «الْكَبَائِرُ تِسْعٌ؛ الشِّرْكُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالزِّنَا، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَالْإِلْحَادُ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ» “.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَعَ ذَلِكَ: «أَكْلُ الرِّبَا، وَالِانْقِلَابُ إِلَى الْأَعْرَابِ بَعْدَ هِجْرَةٍ» .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ: السَّرِقَةُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ (1) .
وَأَمَّا بَعْضُ الصَّغَائِرِ فَمَا يَدُلُّ فِعْلُهُ عَلَى نَقْضِ الدِّينِ، وَعَدَمِ التَّرَفُّعِ عَنِ الْكَذِبِ وَذَلِكَ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، وَاشْتِرَاطِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ.
وَأَمَّا بَعْضُ الْمُبَاحَاتِ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصِ الْمُرُوءَةِ، وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ، كَالْأَكْلِ فِي السُّوقِ وَالْبَوْلِ فِي الشَّوَارِعِ وَصُحْبَةِ الْأَرَاذِلِ، وَالْإِفْرَاطِ فِي الْمَزْحِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سُرْعَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْكَذِبِ، وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ.
وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ اجْتِنَابِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْعَدَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَجْتَنِبُ هَذِهِ الْأُمُورَ أَحْرَى أَنْ لَا يَجْتَنِبَ الْكَذِبَ، فَلَا يَكُونُ مَوْثُوقًا بِقَوْلِهِ.
وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي اشْتِرَاطِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ فِي الشَّهَادَةِ.
وَتَخْتَصُّ الشَّهَادَةُ بِشُرُوطٍ أُخَرَ: كَالْحُرِّيَّةِ، وَالذُّكُورَةِ، وَالْعَدَدِ وَالْبَصَرِ، وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ وَالْعَدَاوَةِ.
وَإِذْ أَتَيْنَا شُرُوطَ الرِّوَايَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ مَسَائِلَ مُتَشَعِّبَةٍ عَنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ جَرَتِ الْعَادَةُ بِذِكْرِهَا وَهِيَ ثَمَانُ مَسَائِلَ.
(1) انْظُرْ تَعْرِيفَ الْكَبِيرَةِ وَأَحَادِيثِهَا فِي كُتُبِ الْكَبَائِرِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِي تَفْسِيرِهِ لِآيَةِ (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) سُورَةُ النِّسَاءِ.
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَجْهُولَ الْحَالِ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ]
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَجْهُولَ الْحَالِ (1) غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ بِحَالِهِ وَمَعْرِفَةِ سِيرَتِهِ، وَكَشْفِ سَرِيرَتِهِ، أَوْ تَزْكِيَةِ مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَتَعْدِيلُهُ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعُهُ: يُكْتَفَى فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالسَّلَامَةِ عَنِ الْفِسْقِ ظَاهِرًا، وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ بِحُجَجٍ:
الْأُولَى: أَنَّ الدَّلِيلَ يَنْفِي قَبُولَ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِيمَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ بِالِاخْتِبَارِ بِمَعْنَى لَا وُجُودَ لَهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ ظُهُورِ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْآيَةُ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى امْتِنَاعِ قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَمَنْ ظَهَرَ إِسْلَامُهُ وَسَلِمَ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا، لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فَاسِقٌ حَتَّى يَنْدَرِجَ تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ.
وَاحْتِمَالُ وُجُودِ الْفِسْقِ فِيهِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ فَاسِقًا بِدَلِيلِ الْعَدْلِ الْمُتَّفِقِ عَلَى عَدَالَتِهِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مَجْهُولُ الْحَالِ فَلَا يُقْبَلُ إِخْبَارُهُ فِي الرِّوَايَةِ؛ دَفْعًا لِاحْتِمَالِ مَفْسَدَةِ الْكَذِبِ، كَالشَّهَادَةِ فِي الْعُقُوبَاتِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَانَ احْتِمَالُ الْكَذِبِ قَائِمًا (ظَاهِرًا) ، غَيْرَ أَنَّ احْتِمَالَ الصِّدْقِ مَعَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا أَظْهَرُ مِنِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ.
وَمَعَ ذَلِكَ، فَاحْتِمَالُ الْقَبُولِ يَكُونُ أَوْلَى مِنَ احْتِمَالِ الرَّدِّ، وَلَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ أَتَمُّ مِنْهُ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْعَدَدُ وَالْحُرِيَّةُ مُشْتَرَطًا فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ، وَمُتَعَبَّدًا فِيهَا بِأَلْفَاظٍ خَاصَّةٍ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ فِي الرِّوَايَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ قَالَ ” أَعْلَمُ ” بَدَلَ قَوْلِهِ ” أَشْهَدُ ” لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا.
(1) مَجْهُولُ الْحَالِ: مَنْ رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ وَلَمْ يُوثَّقْ، وَيُسَمَّى مَسْتُورًا، أَمَّا بِمَجْهُولِ الْعَيْنِ فَهُوَ مَنْ عُرِفَ اسْمُهُ وَلَكِنِ انْفَرَدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ وَاحِدٌ، وَمَنْ لَمْ يُسَمَّ فَمُبْهَمٌ كَحَدَّثَنِي رَجُلٌ وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ وَهُوَ أَدْخُلُ فِي جَهَالَةِ الْعَيْنِ مِمَّا قَبْلَهُ
وَعَلَى هَذَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ اشْتِرَاطِ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَنَّ بُلُوغَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْفِقْهِ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْفَتْوَى، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ حَالُ الرَّاوِي بِالِاخْتِبَارِ، فَلَا تُقْبَلُ أَخْبَارُهُ دَفْعًا لِلْمَفْسَدَةِ اللَّازِمَةِ مِنْ فَوَاتِ الشَّرْطِ كَمَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ بِالِاخْتِبَارِ بُلُوغُ الْمُفْتِي رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُقَلِّدِ اتِّبَاعُهُ إِجْمَاعًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمُجْمَعُ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْعَدَالَةُ بِمَعْنَى ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا، أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، غَيْرَ أَنَّ مَا هُوَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.
كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِمَا سَبَقَ فِي الْحُجَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَبِتَقْدِيرِ ظُهُورِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ، فَالِاعْتِبَارُ بِالْمُفْتِي غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ بُلُوغَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ أَبْعَدُ فِي الْحُصُولِ مِنْ حُصُولِ صِفَةِ الْعَدَالَةِ.
وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَدَالَةُ أَغْلَبَ وُقُوعًا مِنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَاحْتِمَالُ عَدَمِ صِفَةِ الِاجْتِهَادِ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنْ عَدَمِ صِفَةِ الْعَدَالَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ قَوْلِ الْمُفْتِي مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ الْقَبُولُ بِعَدَمِ قَوْلِ الرَّاوِي مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ عَدَمَ الْفِسْقِ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنِيَّةُ مُبَالَغَةً فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، كَمَا فِي عَدَمِ الصَّبِيِّ وَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ، وَبِتَقْدِيرِ مُنَاسَبَتِهِ فَالْقِيَاسُ عَلَى الشَّهَادَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِمَا تَقَدَّمَ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَالُوا: رَدَّ عُمَرُ رِوَايَةَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ لَمَّا كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْحَالِ، وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَدَّ قَوْلَ الْأَشْجَعِيِّ فِي الْمُفَوَّضَةِ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِخَبَرِ فَاطِمَةَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ صِدْقُهَا (1) .
(1) الظَّاهِرُ أَنَّهُ اعْتَقَدَ مُعَارَضَةَ حَدِيثِهَا لِمَا فَهِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، وَقَوْلِهِ: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) سُورَةُ الطَّلَاقِ، فَرَدَّهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِجَهَالَةِ حَالِهَا.
وَلِهَذَا قَالَ: كَيْفَ نَقْبَلُ قَوْلَ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصْدَقَتْ أَمْ كَذِبَتْ.
وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ ظَهَرَ إِسْلَامُهُ وَسَلَامَتُهُ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا، فَاحْتِمَالُ صِدْقِهِ لَا مَحَالَةَ أَظْهَرُ مِنِ احْتِمَالِ كَذِبِهِ.
وَأَمَّا رَدُّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخَبَرِ الْأَشْجَعِيِّ فَإِنَّمَا كَانَ أَيْضًا لِعَدَمِ ظُهُورِ صِدْقِهِ عِنْدَهُ؛ وَلِهَذَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ بَوَّالًا عَلَى عَقِبَيْهِ؛ أَيْ: غَيْرِ مُحْتَرِزٍ فِي أُمُورِ دِينِهِ.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» “.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّا نَقُولُ: الْقَوْلُ بِوُجُوبِ قَبُولِ رِوَايَةِ مَجْهُولِ الْحَالِ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِيهَا (1) .
فَإِنْ قِيلَ: بَيَانُ وُجُودِ الدَّلِيلِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا النَّصُّ فَمِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} أَمْرٌ بِالتَّثَبُّتِ مَشْرُوطًا بِالْفِسْقِ فَمَا لَمْ يَظْهَرِ الْفِسْقُ لَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» ” (2) وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقُ، فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْخَبَرِ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُ الْأَعْرَابِيُّ، وَقَالَ: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ عِنْدَهُ، قَبْلَ شَهَادَتِهِ، وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ بِالصَّوْمِ لَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُ إِسْلَامُهُ
(1) فِي هَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ مَا هُوَ ظَنِّيٌّ بَلْ مَنْ تَتَبَّعَ الْمَسَائِلَ الْخِلَافِيَّةَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَجَدَ أَكْثَرَهَا ظَنِّيًّا بَلْ يَحَارُ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَتَكَافُئِهَا فِي نَظَرِهِ وَلَا يَقْوَى عَلَى التَّرْجِيحِ، وَمِنْ أُولَئِكَ الْآمِدِيُّ
(2) قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْمَجْمُوعَةِ الْمُفِيدَةِ: حَدِيثُ: نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، يَحْتَجُّ بِهِ أَهْلُ الْأُصُولِ وَلَا أَصْلَ لَهُ: أَقُولُ: قَدْ وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ أَشَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ إِنْكَارًا لِاعْتِذَارِهِ عَنْ قَتْلِهِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا
وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ فِسْقًا، فَالرِّوَايَةُ أَوْلَى (1) .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى قَبُولِ أَقْوَالِ الْعَبِيدِ وَالنِّسْوَانِ وَالْأَعْرَابِ الْمَجَاهِيلِ لَمَّا ظَهَرَ إِسْلَامُهُمْ وَسَلَامَتُهُمْ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاوِيَ مُسْلِمٌ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ فِسْقٌ، فَكَانَ خَبَرُهُ مَقْبُولًا كَإِخْبَارِهِ بِكَوْنِ اللَّحْمِ (لَحْمَ) مُذَكًّى، وَكَوْنِ الْمَاءِ طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، وَكَوْنِ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ رَقِيقَةً، وَكَوْنِهِ مُتَطَهِّرًا عَنِ الْحَدَثَيْنِ؛ حَتَّى يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَنَحْوِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ، وَرَوَى عَقِيبَ إِسْلَامِهِ خَبَرًا مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، فَمَعَ ظُهُورِ إِسْلَامِهِ وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يُوجِبُ فِسْقَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، يَمْتَنِعُ رَدُّ رِوَايَتِهِ، وَإِذَا قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ حَالَ إِسْلَامِهِ، فَطُولُ مُدَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْلَى أَنْ لَا تُوجِبَ رَدَّهُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ أَنَّ الْعَمَلَ بِمُوجِبِهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ فَاسِقًا أَوْ لَيْسَ فَاسِقًا، لَا عَلَى عَدَمِ عِلْمِنَا بِفِسْقِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ دُونَ الْبَحْثِ وَالْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ.
وَعَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَضَافَ الْحُكْمَ بِالظَّاهِرِ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إِلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، لَا بِنَفْسِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ، وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ مَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الِاطِّلَاعِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَحْوَالِ الْمُخْبِرِ لِصَفَاءِ جَوْهَرِ نَفْسِهِ وَاخْتِصَاصِهِ عَنِ الْخَلْقِ بِمَعْرِفَةِ مَا لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ، غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ (2) .
الثَّانِي: أَنَّهُ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لِقَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْعُقُوبَاتِ وَالْفَتْوَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ.
(1) أَصْلُ الْحَدِيثِ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ
(2) حَدِيثُ إِنْكَارِهِ عَلَى أُسَامَةَ بِقَوْلِهِ: ” أَشَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ” وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَدُلُّ نَصًّا عَلَى أَنَّ هَذَا حُكْمُ الْأُمَّةِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى قِيَاسٍ
الثَّالِثُ، الْمُعَارَضَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ أَحَدِ النَّصَّيْنِ وَتَأْوِيلِ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلِ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ وَمَا ذَكَرُوهُ آحَادٌ.
وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَعْلَمْ مِنْ حَالِ الْأَعْرَابِيِّ سِوَى الْإِسْلَامِ.
وَعَنِ الْإِجْمَاعِ، لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَبِلُوا رِوَايَةَ أَحَدٍ مِنَ الْمَجَاهِيلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِهَذَا، رَدُّوا رِوَايَةَ مَنْ جَهِلُوهُ كَرَدِّ عُمَرَ شَهَادَةَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، (1) وَرَدِّ عَلِيٍّ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ.
وَعَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ صُوَرِ الِاسْتِشْهَادِ وَمَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى رُتْبَةً وَأَشْرَفُ مَنْصِبًا مِنَ الْإِخْبَارِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصُّوَرِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَبُولِ مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِ الرَّاوِي فِيمَا هُوَ أَدْنَى الرُّتْبَتَيْنِ قَبُولُهُ فِي أَعْلَاهِمَا.
الثَّانِي: أَنَّ الْإِخْبَارَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصُّوَرِ مَقْبُولٌ مَعَ ظُهُورِ الْفِسْقِ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي: مِنَ الْمَعْقُولِ بِمَنْعِ قَبُولِ رِوَايَتِهِ دُونَ الْخِبْرَةِ بِحَالِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَذُوبًا، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَبْعِهِ.
وَإِنْ قُلْنَا: رِوَايَتُهُ فِي مَبْدَأِ إِسْلَامِهِ، فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي حَالَةِ دَوَامِهِ، لِمَا بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَدَوَامِهِ مِنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ، وَشِدَّةِ الْأَخْذِ بِمُوجِبَاتِهِ، وَالْحِرْصِ عَلَى امْتِثَالِ مَأْمُورَاتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَنْهِيَّاتِهِ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي أَمْرٍ مَحْبُوبٍ وَالْتَزَمَهُ، فَإِنَّ غَرَامَهُ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ يَكُونُ أَشَدَّ مِنْهُ فِي دَوَامِهِ.
(1) فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أَوَّلًا لَيْسَتْ مَجْهُولَةَ الْحَالِ عِنْدَ عُمَرَ، وَإِنَّمَا رَدَّ حَدِيثَهَا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِلْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا، وَثَانِيًا هِيَ صَحَابِيَّةٌ؛ وَالصَّحَابَةُ عُدُولٌ
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْفَاسِقُ الْمُتَأَوِّلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ فِسْقَ نَفْسِهِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
الْفَاسِقُ الْمُتَأَوِّلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ فِسْقَ نَفْسِهِ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِسْقُهُ مَظْنُونًا، أَوْ مَقْطُوعًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا، كَفِسْقِ الْحَنَفِيِّ إِذَا شَرِبَ النَّبِيذَ، فَالْأَظْهَرُ قَبُولُ رِوَايَتِهِ وَشَهَادَتِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا شَرِبَ الْحَنَفِيُّ النَّبِيذَ أُحِدُّهُ وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ.
وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ مَقْطُوعًا بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى الْكَذِبَ وَيَتَدَيَّنُ بِهِ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي امْتِنَاعِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ كَالْخَطَّابِيَّةِ مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ شَهَادَةَ الزُّورِ لِمُوَافَقِيهِمْ فِي الْمَذْهَبِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَفِسْقِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ اسْتَبَاحُوا الدَّارَ، وَقَتَلُوا الْأَطْفَالَ وَالنِّسْوَانَ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ رِوَايَتَهُ وَشَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْجُبَّائِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى امْتِنَاعِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ بِحُجَّةٍ ضَعِيفَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا، أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ الْمَفْرُوضَ، لَوْ كَانَ عَالِمًا بِفِسْقِهِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، فَإِذَا كَانَ جَاهِلًا بِفِسْقِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاسِقٍ، فَقَدِ انْضَمَّ إِلَى فِسْقِهِ فِسْقٌ آخَرُ وَخَطِيئَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ اعْتِقَادُهُ فِي الْفِسْقِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفِسْقٍ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ فَاسِقٌ، وَكَانَ مُتَحَرِّجًا مُحْتَرِزًا فِي دِينِهِ عَنِ الْكَذِبِ وَارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، فَكَانَ (1) إِخْبَارُهُ مُغَلِّبًا عَلَى الظَّنِّ صِدْقَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ فِسْقًا، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةٍ مُبَالَاتِهِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَعَدَمِ تَحَرُّزِهِ عَنِ الْكَذِبِ فَافْتَرَقَا.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ:
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} أَمْرٌ بِرَدِّ نَبَأِ الْفَاسِقِ.
(1) فَكَانَ – لَعَلَّهُ كَانَ يَحْذِفُ الْفَاءَ لِكَوْنِهِ جَوَابًا لِـ ” إِذَا ” الشَّرْطِيَّةِ
وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَطَعَ بِفِسْقِهِ، فَكَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ، غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِيمَنْ كَانَ فِسْقُهُ مَظْنُونًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مَقْطُوعٌ بِفِسْقِهِ، فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي خَبَرِ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَفِيمَنْ كَانَ فِسْقُهُ مَظْنُونًا، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ، فَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِقَبُولِ خَبَرِهِ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: بَيَانُ وُجُودِ الدَّلِيلِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ:
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” «إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» ” وَالْفَاسِقُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُحْتَرِزٌ عَنِ الْكَذِبِ، مُتَدَيِّنٌ بِتَحْرِيمِهِ، فَكَانَ صِدْقُهُ فِي خَبَرِهِ ظَاهِرًا، فَكَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومِ الْخَبَرِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالصَّحَابَةَ قَبِلُوا أَقْوَالَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَالْخَوَارِجِ مَعَ فِسْقِهِمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّ الظَّنَّ بِصِدْقِهِ مَوْجُودٌ، فَكَانَ وَاجِبُ الْقَبُولِ مُبَالَغَةً فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ قِيَاسًا عَلَى الْعَدْلِ وَالْمَظْنُونِ فِسْقُهُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَعَنِ الْإِجْمَاعِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَبِلَ شَهَادَةَ الْخَوَارِجِ وَقَتَلَةِ عُثْمَانَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِسْقَهُمْ، فَإِنَّ الْخَوَارِجَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا مُعْتَقِدِينَ فِسْقَ أَنْفُسِهِمْ.
وَمَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِ الْجَمِيعِ لِفِسْقِهِمْ، وَإِنْ قَبِلُوا شَهَادَتَهُمْ فَلَا يَتَحَقَّقُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ.
وَعَنِ الْقِيَاسِ بِالْفَرْقِ فِي الْأُصُولِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا.
أَمَّا فِي الْعَدْلِ فَلِظُهُورِ عَدَالَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِمَنْصِبِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، وَذَلِكَ يُنَاسِبُ قَبُولَهُ إِعْظَامًا لَهُ وَإِجْلَالًا (1) بِخِلَافِ الْفَاسِقِ.
وَأَمَّا فِي مَظْنُونِ الْفِسْقِ فَلِأَنَّ حَالَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ مَنْصِبِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ أَقْرَبُ مِنْ حَالِ مَنْ كَانَ فِسْقُهُ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَبُولِ ثُمَّ الْقَبُولِ هَاهُنَا.
(1) وَأَيْضًا عَدَالَتُهُ تُبْعِدُهُ عَنْ مَوَاطِنِ التُّهَمِ