تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » [الصِّنْفُ الثَّانِي فِي النَّهْيِ]

[الصِّنْفُ الثَّانِي فِي النَّهْيِ]

  • بواسطة

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)


[الصِّنْفُ الثَّانِي فِي النَّهْيِ]

[الْمَسْأَلَةُ النَّهْيَ عَنِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ الْمُفِيدَةِ لِأَحْكَامِهَا هَلْ يَقْتَضِي فَسَادَهَا]

اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ مُقَابِلًا لِلْأَمْرِ فَكُلُّ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْأَمْرِ عَلَى أُصُولِنَا وَأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ الْمُزَيَّفِ وَالْمُخْتَارِ.
فَقَدْ قِيلَ مُقَابِلُهُ فِي حَدِّ النَّهْيِ وَلَا يَخْفَى وَجْهُ الْكَلَامِ فِيهِ.
وَالْكَلَامُ فِي النَّهْيَ ” عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِنَا ” هَلْ لَهُ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ؟ فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ أَيْضًا، وَأَنَّ صِيغَةَ ” لَا تَفْعَلْ ” وَإِنْ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ سَبْعَةِ مَحَامِلَ: وَهِيَ التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ، وَبَيَانُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} ، وَالدُّعَاءُ كَقَوْلِهِ: ” لَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا “، وَالْيَأْسُ كَقَوْلِهِ: {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} ، وَالْإِرْشَادُ كَقَوْلِهِ: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} .
فَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي طَلَبِ التَّرْكِ وَاقْتِضَائِهِ، وَمَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ.
وَأَنَّهَا هَلْ هِيَ حَقِّيَّةٌ (1) فِي التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ أَوْ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا أَوْ مَوْقُوفَةٌ؟ فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُزَيَّفِ، وَالْمُخْتَارِ، وَالْخِلَافُ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِهِ، فَعَلَى وَزَانِ الْخِلَافِ فِي مُقَابَلَاتِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْأَمْرِ وَمَأْخَذِهَا كَمَأْخَذِهَا فَعَلَى النَّاظِرِ بِالنَّقْلِ وَالِاعْتِبَارِ.
غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ بِالنَّهْيِ، لِاخْتِصَاصِهَا بِمَأْخَذٍ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي مُقَابَلَاتِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْأَمْرِ، وَهِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ.


(1) حَقِّيَّةٌ – الصَّوَابُ حَقِيقَةٌ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى (1)

اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ الْمُفِيدَةِ لِأَحْكَامِهَا كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا هَلْ يَقْتَضِي فَسَادَهَا أَوْ لَا؟
فَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْحَنَابِلَةِ وَجَمِيعِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى فَسَادِهَا، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ الْفَسَادِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْفَسَادِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَالْقَفَّالِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِهِمْ.
وَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي أَنَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَفْسَدُ كَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِعَيْنِهِ (2) فَالنَّهْيُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ بَلْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
أَمَّا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنًى لِكَوْنِ التَّصَرُّفُ فَاسِدًا سِوَى انْتِفَاءِ أَحْكَامِهِ وَثَمَرَاتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ وَخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا مُفِيدًا لَهَا، وَالنَّهْيُ هُوَ طَلَبُ تَرْكِ الْفِعْلِ وَلَا إِشْعَارَ لَهُ بِسَلْبِ أَحْكَامِهِ وَثَمَرَاتِهِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا مُفِيدًا لَهَا.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: نَهَيْتُكَ عَنْ ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ حُلَّتِ الذَّبِيحَةُ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْحِلِّ، وَنَهَيْتُكَ عَنِ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ لِعَيْنِهِ وَإِنْ فَعَلْتَ مَلَكْتَهَا، وَنَهَيْتُكَ عَنْ بَيْعِ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا لِعَيْنِهِ وَإِنْ فَعَلْتَ


(1) انْظُرْ ص 281 – 420 مِنْ ج 29 مِنْ مَجْمُوعِ فَتَاوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ
(2) الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ هُوَ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ كَالْخَمْرِ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ شُرْبِهِ لِإِسْكَارِهِ، انْظُرْ نَقْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ لِهَذَا التَّقْسِيمِ فِي ج 29 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى

ثَبَتَ الْمِلْكُ، وَكَانَ الْبَيْعُ سَبَبًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَنَاقِضًا.
وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ التَّصَرُّفِ لِعَيْنِهِ مُقْتَضِيًا لِفَسَادِهِ لَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاقِضًا (1) .
وَأَمَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ طَلَبُ تَرْكِ الْفِعْلِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَقْصُودٍ دَعَا الشَّارِعُ إِلَى طَلَبِ تَرْكِ الْفِعْلِ (2) أَوْ لَا لِمَقْصُودٍ لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا لِمَقْصُودٍ.
أَمَّا عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ عَبَثٌ وَالْعَبَثُ قَبِيحٌ وَالْقَبِيحُ لَا يَصْدُرُ مِنَ الشَّارِعِ.
وَأَمَّا عَلَى أُصُولِنَا (3) فَإِنَّا وَإِنْ جَوَّزْنَا خُلُوَّ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْحِكَمِ وَالْمَقَاصِدِ غَيْرَ أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَشْرُوعَةَ لَا تَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ وَمَقْصُودٍ رَاجِعٍ إِلَى الْعَبْدِ، لَكِنْ لَا بِطْرِيقَ الْوُجُوبِ بَلْ بِحُكْمِ الْوُقُوعِ.
فَالْإِجْمَاعُ إِذًا مُنْعَقِدٌ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْحُكْمِ، وَسَوَاءٌ ظَهَرَتْ لَنَا أَمْ لَمْ تَظْهَرْ.
وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ خُلُوِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَنِ الْحِكْمَةِ إِلَّا أَنَّهُ نَادِرٌ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ الْخُلُوِّ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِدْرَاجُ مَا وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ تَحْتَ الْغَالِبِ يَكُونُ أَغْلَبَ.
وَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَا لِمَقْصُودٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِمَقْصُودٍ، وَإِذَا كَانَ لِمَقْصُودٍ فَلَوْ صَحَّ التَّصَرُّفُ وَكَانَ سَبَبًا لِحُكْمِهِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَ النَّهْيِ رَاجِحًا عَلَى مَقْصُودِ الصِّحَّةِ أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ مَرْجُوحًا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا إِذِ الْمَرْجُوحُ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا مَطْلُوبًا فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ.
وَالْغَالِبُ مِنَ الشَّارِعِ إِنَّمَا هُوَ التَّقْرِيرُ لَا التَّغْيِيرُ.
وَمَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا فَلَا يُرَدُّ طَلَبُ التَّرْكِ لِأَجْلِهِ، وَإِلَّا كَانَ الطَّلَبُ خَلِيًّا عَنِ الْحِكْمَةِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ.


(1) هَذِهِ أَمْثِلَةٌ فَرْضِيَّةٌ لَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهَا الشَّرْعُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُرُودِهَا يَكُونُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهَا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ وَنَحْوِهِ صَارِفًا لِلنَّهْيِ عَنِ اقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ وَالْفَسَادِ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْعِبَارَاتِ تَنَاقُضٌ
(2) دَعَا الشَّارِعُ إِلَى طَلَبِ الْأَنْسَبِ أَنْ يُقَالَ: قَصَدَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ، أَوْ رَعَاهُ فِي طَلَبٍ إِلَخْ أَدَبًا مَعَ اللَّهِ
(3) عَلَى أُصُولِنَا أَيِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا فِي ج1

وَبِمِثْلِ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا (1) فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى مَقْصُودِ الصِّحَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ الصِّحَّةِ وَامْتِنَاعُ انْعِقَادِ التَّصَرُّفِ لِإِفَادَةِ أَحْكَامِهِ، وَإِلَّا كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ خَلِيًّا عَنْ حِكْمَةٍ وَمَقْصُودٍ، ضَرُورَةَ كَوْنِ مَقْصُودِهَا مَرْجُوحًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ خَلِيًّا عَنِ الْحِكْمَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ كَوْنِ النَّهْيِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ لُغَةً مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْنَى.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ فَقَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» ” وَفِي رِوَايَةٍ: ” «أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ” وَالْمَرْدُودُ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا مَقْبُولٍ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ وَلَا هُوَ مِنَ الدِّينِ فَكَانَ مَرْدُودًا.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ الْعُقُودِ بِالنَّهْيِ، فَمِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَمِنْهَا احْتِجَاجُ الصَّحَابَةِ عَلَى فَسَادِ عُقُودِ الرِّبَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} ، وَبِقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ» ” الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى حَمْلِ بَعْضِ الْمَنَاهِي عَلَى الْفَسَادِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْجُزْءِ الْمَجْهُولِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضَى النَّهْيِ لَكَانَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَكَانَ مُقْتَضَى النَّهْيِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْفَسَادُ حَيْثُ وُجِدَ، وَإِلَّا كَانَ فِيهِ نَفْيُ الْمَدْلُولِ مَعَ تَحَقُّقِ دَلِيلِهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ.
الثَّانِي: النَّهْيُ مُشَارِكٌ لِلْأَمْرِ فِي الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ وَمُخَالِفٌ لَهُ فِي طَلَبِ التَّرْكِ، وَالْأَمْرُ دَلِيلُ الصِّحَّةِ فَلْيَكُنِ النَّهْيُ دَلِيلُ الْفَسَادِ الْمُقَابِلِ لِلصِّحَّةِ، ضَرُورَةَ كَوْنِ النَّهْيِ مُقَابِلًا لِلْأَمْرِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ مُقَابِلًا لِحُكْمِ الْآخَرِ.


(1) أَيْ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ

ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَنْقُوضٌ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعِبَادَةِ لِعَيْنِهَا، فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ وَلَوْ صَرَّحَ النَّاهِي بِالصِّحَّةِ لَكَانَ مُتَنَاقِضًا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ لُغَةً، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ دَلَالَتَهُ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ وُجُوبِ تَرْجِيحِ مَقْصُودِ النَّهْيِ عَلَى مَقْصُودِ الصِّحَّةِ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ يُنَاسِبُ نَفْيَ الصِّحَّةِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الصِّحَّةِ إِلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ شَاهِدٌ بِالِاعْتِبَارِ.
وَلَوْ بَيَّنْتُمْ لَهُ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ كَانَ الْفَسَادُ لَازِمًا مِنَ الْقِيَاسِ، لَا مِنْ نَفْسِ النَّهْيِ وَلَا مِنْ مَعْنَاهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ” مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَأْتِيَّ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَبَبٌ لِتَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ حَتَّى يَكُونَ مَرْدُودًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْفَاعِلَ وَتَقْدِيرُهُ: مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَالْفَاعِلُ رَدٌّ أَيْ مَرْدُودٌ وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَرْدُودًا أَنَّهُ غَيْرُ مُثَابٍ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْفِعْلِ أَوْلَى إِذْ هُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ.
قُلْنَا: إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا عَادَ إِلَى نَفْسِ الْفَاعِلِ فَكَانَ عَوْدُهُ إِلَى الْفَاعِلِ أَوْلَى.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَإِنْ عَادَ إِلَى نَفْسِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَّا أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ رَدًّا أَنَّهُ مَرْدُودٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَمَا لَا يَكُونُ مَقْبُولًا هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُثَابًا عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُثَابٍ غَيْرُ مُثَابٍ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَيْنُ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَعَنِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ.
ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُمَا عَلَى الْفَسَادِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ النَّهْيِ، بَلْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: ” «فَهُوَ رَدٌّ» ” وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ (1) .


(1) أَيْ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَيُقَالُ أَيْضًا: إِنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ أَفَادَ اقْتِضَاءَ النَّهْيِ لِلْفَسَادِ شَرْعًا لَا لُغَةً لِكَوْنِهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا

وَعَنِ الْإِجْمَاعِ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ احْتِجَاجِهِمْ بِدَلَالَةِ النَّهْيِ لُغَةً عَلَى الْفَسَادِ، بَلْ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ بِالنَّظَرِ إِلَى دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا (1) ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْنَى.
وَعَنِ الثَّانِي مِنَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُقَابِلًا لِلْأَمْرِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ مُقْتَضٍ لِلصِّحَّةِ، حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلْفَسَادِ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا اقْتِضَاءَ الْأَمْرِ لِلصِّحَّةِ وَأَنَّ النَّهْيَ مُقَابِلٌ لَهُ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ اخْتِلَافِ حُكْمَيْهِمَا لِجَوَازِ اشْتِرَاكِ الْمُتَقَابِلَاتِ فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ.
وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَقَابُلُ حُكْمَيْهِمَا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلصِّحَّةِ.
أَمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِلْفَسَادِ فَلَا، وَأَمَّا النَّقْضُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعِبَادَةِ فَمُنْدَفِعٌ، لِأَنَّهُ مَهْمَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْفِعْلِ لِعَيْنِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً مَأْمُورًا بِهَا، وَمَا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً فَلَا يُتَصَوَّرُ صِحَّتُهُ عِبَادَةً، وَإِنْ قِيلَ بِفَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ خُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِتَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَخِيرِ أَنَّا لَا نَقْضِي بِالْفَسَادِ لِوُجُودِ مُنَاسِبِ الْفَسَادِ لِيَفْتَقِرَ إِلَى شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ، وَإِنَّمَا قَضَيْنَا بِالْفَسَادِ لِعَدَمِ الْمُنَاسِبِ الْمُعْتَبِرِ بِمَا بَيَّنَاهُ مِنِ اسْتِلْزَامِ النَّهْيِ لِذَلِكَ.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَنَقَلَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ (2) وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّهْيَ لَوْ دَلَّ عَلَى الصِّحَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهَا بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، إِذْ (3) الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ.
وَبَيَانُ امْتِنَاعِ دَلَالَتِهِ عَلَى الصِّحَّةِ بِلَفْظِهِ أَنَّ صِحَّةَ الْفِعْلِ لَا مَعْنًى لَهَا سِوَى تَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ لُغَةً لَا يَزِيدُ عَلَى طَلَبِ تَرْكِ الْفِعْلِ وَلَا إِشْعَارَ لَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا.


(1) أَيْ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا كَانَ لِحِكْمَةٍ وَمَعْنًى رَاجِحٍ مَقْصُودٍ لِلشَّرْعِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَى آخِرِ مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ لِلْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى
(2) أَبُو زَيْدٍ هُوَ الدَّبُوسِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ
(3) تَعْلِيلٌ لِلْحَصْرِ فِي أَمْرَيْنِ

وَبَيَانُ امْتِنَاعِ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ بِمَعْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُفِيدًا لِنَقِيضِهِ وَهُوَ الصِّحَّةُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُودِ النَّهْيِ حَيْثُ لَا صِحَّةَ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ بِقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» “، وَالنَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ مَا نَكَحَ الْآبَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ، وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلصِّحَّةِ لَكَانَ تَخَلُّفَ الصِّحَّةِ مَعَ وُجُودِ النَّهْيِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِمُعَارَضٍ أَوْ لَا لِمُعَارَضٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الْمَكْرُوهَةِ وَعَنْ بَيْعِ الرِّبَا، فَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْبَيْعِ عَلَى عُرْفِ الشَّارِعِ وَعُرْفِ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْفِعْلُ الْمُعْتَبَرُ فِي حُكْمِهِ شَرْعًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ التَّصَرُّفُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ هُوَ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
قُلْنَا: أَوَّلًا لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِمَا سَبَقَ، (1) وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لَهُ عُرْفًا لَكِنْ فِي طَرَفِ الْأَوَامِرِ أَوِ النَّوَاهِي؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.
وَعَلَى هَذَا فَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ التَّصَرُّفِ اللُّغَوِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ سَلَّمْنَا عُرْفَ الشَّارِعِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عُرْفَهُ فِيهَا مَا ذَكَرُوهُ، بَلْ مَا هُوَ بِحَالٍ يَصِحُّ وَيُمْكِنُ صِحَّتُهُ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ التَّصَرُّفِ مُمْكِنُ الصِّحَّةِ وُقُوعُ الصِّحَّةِ، كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَنَاهِي (2) مَعَ انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ عَنْ مَنْهِيَّاتِهَا.


(1) انْظُرْ مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ص 35 مِنْ جـ1 وَمَا عَلَيْهِ مِنَ التَّعْلِيقِ، وَارْجِعْ إِلَى ص 400 مِنْ جـ20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَةَ
(2) الْمَنَاهِي: الْأَوْلَى التَّعْبِيرُ بِالنَّوَاهِي لِيَصِحَّ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: ” مَنْهِيَّاتِهَا “

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي الِانْتِهَاءَ عَنْهُ دَائِمًا]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي الِانْتِهَاءَ عَنْهُ دَائِمًا (1) خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّاذِّينَ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: ” لَا تَفْعَلْ كَذَا ” وَقَدَّرْنَا نَهْيَهُ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ قَدَرَ يُعَدُّ مُخَالِفًا لَنَهْيِ سَيِّدِهِ وَمُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ فِي عُرْفِ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلتَّكْرَارِ وَالدَّوَامِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا خَفَاءَ بِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ يَرِدُ وَيُرَادُ بِهِ الدَّوَامُ كَمَا فِي النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ يَرِدُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الدَّوَامُ كَمَا فِي نَهْيِ الْحَائِضِ عَنِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ، وَالصُّورَتَانِ مُشْتَرِكَتَانِ فِي طَلَبِ تَرْكِ الْفِعْلِ لَا غَيْرَ، وَمُفْتَرِقَتَانِ فِي دَوَامِهِ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَعَدَمِ دَوَامِهِ فِي الْأُخْرَى.
وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ (2) وَلَا تَجُوزُ، وَالدَّالُّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى مَا اخْتُصَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلدَّوَامِ لَكَانَ عَدَمُ الدَّوَامِ فِي بَعْضِ صُوَرِ النَّهْيِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
قُلْنَا: النَّهْيُ حَيْثُ وَرَدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ الدَّوَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِقَرِينَةٍ نَظَرًا إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ.
وَمَا قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ أَوِ التَّجَوُّزُ، قُلْنَا: وَإِنْ لَزَمَ مِنْهُ التَّجَوُّزُ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ غَيْرَ أَنَّ جَعْلَهُ حَقِيقَةً فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِمَّا يُوجِبُ جَعْلُهُ مَجَازًا فِي الدَّوَامِ وَالتَّكْرَارِ لِاخْتِلَافِ حَقِيقَتِهِمَا.
وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِجَعْلِهِ مَجَازًا فِي التَّكْرَارِ وَحَقِيقَةً فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، بَلْ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي التَّكْرَارِ أَوْلَى لِإِمْكَانِ التَّجَوُّزِ بِهِ عَنِ الْبَعْضِ لِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لَهُ.
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ لَمَا أَمْكَنَ التَّجَوُّزُ بِهِ عَنِ التَّكْرَارِ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ لَهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي أَيْضًا.


(1) الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ النَّهْيِ كَالنُّكْرَةِ بَعْدَ النَّفْيِ، فَيُفِيدُ عُمُومَ النَّهْيِ عَنِ الْفِعْلِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ
(2) أَيْ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ لَفْظِيٍّ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاشْتِرَاكُ مَعْنَوِيًّا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *