تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » المجلس الأول في ذكر فصل الربيع.

المجلس الأول في ذكر فصل الربيع.

  • بواسطة

فصل ـ ويلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية وظائف فصول السنة الشمسية

المجلس الأول: في ذكر فصل الربيع

فصل ـ ويلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية وظائف فصول السنة الشمسية.

وفيه ثلاث مجالس:

المجلس الأول في ذكر فصل الربيع.

خرجا في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض” قيل: ما بركات الأرض؟ قال: “زهرة الدنيا” فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أنه سينزل عليه ثم جعل يمسح عن جبينه قال: أين السائل؟ قال: أنا قال: “لا يأتي الخير إلا بالخير إن هذا المال خضرة حلوة وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثلطت وبالت ثم عادت فأكلت وإن هذا المال خضرة حلوة من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع”.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف على أمته من فتح الدنيا عليهم فيخاف عليهم الإفتتان بها ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار لما جاءه مال من البحرين: “أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم ما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم” وكان آخر خطبة خطبها على المنبر حذر فيها من زهرة الدنيا ففي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: “إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم” قال قال عقبة: فكان آخر ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر.

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا افتتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم”؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون” وفي المسند عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة” قال عمرو: أنا أشفق من ذلك وفيه أيضا عن أبي ذر: أن أعرابيا قال: يا رسول الله أكلتنا الضبع يعني السنة والجدب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “غير ذلك أخوف مني عليكم حين تصب عليكم الدنيا صبا فليت أمتي لا يلبسون الذهب” وفي رواية الديباج وفيه أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما أخشى عليكم الفقر ولكني أخشى عليكم التكاثر” ويروى من حديث عوف بن مالك وأبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الفقر تخافون والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلا هي” وفي رواية عوف: “فإن الله فاتح عليكم فارس والروم” وفي المعنى أحاديث أخر.

وفي الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: “لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال” فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري: “إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض” ثم فسره بزهرة الدنيا ومراده: ما يفتح على أمته منها من ملك فارس والروم وغيرهم من الكفار الذين ورثت هذه الأمة ديارهم وأموالهم وأراضيهم التي تخرج منها زروعهم وثمارهم وأنهارهم ومعادنهم وغير ذلك مما يخرج من بركات الأرض وهذا من أعظم المعجزات وهو إخباره بظهور أمته على كنوز فارس والروم وأموالهم وديارهم ووقع على ما أخبر به ولكنه لما سمى ذلك ببركات الأرض وأخبر أنه أخوف ما يخافه عليهم أشكل ذلك على بعض من سمعه حيث سماه بركة ثم خاف منه أشد الخوف فإن البركة إنما هي خير ورحمة.

وقد سمى الله تعالى المال خيرا في مواضع كثيرة من القرآن فقال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] وقال: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]

وقال تعالى عن سليمان عليه السلام: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [صّ: 32] فلما سأله السائل: هل يأتي الخير بالشر صمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظنوا أنه أوحي إليه والظاهر أن الأمر كان كذلك ويدل عليه أنه ورد في رواية لمسلم في هذا الحديث: “فأفاق يمسح عنه الرحضاء” ـ وهو العرق ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه يتحدر منه مثل الجمان من العرق من شدة الوحي وثقله عليه وفي هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل عن شيء لم يكن أوحي إليه فيه شيء انتظر الوحي فيه ولم يتكلم فيه بشيء حتى يوحى إليه فيه فلما نزل عليه جواب ما سئل عنه قال: “أين السائل؟ ” قال: ها أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الخير لا يأتي إلا بالخير” وفي رواية لمسلم فقال: “أو خير هو؟ ” وفي ذلك دليل على: أن المال ليس بخير على الإطلاق بل منه خير ومنه شر ثم ضرب مثل المال ومثل من يأخذه بحقه ويصرفه في حقه ومن يأخذه من غير حقه ويصرفه في غير حقه فالمال في حق الأول خير وفي حق الثاني شر فتبين بهذا أن المال ليس بخير مطلق بل هو خير مقيد فإن استعان به المؤمن على ما ينفعه في آخرته كان خيرا له وإلا كان شرا له فأما المال فقال: “إنه خضرة حلوة”.

وقد وصف المال والدنيا بهذا الوصف في أحاديث كثيرة: ففي الصحيحين عن حكيم بن حزام أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه ثم سأله فأعطاه ثم سأله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع” وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء” واستخلافهم فيها هو ما أورثهم الله منها مما كان في أيدي الأمم من قبلهم كفارس والروم وحذرهم من فتنة الدنيا وفتنة النساء خصوصا فإن النساء أول ما ذكره الله من شهوات الدنيا ومتاعها في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14] .

وفي المسند والترمذي عن خولة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن هذا المال خضرة حلوة فمن أصابه بحقه بورك له فيه ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار” وفي المسند أيضا عن خولة بنت ثامر الأنصارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الدنيا خضرة حلوة وإن رجالا سيخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة” وخرج البخاري من قوله: “إن رجالا” إلى آخره وفي المسند أيضا عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن هذه الدنيا خضرة حلوة فمن آتيناه منها شيئا بطيب نفس أو طيب طعمة ولا إسراف بورك له فيه ومن آتيناه منها شيئا بغير طيب نفس منا وغير طعمة وإسراف منه لم يبارك له فيه” وفي المعنى أحاديث أخر.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ” إن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا أكلة الخضر” مثل آخر ضربه صلى الله عليه وسلم لزهرة الدنيا وبهجة منظرها وطيب نعيمها وحلاوته في النفوس فمثله كمثل نبات الربيع وهو المرعى الخضر الذي ينبت في زمان الربيع فإنه يعجب الدواب التي ترعى فيه وتستطيبه وتكثر من الأكل منه أكثر من قدر حاجتها لاستحلائها له فأما أن يقتلها فتهلك وتموت حبطا والحبط: انتفاخ البطن من كثرة الأكل أو يقارب قتلها ويلم به فتمرض منه مرضا مخوفا مقاربا للموت فهذا مثل من يأخذ من الدنيا بشره وجوع نفس من حيث لاحت له لا بقليل يقنع ولا بكثير يشبع ولا يحلل ولا يحرم بل الحلال عنده ما حل بيده وقدر عليه والحرام عنده ما منع منه وعجز عنه فهذا هو المتخوض في مال الله ورسوله فيما شاءت نفسه وليس له إلا النار يوم القيامة كما في حديث خولة المتقدم.

والمراد بمال الله ومال رسوله: الأموال التي يجب على ولاة الأمور حفظها وصرفها في طاعة الله ورسوله من أموال الفيء والغنائم ويتبع ذلك مال الخراج والجزية وكذا أموال الصدقات التي تصرف للفقراء والمساكين كمال الزكاة والوقف ونحو ذلك وفي هذا تنبيه على أن من تخوض من الدنيا في الأموال المحرم أكلها كمال الربا ومال الأيتام الذي من أكله أكل نارا والمغضوب والسرقة والغش في البيوع والخداع والمكر وجحد الأمانات والدعاوى الباطلة ونحوها من الحيل المحرمة أولى أن يتخوض صاحبها في نار جهنم غدا فكل هذه الأموال وما أشبهها يتوسع بها أهلها في الدنيا ويتلذذون بها ويتوصلون بها إلى لذات الدنيا وشهواتها ثم ينقلب ذلك بعد موتهم فيصير جمرا من جمر جهنم في بطونهم فما تفي لذتها بتبعها كما قيل:

تفنى اللذاذة ممن نال لذاتها … من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها … لا خير في لذة من بعدها النار

فلهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم من يأخذها بغير حقها ويضعها في غير حقها بالبهائم الراعية من خضراء الربيع حتى تنتفخ بطونها من أكله فإما أن يقتلها وإما أن يقارب قتلها فكذلك من أخذ الدنيا من غير حقها ووضعها في غير وجهها إما أن يقتله ذلك فيموت به قلبه ودينه وهو من مات على ذلك من غير توبة منه وإصلاح حال فيستحق النار بعمله قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد: 12] وهذا هو الميت حقيقة فإن الميت من مات قلبه كما قيل:

ليس من مات فاستراح بميت … إنما الميت ميت الأحياء

وأما أن يقارب موته ثم يعافى وهو من أفاق من هذه السكرة وتاب قبل موته.

وقد قال علي رضي الله عنه في كلامه المشهور في أقسام جملة العلم: أو منهوم باللذات سلس القياد للشهوات أو مغرى بجمع الأموال والإدخار وليسوا من رعاة الدين أقرب شبابهم الأنعام السارحة وفي الأبيات المشهورة التي كان عمر بن عبد العزيز ينشدها كثيرا:

نهارك يا مغرور سهو وغفلة … وليلك نوم والردى لك لازم
وتتعب فيما سوف تكره غبه … كذلك في الدنيا تعيش البهائم

وإما استثناؤه صلى الله عليه وسلم من ذلك: “آكلة الخضر” فمراده بذلك مثل المقتصد الذي يأخذ من الدنيا بحقها مقدار حاجته فإذا نفذ واحتاج عاد إلى الأخذ منها قدر الحاجة بحقه وآكلة الخضر: دويبة تأكل من الخضر بقدر حاجتها إذا احتاجت إلى الأكل ثم تصرفه عنها فتستقبل عين الشمس فتصرف بذلك ما في بطنها وتخرج منه ما يؤذيها من الفضلات وقد قيل: إن الخضر ليس من نبات الربيع عند العرب إنما هو من كلاء الصيف بعد يبس العشب وهيجه واصفراره والماشية من الإبل لا تستكثر منه بل تأخذ منه قليلا قليلا ولا تحبط بطونها منه فهذا مثل المؤمن المقتصد من الدنيا يأخذ من حلالها وهو قليل بالنسبة إلى حرامها قدر بلغته وحاجته ويجتزي من متاعها بأدونه وأخشنه ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفذ ما عنده وخرجت فضلاته فلا يوجب له هذا الأخذ ضررا ولا مرضا ولا هلاكا بل يكون ذلك بلاغا له ويتبلغ به مدة حياته ويعينه على التزود لآخرته وفي هذا إشارة إلى مدح من أخذ من حلال الدنيا بقدر بلغته وقنع بذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: “قد أفلح من هداه الله إلى الإسلام وكان عيشه كفافا فقنع به” وقال صلى الله عليه وسلم: “خير الرزق ما يكفي” وقال: “اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا”.

خذ من الرزق ما كفا … ومن العيش ما صفا
كل هذا سينقضي … كسراج إذا انطفا

ثم قال صلى الله عليه وسلم: “إن هذا المال خضرة حلوة” فأعاده مرة ثانية تحذيرا من الإغترار به فخضرته منظرة وحلاوته طيب طعمه فلذلك تشتهيه النفوس وتسارع إلى طلبه ولكن لو فكرت في عواقب لهربت منه الدنيا في الحال حلوة خضره وفي المآل مرة كدرة نعمت المرضعة وبئست الفاطمة.

إنما الدنيا نهار … ضوءه ضوء معار
بينما عيشك غض … ناعم فيه اخضرار
إذ رماه زمناه … فإذا فيه اصفرار
وكذلك الليل يأتي … ثم يمحوه النهار

مثل حرام الدنيا كشجرة الدفلى تعجب من رآها وتقتل من آكلها.

نرى الدنيا وزهرتها فنصبوا … وما يخلو من الشهوات قلب
فضول العيش أكثره هموم … وأكثر ما يضرك ما تحب
إذا اتفق القليل وفيه سلم … فلا ترد الكثير وفيه حرب

الذي بشر أمته بفتح الدنيا عليهم حذرهم من الإغترار بزهرتها وخوفهم من خضرتها وحلاوتها وأخبرهم بخبرابها وفنائها وأن بين أيديهم دارا لا تنقطع خضرتها وحلاوتها فمن وقف مع زهرة هذه العاجلة انقطع وهلك ومن لم يقف معها وسار إلى تلك وصل ونجا في المسند عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أحدهما للآخر: اضرب له مثلا فقال: إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهو إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذا أتاهم رجل في حلة حبرة فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أتتبعوني؟ قالوا: نعم قال: فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة.

وحياضا رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ قالوا: بلى قال: فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه وحياضا هي أروى من هذه فاتبعوني قال: فقالت طائفة: صدق والله لتتبعنه وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عله وقد خرجه ابن أبي الدنيا وغيره من الحسن مرسلا بسياق أبسط من هذا وفيه: إنهم لما رتعوا وسمنوا وأعجبهم المنزل صاح بهم فقال: ارتحلوا فإن هذه الروضة ذاهبة وإن هذا الماء غائر ذاهب وإن أمامكم روضة أعشب من هذه وماء أروى من هذا الماء فكره ذلك عامة الناس وقالوا: ما نريد بهذه بدلا وهم أكثر الناس وقال آخرون: والله إن آخر قوله كأوله ارتحلوا فأبوا فارتحل قوم فنجوا ولم يشعر الذين أقاموا حتى طرقهم العدو ليلا فأصبحوا بين أسير وقتيل.

الدنيا: خضراء الدمن ومعنى ذلك أن خضرتها نابتة على مزبلة منتنة يا دني الهمة قنعت بروضة على مزبلة والملك يدعوك إلى فردوسه الأعلى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] أرضيتم بخرابات البلى في الفردوس الأعلى يا لها صفقة غبن أتقنع بخسائس الحشائش والرياض معشبة بين يديك.

وقوله صلى الله عليه وسلم: “من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع” تقسيم لمن يأخذ المال على قسمين:

فأحدهما: يشبه حال آكلة الخضر وهو من أخذه بحقه ووضعه في حقه وذكر أنه نعم المعونة هو فإنه نعم العون لمن هذه صفته على الآخرة كما في حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “نعم المال الصالح للرجل الصالح” وهو الذي يأخذ بحقه ويضعه في حقه فهذا يوصله ماله إلى الله عز وجل فمن أخذ من المال بحقه ما يقويه على طاعة الله ويستعين به عليها كان أخذه طاعة ونفقته طاعة

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك” وفي حديث آخر: “ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة وما أطعمت أهلك فهو لك صدقة وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة”.

فما أخذ من الدنيا بنية التقوى على طلب الآخرة فهو داخل في قسم إرادة الآخرة والسعي لها لا في إرادة الدنيا والسعي لها قال الحسن: ليس من حب الدنيا طلبك ما يصلحك فيها ومن زهدك فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها،

ومن أحب الدنيا وسرته ذهب خوف الآخرة من قلبه وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة وما لم يلهك فليس متاع الغرور ولكنه بلاغ إلى ما هو خير منه وقال بعض العارفين: كل ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا وقال أبو سليمان: الدنيا حجاب عن الله لأعدائه ومطية موصلة إليه لأوليائه فسبحان من جعل شيئا واحدا سببا للإتصال به والإنقطاع عنه.

والقسم الثاني: يشبه حاله حال البهائم التي ترعى مما ينبت الربيع “فيقتلها حبطا أو يلم” وهو من يأخذ المال بغير حقه فيأخذه من الوجوه المحرمة فلا يقنع منه بقليل ولا بكثير ولا يشبع نفسه منه ولهذا قال: “وكان كالذي يأكل ولا يشبع” وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من نفس لا تشبع.

وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له” فمن كان فقره بين عينيه لم يزل خائفا من الفقر لا يستغنى قلبه بشيء ولا يشبع من الدنيا فإن الغنى غنى القلب والفقر فقر النفس

وفي حديث خرجه الطبراني مرفوعا: “الغنى غنى القلب والفقر في القلب ومن كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له منها وإنما يضر نفسه”

وعن عيسى عليه السلام قال: “مثل طالب الدنيا كشارب البحر كلما زاد شربا منه زاد عطشا حتى يقتله” قال يحيى بن معاذ: من كان غناه في قلبه لم يزل غنيا ومن كان غناه في كبسه لم يزل فقيرا ومن قصد المخلوقين لحوائجه لم يزل محروما ويشهد لذلك كله الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب” لو فكر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع ولو تذكر الجائع إلى فضول مآلها لشبع.

هب أنك قد ملكت الأرض طرا … ودان لك العباد فكان ماذا
أليس إذا مصيرك جوف قبر … ويحثي التراب هذا ثم هذا

وقد ضرب الله في كتابه مثل الدنيا وخضرتها ونضرتها وبهجتها وسرعة تقلبها وزوالها وجعل مثلها كمثل نبات الأرض النابت من مطر السماء في تقلب أحواله ومآله قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45]

وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]

وقال تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر:21]

فالدنيا وجميع ما فيها من الخضرة والبهجة والنضرة تتقلب أحواله وتتبدل ثم تصير حطاما يابسا وقد عدد الله سبحانه زينة الدنيا ومتاعها المبهج في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]

وهذا كله يصير ترابا ما خلا الذهب والفضة ولا ينتفع بأعيانهما بل هما قيم الأشياء فلا ينتفع صاحبهما بإمساكهما وإنما ينتفع بإنفاقهما ولهذا قال الحسن: بئس الرفيق الدرهم والدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك وأجسام بني آدم بل وسائر الحيوانات كنبات الأرض تنقلب من حال إلى حال ثم تجف وتصير ترابا قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً*ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح: 17, 18] .

وما المرء إلا كالنبات وزهره … يعود رفاتا بعد ما هو ساطع

فينتقل ابن آدم من الشباب إلى الهرم ومن الصحة إلى السقم ومن الوجود إلى العدم كما قيل:

وما حالتنا إلا ثلاث … شباب ثم شيب ثم موت
وآخر ما يسمى المرء شيخا … ويتلوه من الأسماء ميت

مدة الشباب قصيرة كمدة زهر الربيع وبهجته ونضارته فإذا يبس وابيض فقد آن ارتحاله كما أن الزرع إذا ابيض فقد آن حصاده وأجمل زهور الربيع الورد ومتى كثر فيه البياض فقد قرب زمان انتقاله قال وهيب بن الورد: إن لله ملكا ينادي في السماء كل يوم: أبناء الخمسين زرع دنا حصاده وفي حديث مرفوع: “إن لكل شيء حصادا وحصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين”.

قد يبلغ الزرع منتهاه … لا بد للزرع من حصاد
وقد يدرك الزرع آفة قبل بلوغ حصاده فيهلك كما أشير إليه في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24] قال ميمون بن مهران لجلسائه: يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا ابيض قالوا الحصاد فنظر إلى الشباب فقال: يا معشر الشباب إن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن يستحصد وقال بعضهم: أكثر من يموت الشباب وآية ذلك أن الشيوخ في الناس قليل.

أيا ابن آدم لا يغررك عافية … عليك صافية فالعمر معدود
ما أنت إلا كزرع عند خضرته … بكل شيء من الآفات مقصود
فإن سلمت من الآفات أجمعها … فأنت عند كمال الأمر محصود

كل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة ودليل عليه فنبات الأرض واخضرارها في الربيع بعد محولها ويبسها في الشتاء وإيناع الأشجار واخضرارها بعد كونها خشبا يابسا يدل على بعث الموتى من الأرض وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه في مواضع كثيرة

قال الله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5, 7]

وقال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [قّ: 9, 11]

وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:57] .

قال أبو رزين للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف يحي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال: “هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا”؟ قال: نعم قال: “كذلك يخرج الله الموتى وذلك آيته في خلقه” خرجه الإمام أحمد وقصر مدة الزرع والثمار وعود الأرض بعد ذلك إلى يبسها والشجر إلى حالها الأول كعود ابن آدم بعد كونه حيا إلى التراب الذي خلق منه.

وفصول السنة تذكر بالآخرة: فشدة حر الصيف يذكر بحر جهنم وهو من سمومها وشدة برد الشتاء يذكر بزمهرير جهنم وهو من زمهريرها والخريف يكمل فيه اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة وأما الربيع فهو أطيب فصول السنة وهو يذكر بنعيم الجنة وطيب عيشها وينبغي أن يحث المؤمن على الإستعداد لطلب الجنة بالأعمال الصالحة كان بعض السلف يخرج في أيام الرياحين والفواكه إلى السوق فيقف وينظر ويعتبر ويسأل الله الجنة ومر سعيد بن جبير بشباب من أبناء الملوك جلوس في مجالسهم في زينتهم فسلموا عليه فلما بعد عنهم بكى واشتد بكاؤه وقال: ذكرني هؤلاء بشباب أهل الجنة.

تزوج صلة بن أشيم بمعاذة العدوية وكانا من كبار الصالحين فأدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله على زوجته في بيت مطيب منجد فقاما يصليان إلى الصباح فسأله ابن أخيه عن حاله فقال: أدخلتني بالأمس بيتا أذكرتني به النار يعني الحمام وأدخلتني الليلة بيتا أذكرتني به الجنة فلم يزل فكري في الجنة والنار إلى الصباح.

دعا عبد الواحد بن زيد إخوانه إلى طعام صنعه إليهم فقام على رؤوسهم عتبة الغلام يخدمهم وهو صائم وهم يأكلون فجعلت عيناه تهملان فسأله عبد الواحد عن سبب بكائه؟ فقال: ذكرت مواد أهل الجنة إذا أكلوا وقام الولدان على رؤوسهم إنما خلقت الدنيا مرآة لننظر بها إلى الآخرة لا لننظر إليها ونوقف معها.

كفى حزنا أن لا أعاين بقعة … من الأرض إلا ازددت شوقا إليكم
وإني متى ما طاب لي خفض عيشة … تذكرت أياما مضت لي لديكم

تدقيق النظر والفكر في حال النبات يستدل به المؤمن على عظمة خالقه وكمال قدرته ورحمته فتزداد القلوب هيمانا في محبته وإلى ذلك الإشارة بقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99] .

زمان الربيع كله واعظ يذكر بعظمة موجده وكمال قدرته ويشوق إلى طيب.

مجاورته في دار كرامته كما قال ابن سمعون في وصف الربيع: أرضه حرير وأنفاسه عبير وأوقاته كلها وعظ وتذكير.

يا قومنا فاح الربيع … ولاح للأحباب يحدو
الزهر مسك والريا … ض أريضة والماء جعد
والظل منثور وفي … جيد الشقائق منه عقد
هذا النسيم معنبر … وضباب هذا النوء ند
والغصن يرقص والغديـ … ـر مصفق والورق تشدو
والجو بعض منه يا … قوت وبعض لا زرود
والكل يشهد أن صا … نعه قدير وهو فرد

ولبعضهم في وصف زمان الربيع:

الطل في سلك الغصون كلؤلؤ … رطب يصافحه النسيم فيسقط
والطير يقرأ والغدير صحيفة … والريح يكتب والغمام ينقط

رؤي بعض الشعراء المتقدمين في المنام بعد موته فسئل عن حاله؟ فقال:

غفر لي بأبيات قلتها في النرجس:

تفكر في نبات الأرض وانظر … إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين ناظرات … بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات … بأن الله ليس له شريك

سبحان من سبحت المخلوقات بحمده فملأ الأكوان تحميده وأفصحت الكائنات بالشهادة بوحدانيته فوضح توحيده يسبحه النبات جمعه وفريده والشجر عتيقه وجديده ويمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار فيطرب السامع تمجيده كلما درس الهزار درس شكره فالبلبل بالحمد معيده وكلما أقام خطيب الحمام النوح على الدوح هيج المستهام نوحه وتغريده: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: 19]

عجبا للمتقلب بين مشاهدة حكمه وتناول نعمه ثم لا يشكر نعمه ولا يبصر حكمه وأعجب من ذلك أن يعصي المنعم بنعمه هذا عود شجر الكرم يكون يابسا طول الشتاء ثم إذا جاء الربيع دب فيه الماء واخضر ثم يخرج الحصرم فينتفع الناس به حامضا ويتناولون منه طبغا واعتصارا ثم ينقلب حلوا فينتفع الناس به حلوا رطبا ويابسا ويستخرجون منه ما ينتفعون بحلاوته طول العام وما يأتدمون بحمضه وهو نعم الإدام فهذه التنقلات توجب للعاقل الدهش والتعجب من صنع صانعه وقدرة خالقه فينبغي له أن يفرغ عقله للتفكر في هذه النعم والشكر عليها.

وأما الجاهل فيأخذ العنب فيجعله خمرا فيغطي به العقل الذي ينبغي أن يستعمل في الفكر والشكر حتى ينسى خالقه المنعم عليه بهذه النعم كلها فلا يستطيع بعد الشرب أن يذكره أو يشكره بل ينسى من خلقه ورزقه فلا يعرفه في شكره بالكلية وهذه نهاية كفر النعم.

فواعجبا كيف يعصي الإله … أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة … وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية … تدل على أنه الواحد

ومن وجوه الإعتبار في النظر إلى الأرض التي أحياها الله بعد موتها في فصل الربيع بما ساق إليها من قطر السماء أنه يرجى من كرمه أن يحي القلوب الميتة بالذنوب وطول الغفلة بسماع الذكر النازل من السماء وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] إلى قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17]

ففيه إشارة إلى أن من قدر على إحياء الأرض بعد موتها بوابل القطر فهو قادر على إحياء القلوب الميتة القاسية بالذكر عسى لمحة من لمحات عطفه ونفحة من نفحات لطفه وقد صلح من القلوب كل ما فسد.

عسى فرج يأتي به الله إنه … له كل يوم في خليقته أمر
إذا اشتد عسر فأرج يسرا فإنه … قضى الله إن العسر يتبعه يسر

عسى من أحيا الأرض الميتة بالقطر أن يحي القلوب الميتة بالذكر عسى نفحة من نفحات رحمته تهب فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا.

إذا ما تجدد فصل الربيع … تجدد للقلب فضل الرجاء
عسى الحال يصلح بعد الذنوب … كما الأرض تهتز بعد الشتاء
ومن ذا الذي ليس يرجوك ربي … وربع عطائك رحب الفناء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *