وظائف شهر الله المحرم
الفصل الأول: في أفضل التطوع بالصيام
وظائف شهر الله المحرم.
ويشتمل على مجالس:
المجلس الأول في فضل شهر الله المحرم وعشره الأول.
خرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل” الكلام على هذا الحديث في فصلين في أفضل التطوع: بالصيام وأفضل التطوع: بالقيام.
الفصل الأول: أفضل التطوع بالصيام.
وهذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم وقد يحتمل أن يراد: أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملا بعد رمضان فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفه أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال ونحو ذلك ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي من حديث علي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله وفيه يوم تاب الله فيه على قوم ويتوب على آخرين” وفي اسناده مقال.
ولكن يقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شهر شعبان ولم ينقل أنه كان يصوم المحرم إنما كان يصوم عاشوراء وقوله في آخر سنة: “لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع” يدل على أنه كان لا يصوم التاسع قبل ذلك وقد أجاب الناس عن هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف والذي ظهر لي والله أعلم أن التطوع بالصيام نوعان:
أحدهما: التطوع المطلق بالصوم فهذا أفضله المحرم كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل.
والثاني: ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله وبعده فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان وهو ملتحق بصيام رمضان ولهذا قيل: إن صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان ويكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر فرضا وقد روي أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بصيام شوال فترك الأشهر الحرم وصام شوالا وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان وصيامه أفضل التطوع مطلقا فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يصوم الحرم وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى وأفضل صيام الأشهر الحرم شهر الله المحرم ويشهد لهذا أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: “وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل” ومراده بعد المكتوبة: ولواحقها من سننها الرواتب فإن الرواتب قبل الفرائض وبعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء لالتحاقها بالفرائض وإنما خالف في ذلك بعض الشافعية فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده ملتحق برمضان وصيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم وأفضل التطوع المطلق بالصيام صيام المحرم.
وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل فقال الحسن وغيره.
أفضلها شهر الله المحرم ورجحه طائفة من المتأخرين وروى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن قال: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه وقد روي عنه مرفوعا ومرسلا قال آدم بن أبي إياس: حدثنا أبو الهلال الراسي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصلاة بعد المكتوبة في جوف الليل الأوسط وأفضل الشهور بعد شهر رمضان المحرم وهو شهر الله الأصم”.
وخرج النسائي من حديث أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير وأي الأشهر أفضل؟ فقال: “خير الليل جوفه وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم” واطلاقه في هذا الحديث “أفضل الأشهر” محمول على ما بعد رمضان كما في رواية الحسن المرسلة وقال سعيد بن جبير وغيره: أفضل الأشهر الحرم.
ذو القعدة أو ذو الحجة بل قد قيل: إنه أفضل الأشهر مطلقا وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وزعم بعض الشافعية أن أفضل الأشهر الحرم رجب وهو قول مردود وأفضل شهر الله المحرم عشره الأول وقد زعم يمان بن رآب: أنه العشر الذي أقسم الله به في كتابه ولكن الصحيح أن العشر المقسم به عشر ذي الحجة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات العشر الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من محرم وقد وقع هذا في بعض نسخ كتاب فضائل العشر لابن أبي الدنيا عن أبي عثمان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه “كان يعظم هذه العشرات الثلاث” وليس ذلك بمحفوظ وقد قيل: إن العشر الذي أتم الله به ميقات موسى عليه السلام أربعين ليلة وإن التكلم وقع في عاشره.
وروي عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن مر قومك أن يتوبوا إلي في أول عشر المحرم فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إلي أغفر لهم.
وعن قتادة أن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة ولما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقا وكان صيامها كلها مندوبا إليه كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وكان بعضها ختام السنة الهلالية وبعضها مفتاحا لها فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه وصام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.
وفي حديث مرفوع: “ما من حافظين يرفعان إلى الله صحيفة فيرى في أولها وفي آخرها خيرا إلا قال الله لملائكته أشهدكم أني غفرت لعبدي ما بين طرفيها” خرجه الطبراني وغيره وهو موجود في بعض نسخ كتاب الترمذي وفي حديث آخر مرفوع: “ابن آدم اذكرني من أول النهار ساعة ومن آخر النهار ساعة أغفر لك مابين ذلك إلا الكبائر أو تتوب منها” وقال ابن مبارك: من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكرا يشير إلى أن الأعمال بالخواتيم فإذا كان البداءة والختام ذكرا فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملا.
للجميع ويتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية.
قطعت شهور العام لهوا وغفلة … ولم تحترم فيما أتيت المحرما
فلا رجبا وافيت فيه بحقه … ولا صمت شهر الصوم صوما متمما
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي … مضى كنت قواما ولا كنت محرما
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة … وتبكي عليها حسرة وتندما
وتستقبل العام الجديد بتوبة … لعلك أن تمحو بها ما تقدما
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم شهر الله واضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته كما نسب محمدا وإبرهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته ونسب إليه بيته وناقته
ولما كان هذا الشهر مختصا بإضافته إلى الله تعالى كان الصيام من بين الأعمال مضافا إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز وجل: إنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز وجل ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه ويحرمون مكانه صفرا فأشار إلى شهر الله الذي حرمه فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك وتغييره:
شهر الحرام مبارك ميمون … والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمه لوجه إلهه … في الخلد عند مليكه مخزون
الصيام سر بين العبد وبين ربه ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك شهواته وطعامه وشرابه من أجلي” وفي الجنة باب يقال له: الريان لا يدخل منه إلا الصائمون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه غيرهم وهو جنة للعبد من النار كجنة أحدكم من القتال.
وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من صام يوما ابتغاء وجه الله تعالى بعده الله من نار جهنم كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرما” وفيه أن أبا أمامة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني؟ قال: “عليك بالصوم فإنه لا عدل له” فكان أبو أمامة وأهله يصومون فإذا رؤي في بيتهم دخان بالنهار علم أنه قد نزل بهم ضيف وممن سرد
الصوم عمر وأبو طلحة وعائشة وغيرهم من الصحابة وخلق كثير من السلف وممن صام الأشهر الحرم كلها ابن عمر والحسن البصري وغيرهما قال بعضهم: إنما هو غداء وعشاء فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت وقد كتبت في ديوان الصائمين “للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه” إذا وجد ثواب صيامه مدخورا سمع بعضهم مناديا ينادي على السحور في رمضان ياما خبأنا للصوم فانتبه لذلك وسرد الصوم وروي: أن الصائمين توضع لهم مائدة تحت العرش فيأكلون والناس في الحساب فيقول الناس ما بال هؤلاء يأكلون ونحن نحاسب؟ فيقال: كانوا يصومون وأنتم تفطرون وروي: أنهم يحكمون في ثمار الجنة والناس في الحساب روى ذلك ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع.
قال الله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35] وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] قال مجاهد وغيره: نزلت في الصوم: من ترك لله طعامه وشرابه وشهواته عوضه الله خيرا من ذلك طعاما وشرابا لا ينفذ وأزواجا لا تموت في التوراة: طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر طوبى لمن ظمأ نفسه اليوم ليوم الري الأكبر طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره طوبى لمن ترك طعاما ينفذ في دار لدار {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] .
من يرد ملك الجنان … فليذر عنه التواني
وليقم في ظلمة الليـ … ـل إلى نور القرآن
وليصل صوما بصوم … إن هذا العيش فإني
إنما العيش جوار … الله في دار الأمان
كان بعض الصالحين يكثر الصوم فرأى في منامه كأنه دخل الجنة فنودي من ورائه يا فلان تذكر أنك صمت لله يوما قط؟ قال: إي والله يوم ويوم ويوم فإذا صواني النار قد أخذته يمنة ويسرة كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوته فمات فرأى بعض أصحابه في المنام فسئل عن حاله فقال:
قد كسي حلة البهاء وطا … فت بالأباريق حوله الخدام
ثم حلى وقيل يا قارئي أرقه … فلعمري لقد براك الصيام
صام بعض التابعين حتى أسود من طول صيامه وصام الأسود بن يزيد حتى اخضر جسمه واصفر فكان إذا عوتب في رفقه بجسده يقول: كرامة هذا الجسد أريد وصام بعضهم حتى وجد طعم دماغه في حلقه كان بعضهم يسرد الصوم فمرض وهو صائم فقالوا له: افطر فقال: ليس هذا وقت ترك وقيل لآخر منهم وهو مريض: افطر فقال: كيف وأنا أسير لا أدري ما يفعل بي مات عامر بن عبد الله بن الزبير وهو صائم ما أفطر ودخلوا على أبي بكر بن أبي مريم وهو في النزع وهو صائم فعرضوا عليه ماء ليفطر فقال: أغربت الشمس؟ قالوا: لا فأبى أن يفطر ثم أتوه بماء وقد اشتد نزعه فأومأ إليهم أغربت الشمس؟ قالوا: نعم فقطروا في فيه قطرة من ماء ثم مات واحتضر إبراهيم بن هانيء صاحب الإمام أحمد وهو صائم وطلب وسأل أغربت الشمس؟ فقالوا: لا وقالوا له: قد رخص لك في الفرض وأنت متطوع قال: أمهل ثم قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] ثم خرجت نفسه وما أفطر الدنيا كلها شهر صيام المتقين وعيد فطرهم يوم لقاء ربهم ومعظم نهار الصيام قد ذهب وعيد اللقاء قد اقترب.
وقد صمت عن لذات دهري كلها … ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
ولما كان الصيام سرا بين العبد وبين ربه اجتهد المخلصون في إخفائه بكل طريق حتى لا يطلع عليه أحد قال بعض الصالحين: بلغنا عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فيظن أنه ليس بصائم وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا أصبح أحدكم صائما فليترجل ـ يعني يسرح شعره ـ ويدهنه وإذا تصدق بصدقة عن يمينه فليخفها عن شماله وإذا صلى تطوعا فليصل داخل بيته وقال أبو التياح: أدركت أبي وشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن ولبس صالح ثيابه.
صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان له دكان فكان كل يوم يأخذ من بيته رغيفين ويخرج إلى دكانه فيتصدق بهما في طريقه فيظن أهله أنه يأكلهما في السوق ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته قبل أن يجيء اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يقوم يوم الجمعة في مسجد الجامع فيأخذ إبريق الماء فيضع بلبلته في فيه ويمتصها والناس ينظرون إليه ولا يدخل حلقه منه شيء لينفي عن نفسه ما اشتهر به من الصوم كم يستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق.
ينم عليهم ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية.
كم اكتم حبكم عن الأغيار … والدمع يذيع في الهوى أسرارى
كم أستركم هتكتمو أسرارى … من يخفي في الهوى لهيب النار
ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكلما اجتهد صاحبه على إخفائه فاح ريحه للقلوب فتستنشقه الأرواح وربما ظهر بعد الموت ويوم القيامة.
فكاتم الحب يوم البين منهتك … وصاحب الوجد لا تخفى سرائره
ولما دفن عبد الله بن غالب كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك فرؤى في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره؟ فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ وجاء في حديث مرفوع: يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح صيامهم أفواههم أطيب من ريح المسك.
وهبني كتمت السر أو قلت غيره … أتخفى على أهل القلوب السرائر
أبى ذاك إن السر في الوجه ناطق … وإن ضمير القلب في العين ظاهر
الفصل الثاني: في فضل قيام الليل.
وقد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا على أنه أفضل الصلاة بعد المكتوبة وهل هو أفضل من السنن الراتبة فيه خلاف سبق ذكره وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية وخرجه الطبراني عنه مرفوعا والمحفوظ وقفه وقال عمرو بن العاص: ركعة بالليل خير من عشر بالنهار خرجه ابن أبي الدنيا وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص.
كان السلف يجتهدون على إخفاء تهجدهم قال الحسن: كان الرجل يكون عنده زواره فيقوم من الليل يصلي لا يعلم به زواره وكانوا يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت وكان الرجل ينام مع امرأته على وسادة فيبكي طول ليلته وهي لا تشعر وكان محمد بن واسع يصلي في طريق الحج طول ليله ويأمر.
حاديه أن يرفع صوته ليشغل الناس عنه وكان بعضهم يقوم من وسط الليل ولا يدري به فإذا كان قرب طلوع الفجر رفع صوته بالقرآن يوهم أنه قام تلك الساعة ولأن صلاة الليل أشق على النفوس فإن الليل محل النوم والراحة من التعب بالنهار فترك النوم مع ميل النفس إليه مجاهدة عظيمة قال بعضهم: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس ولأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر فإنه تنقطع الشواغل بالليل ويحضر القلب ويتواطأ هو واللسان على الفهم كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] ولهذا المعنى أمر بترتيل القرآن في قيام الليل ترتيلا ولهذا كانت صلاة الليل تنهاه عن الإثم كما يأتي في حديث خرجه الترمذي وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: إن فلانا يصلين الليل فإذا أصبح سرق؟ فقال: “سينهاه ما تقول” ولأن وقت التهجد من الليل أفضل أوقات التطول بالصلاة وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو وقت فتح أبواب السماء واستجابة الدعاء واستعراض حوائج السائلين.
وقد مدح الله تعالى المستيقظين بالليل لذكره ودعائه واستغفاره ومناجاته فقال الله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16, 17] وقال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] وقال الله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذريات: 17, 18] وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64] وقال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وقال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الاسراء:79] وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} [الانسان:26] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 1, 4] قالت عائشة رضي الله عنها لرجل: “لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه وكان إذا مرض أو قالت: كسل صلى قاعدا” وفي رواية أخرى عنها قالت: بلغني عن قوم يقولون: إن أدينا الفرائض لم نبال أن لا نزداد ولعمري لا يسألهم الله إلا عما افترض عليهم ولكنهم قوم يخطئون بالليل والنهار وما أنتم إلا من نبيكم وما نبيكم إلا
منكم والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل ونزعت كل آية فيها قيام الليل فأشارت عائشة رضي الله عنها إلى قيام الليل فيه فائدتان عظيمتان: الإقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأسي به وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وتكفير الذنوب والخطايا فإن بني آدم يخطئون بالليل والنهار فيحتاجون إلى الإستكثار من مكفرات الخطايا وقيام الليل من أعظم المكفرات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: “قيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة” ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] الآية خرجه الإمام أحمد وغيره.
وقد روي أن المتهجدين يدخلون الجنة بغير حساب وروي عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق سيعلم الخلائق اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي: أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل ثم يحاسب سائر الناس” خرجه ابن أبي الدنيا وغيره ويروى عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله ويروى أيضا من حديث أبي اسحاق عن عبد الله بن عطاء عن قبة بن عامر مرفوعا وموقوفا ويروى نحوه أيضا عن عبادة بن الصامت وربيعة الجرشي والحسن وكعب من قولهم قال بعض السلف: قيام الليل يهون طول القيام يوم القيامة وإذا كان أهله يسبقون إلى الجنة بغير حساب فقد استراح أهله من طول الموقف للحساب.
وفي حديث أبي أمامة وبلال المرفوع: “عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى وتكفير للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد” خرجه الترمذي ففي هذا الحديث أن قيام الليل يوجب صحة الجسد ويطرد عنه الداء وكذلك صيام النهار ففي الطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعا: “صوموا تصحوا” وكما أن قيام الليل يكفر السيئات فهو يرفع الدرجات وقد ذكرنا أن أهله من السابقين إلى الجنة بغير حساب.
وفي حديث المنام المشهور الذي خرجه الإمام أحمد والترمذي: “إن الملأ الأعلى يختصمون في الدرجات والكفارات” وفيه “إن الدرجات إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام” وفي المسند والترمذي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه: “إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها من ظاهرها وإنها لأهل هذه الخصال الثلاثة” وفي حديث عبد الله بن سلام المشهور المخرج في السنن: أنه أول ما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند قدومه المدينة: “يا أيها الناس اطعموا الطعام وافشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام”.
ومن فضائل التهجد: أن الله تعالى يحب أهله ويباهي بهم الملائكة ويستجيب دعائهم روى الطبراني وغيره من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم ـ فذكر منهم الذي له له امرأة حسناء وفراش حسن فيقوم من الليل فيقول الله تعالى: يذر شهوته فيذكرني ولو شاء رقد والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا قام من السحر في سراء وضراء” وخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاثة يحبهم الله ـ فذكر منهم ـ وقوم ساروا ليلهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي” وصححه الترمذي.
وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحبه إلى صلاته فيقول ربنا تبارك وتعالى: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي ورجل غزا في سبيل الله عز وجل وانهزم أصحابه وعلم ما عليه في الانهزام وماله في الرجوع فرجع حتى إهريق دمه فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى إهريق دمه” رواه أحمد وذكر بقية الحديث وقوله ثار فيه إشارة إلى قيامه بنشاط وعزم.
ويروى من حديث عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهور فصلى ورجل نام وهو ساجد ورجل في كتيبة منهزمة فهو على فرس جواد لو شاء أن يذهب لذهب” وخرجه ابن ماجة من رواية مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله ليضحك إلى ثلاثة: الصف في الصلاة والرجل يصلي في جوف الليل والرجل يقاتل أراه قال: خلف الكتيبة” وروينا من حديث أبان عن أنس عن ربيعة بن وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاث مواطن لا ترد فيها دعوة رجل يكون في برية حيث لا يراه أحد فيقوم فيصلي فيقول الله لملائكته: أرى عبدي هذا يعلم أن له ربا يغفر الذنب فانظروا ما يطلب؟ فتقول الملائكة: إي رب رضاك ومغفرتك فيقول: اشهدوا أني قد غفرت له ورجل يقوم من الليل فيقول الله عز وجل: أليس قد جعلت الليل سكنا والنوم سباتا فقام عبدي هذا يصلي ويعلم أن له ربا فيقول الله لملائكته: انظروا ما يطلب عبدي هذا؟ فتقول الملائكة: يا رب رضاك ومغفرتك فيقول: اشهدوا أني قد غفرت له” وذكر الثالث: الذي يكون في فئة فيفر أصحابه ويثبت هو وهو مذكور أيضا في كل الأحاديث المتقدمة.
وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عقبة عن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عقد فيتوضأ فإذا وضأ يديه انحلت عقدة وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة وإذا مسح رأسه انحلت عقدة وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة فيقول الرب عز وجل للذين وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ما سألني عبدي هذا فهو له” وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “نعم الرجل عبد الله ـ يعني ابن عمر ـ لو كان يصلي من الليل” فكان عبد الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلا.
كان أبو ذر رضي الله عنه يقول للناس: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه؟ قالوا: بلى قال: فسفر طريق القيامة أبعد فخذوا له ما يصلحكم حجوا حجة لعظائم الأمور صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير أين رجال الليل أين الحسن وسفيان قال:
يارجل الليل جدوا … رب داع لا يرد
ما يقوم الليل إلا … من له عزم وجد
ليس شيء كصلاة … الليل للقبر يعد
صلى كثير من السلف صلاة الصبح بوضوء العشاء عشرين سنة ومنهم من صلى كذلك أربعين سنة قال بعضهم: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر قال ثابت: كابدت قيام الليل عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة أخرى.
أفضل قيام الليل وسطه قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه” وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ يقوم
للصلاة والصارخ: الديك وهو يصيح وسط الليل وخرج النسائي عن أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير؟ قال: “جوفه” وخرج الإمام أحمد عن أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي قيام الليل أفضل؟ قال: ” جوف الليل الغابر أو نصف الليل وقليل فاعله” وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله أي الصلاة أفضل؟ قال: “جوف الليل الأوسط” قال: أي الدعاء أسمع؟ قال: “دبر المكتوبات” وخرجه الترمذي والنسائي ولفظهما: أنه سأله أي الدعاء أسمع؟ قال: “جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات” وخرج الترمذي من حديث عمرو بن عنبسة سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن”.
ويروى أن داود عليه السلام قال: يا رب أي وقت أقوم لك؟ قال: لا تقم أول الليل ولا آخره ولكن قم وسط الليل حتى تخلوا بي وأخلو بك وارفع إلي حوائجك وفي الأثر المشهور: كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني أليس كل محب يحب خلوة حبيبه فها أنا ذا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري غدا أقر أعين أحبابي في جناني.
الليل لي ولأحبابي أحادثهم … قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا
“لهم قلوب بأسراري بها ملئت … على ودادي وإرشادي لهم طبعوا
سروا فما وهنوا عجزا ولا ضعفوا … وواصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا
ما عند المحبين ألذ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم هو شفاء قلوبهم ونهاية مطلوبهم.
كتمت اسم الحبيب من العباد … ورددت الصبابة في فؤادي
فيا شوقا إلى بلد خلي … لعلى اسم من أهوى أنادي
كان داود الطائي يقول في الليل: همك عطل علي الهموم وحالف بيني وبين السهاد وشوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات وحال بيني وبين الشهوات وكان عتبة الغلام يقول في مناجاته بالليل: إن تعذبني فإني لك محب وإن ترحمني فإني لك محب.
لو أنك أبصرت أهل الهوى … إذا غارت الأنجم الطلع
فهذا ينوح على ذنبه … وهذا يصلي وذا يركع
من لم يشاركهم في هواهم ويذوق حلاوة نجواهم لم يدر ما الذي أبكاهم من لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب.
من لم يبت والحب حشو فؤاده … لم يدر كيف تفتت الأكباد
كان أبو سليمان يقول: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وسط الليل للمحبين للخلوة بمناجاة حبيبهم والسحر للمذنبين للإستغفار من ذنوبهم فوسط الليل خاص لخلوة الخواص والسحر عام لرفع قصص الجميع وبروز التواقيع لأهلها بقضاء الحوائج فمن عجز عن مسابقة المحبين في ميدان مضمارهم فلا يعجز عن مشاركة المذنبين في استغفارهم واعتذارهم صحائف التائبين خدودهم ومدادهم دموعهم قال بعضهم: إذا بكى الخائفون فقد كاتبوا الله بدموعهم رسائل الأسحار تحمل ولا يدري بها الفلك وأجوبتها ترد إلى الأسرار ولا يعلم بها الملك.
صحائفنا إشارتنا … وأكثر رسلنا الحرق
لأن الكتب قد تقرأ … بغير الدمع لا تثق
لا تزال القصص تستعرض ويوقع بقضاء حوائج أهلها إلى أن يطلع الفجر ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأجيب دعوته إلى أن ينفجر الفجر فلذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله.
نحن الذين إذا أتانا سائل … نوليه إحسانا وحسن تكرم
ونقول في الأسحار هل من تائب … مستغفر لينال خير المغنم
الغنيمة تقسم على كل من حضر الوقعة فيعطي منها الرجالة والأجراء والغلمان مع الأمراء والأبطال والشجعان والفرسان فما يطلع فجر الأجر إلا وقد حاز القوم الغنيمة وفازوا بالفخر وحمدوا عند الصباح السرى وما عند أهل الغفلة والنوم خبر مما جرى.
كان بعض الصالحين يقوم الليل فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته يا أيها الركب المعرسون أكل هذا الليل ترقدون ألا تقومون فترحلون فإذا سمع الناس.
صوته وثبوا من فرشهم فيسمع من هنا باك ومن هنا داع ومن هنا نال ومن هنا متوضىء فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته عند الصباح يحمد القوم السرى.
يا نفس قومي فقد نام الورى … إن تصنعي الخير فذو العرش يرى
وأنت يا عين دعي عنك الكرى … عند الصباح يحمد القوم السرى
يا قوام الليل اشفعوا في النوام يا أحياء القلوب ترحموا على الأموات قيل لابن مسعود رضي الله عنه: ما نستطيع قيام الليل؟ قال: أقعدتكم ذنوبكم وقيل للحسن: قد أعجزنا قيام الليل؟ قال: قيدتكم خطاياكم وقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك قال الحسن: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل قال بعض السلف: أذنبت ذنبا فحرمت به قيام الليل ستة أشهر ما يؤهل الملوك للخلوة بهم إلا من أخلص في ودهم ومعاملتهم فأما من كان من أهل المخالفة فلا يؤهلونه في بعض الآثار: إن جبريل عليه السلام ينادي كل ليلة أقم فلانا وأنم فلانا قام بعض الصالحين في ليلة باردة وعليه ثياب رثة فضربه البرد فبكى فهتف به هاتف أقمناك وأنمناهم ثم تبكي علينا.
يا حسنهم والليل قد جنهم … ونورهم يفوق نور الأنجم
ترنموا بالذكر في ليلهم … فعيشهم قد طاب في الترنم
قلوبهم للذكر قد تفرغت … دموعهم كلؤلؤ منظم
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت … وخلع الغفران خير القسم
الليل منهل يرده أهل الإرادة كلهم ويختلفون فيما يردون ويريدون {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] فالمحب يتنعم بمناجاة محبوبه والخائف يتضرع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه والراجي يلح في سؤال مطلوبه والغافل المسكين أحسن الله عزاءه في حرمانه وفوات نصيبه قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: “لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل”.
مرضت رابعة مرة فصارت تصلي وردها بالنهار فعوفيت وقد ألفت ذلك وانقطع عنها قيام الليل فرأت ذات ليلة في نومها كأنها أدخلت إلى روضة خضراء عظيمة وفتح لها فيها باب دار فسطع منها نور حتى كاد يخطف بصرها فخرج منها وصفاء كأن وجوههم اللؤلؤ بأيديهم مجامر فقالت لهم امرأة كانت مع.
رابعة: أين تريدون؟ قالوا: نريد فلانا قتل شهيدا في البحر فنجمره فقالت لهم: أفلا تجمرون هذه المرأة ـ تعني رابعة ـ فنظروا إليها وقالوا: قد كان لها حظ في ذلك فتركته فالتفتت تلك المرأة إلى رابعة وأنشدت:
صلاتك نور والعباد رقود … ونومك ضد للصلاة عنيد
كان بعض العلماء يقوم السحر فنام عن ذلك ليالي فرأى في منامه رجلين وقفا عليه وقال أحدهما للآخر: هذا كان من المستغفرين بالأسحار فترك ذلك يا من كان له قلب فانقلب يا من كان له وقت مع الله فذهب قيام السحر يستوجبن لك صيام النهار يسائل عنك الوصال تعاتبك على الجهر.
تغيرتمو عنا بصحبة غيرنا … وأظهرتم الهجران ما هكذا كنا
وأقسمتمو أن لا تحولوا عن الهوى … فحلتم عن العهد القديم وما حلنا
ليالي كنا نستقي من وصالكم … وقلبي إلى تلك الليالي قد حنا
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانا نام حتى أصبح؟ فقال: “بال الشيطان في أذنه” كان سري يقول: رأيت الفوائد ترد في ظلمة الليل ماذا فات من فاته خير الليل لقد حصل أهل الغفلة والنوم على الحرمان والويل كان بعض السلف يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال له: قم فصل ثم قال له: أما علمت أن مفاتح الجنة مع أصحاب الليل هم خزانها هم خزانها وكان آخر يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال: ما لك قصرت في الخطبة أما علمت أن المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة: قام الخاطب إلى خطبته.
ورأى بعضهم حوراء في نومه فقال لها: زوجيني نفسك قالت: اخطبني إلى ربي وأمهرني قال: ما مهرك؟ قالت: طول التهجد نام ليلة أبو سليمان فأيقظته حوراء وقالت: يا أبا سليمان تنام وأنا أربي لك في الخدور من خمسمائة عام واشترى بعضهم من الله تعالى حوراء بصداق ثلاثين ختمة فنام ليلة قبل أن يكمل الثلاثين فرآها في منامه تقول له:
أتخطب مثلي وعني تنام … ونوم المحبين عني حرام
لأنا خلقنا لكل امرىء … كثير الصلاة براه الصيام
كان النبي صلى الله عليه وسلم يطرق باب فاطمة وعلي ويقول: “ألا تصليان” وفي الحديث: ” إذا استيقظ الرجل وأيقظ أهله فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات”.
كانت امرأة حبيب توقظه بالليل وتقول ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد وزادنا قليل وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.
يا راقد الليل كم ترقد … قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وأوقاته … وردا إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله … لم يبلغ المنزل أو يجهد
قل لأولي الألباب أهل التقى … قنطرة العرض لكم موعد