تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » المجلس الثالث فيما يقوم مقام الحج والعمرة عند العجز عنهما.

المجلس الثالث فيما يقوم مقام الحج والعمرة عند العجز عنهما.

  • بواسطة

يذكر بعد خروج الحاج في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أحدثكم بمال لو أخذتم به لحقتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين”.

وفي المسند وسنن النسائي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يحجون ولا نحج ويجاهدون ولا نجاهد وبكذا وبكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أدلكم على شيء إن أخذتم به جئتم من أفضل ما يجيء به أحد منهم: أن تكبروا الله أربع وثلاثين وتسبحوه ثلاثا وثلاثين وتحمدوه ثلاثا وثلاثين في دبر كل صلاة”.

المال لمن استعان به على طاعة الله وأنفقه في سبل الخيرات القربة إلى الله سبب موصل له إلى الله وهو لمن أنفقه في معاصي الله واستعان به على نيل أغراضه المحرمة أو اشتغل به عن طاعة الله قاطع له عن الله كما قال أبو سليمان الداراني: الدنيا حجاب عن الله لأعدائه ومطية موصلة إليه لأوليائه فسبحان من جعل سببا واحدا للإتصال به والإنقطاع عنه وقد مدح الله في كتابه القسم الأول وذم القسم الثاني فقال في مدح الأولين: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29, 30] والآيات في المعنى كثيرة جدا وقال في ذم الآخرين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 9, 10] .

وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد لا يؤتي زكاة ماله إلا سأل الرجعة عند الموت ثم تلا هذه الآية وأخبر عن أهل النار الذين يؤتي أحدهم كتابه بشماله أنه يقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28, 29] والأحاديث في مدح من أنفق ماله في سبل الخيرات وفي ذم من لم يؤد حق الله منه كثيرة جدا وقد صلى الله عليه وسلم: “نعم المال الصالح للرجل الصالح” وقال: “الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه وقليل ما هم” وقال: “إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع” فالمؤمن الذي يأخذ المال من حقه ويضعه في حقه فله أجر ذلك كله وكلما أنفق منه يبتغي به وجه الله فهو له صدقة يؤجر عليها حتى ما يطعم نفسه فهو له صدقة وما يطعم ولده فهو له صدقة وما يطعم أهله فهو له صدقة وما يطعم خادمه فهو له صدقة وكان عامة أهل الأموال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القسم قال أبو سليمان: كان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف خازنين من خزان الله تعالى في أرضه ينفقان في طاعته وكانت معاملتهم لله بقلوبهما ورأس المنفقين أموالهم في سبيل الله من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وفيه نزلت هذه الآية: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17, 21] وفي صحيح الحاكم عن ابن الزبير قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك فقال أبو بكر: يا أبت إني إنما أريد ما أريد قيل: وإنما أنزلت هذه الآيات فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5] إلى آخر السورة وروي من وجه آخر عن ابن الزبير وخرجه الإسماعيلي ولفظه: أن أبا بكر كان يبتاع الضعفة فيعتقهم فقال له أبو قحافة: يا بني لو ابتعت من يمنع ظهرك فقال: يا أبت منع ظهري أريد ونزلت فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] إلى آخر السورة.

وخرج أبو داود والترمذي من حديث عمر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك عندي مالا فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما قال: فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أبقيت لأهلك”؟ قلت: مثله وإن أبا بكر أتى بكل ما عنده فقال: “يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك”؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله فقلت: لا أسابقه إلى شيء أبدا وخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر” فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله وخرجه الترمذي بدون هذه الزيادة في آخره.

وكان من المنفقين أموالهم في سبيل الله عثمان بن عفان ففي الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل على المنبر وهو يقول: “ما على عثمان ما فعل بعد هذه ما على عثمان ما فعل بعد هذه”.

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن عثمان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: “ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم” مرتين.

وكان أيضا منهم عبد الرحمن بن عوف وفي مسند الإمام أحمد أنه قدم له عير إلى المدينة فارتجت لها المدينة فسألت عائشة عنها وحدثت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فبلغ عبد الرحمن فجعلها كلها في سبيل الله بأقتابها وأحلاسها وكانت سبعمائة راحلة وخرجه ابن سعد من وجه آخر فيه انقطاع وعنده أنها كانت خمسمائة راحلة وخرج الترمذي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول تعني لأزواجه: “إن أمركن لمما يهمني بعدي ولن يصبر عليكن إلا الصابرون” قال: ثم تقول عائشة لأبي سلمة: سقى الله أباك من سلسبيل الجنة وكان قد وصل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمال بيعت بأربعين ألفا وقال: حسن غريب وخرجه الحاكم وصححه وخرج الإمام أحمد أوله وخرج الإمام أحمد أيضا والحاكم من حديث أم بكر بنت المسور بن مخرمة أن عبد الرحمن بن عوف باع أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار فقسمها في فقراء بني زهرة وفي المهاجرين وأمهات المؤمنين قال المسور: فأتيت عائشة رضي الله عنها بنصيبها من ذلك فقالت لنا: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة” وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: “إن الذي يحنو عليكن بعدي هو الصادق البار: اللهم ساق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة” وخرجه ابن سعد وزاد: إن إبراهيم بن سعد قال: حدثني بعض أهلي من ولد عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف باع أمواله من كيدمة وسهمه من بني النضير بأربعين ألف دينار فقسمها على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وخرج الترمذي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه أن أباه عبد الرحمن بن عوف أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف وخرجه الحاكم ولفظه: بيعت بأربعين ألف دينار.

وأخبار الأجواد المنفقين أموالهم في سبيل الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطول ذكرها جدا وكان الفقراء من الصحابة كلما رأوا أصحاب الأموال منهم ينفقون أموالهم فيما يحبه الله من الحج والإعتمار والجهاد في سبيل الله والعتق والصدقة والبر والصلة وغير ذلك من أنواع البر والطاعات والقربات حزنوا لما فاتهم من مشاركتهم في هذه الفضائل وقد ذكرهم الله في كتابه بذلك فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91, 92] : نزلت هذه الآية بسبب قوم من فقراء المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى غزوة تبوك فطلبوا منه أن يحملهم فقال لهم: “لا أجد ما أحملكم عليه” فرجعوا وهم يبكون حزنا على ما فاتهم من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعض العلماء: هذا والله بكاء الرجال بكوا على فقدهم رواحل يتحملون عليها إلى الموت في مواطن تراق فيها الدماء في سبيل الله وتنزع فيها رؤوس الرجال عن كواهلها بالسيوف فأما من بكى على فقد حظه من الدنيا وشهواته العاجلة فذلك شبيه ببكاء الأطفال والنساء على فقد حظوظهم العاجلة.

سهر العيون لغير وجهك باطل … وبكاؤهن لغير فقدك ضائع

إنما يحسن البكاء والأسف على فوات الدرجات العلى والنعيم المقيم قال بعضهم: يرى رجل في الجنة يبكي فيسأل عن حاله فيقول: كانت لي نفس واحدة قتلت في سبيل الله ووددت أنه كانت لي نفوس كثيرة تقتل كلها في سبيله غزا قوم في سبيل الله فلما صافوا عدوهم واقتتلوا رأى كل واحد منهم زوجته من الحور قد فتحت بابا من السماء وهي تستدعي صاحبها إليها وتحثه على القتال فقتلوا كلهم إلا واحدا وكان كلما قتل منهم واحد غلق باب وغابت منه المرأة فأفلت آخرهم فأغلقت تلك المرأة الباب الباقي وقالت ما فاتك يا شقي؟ فكان يبكي على حاله إلى أن مات ولكنه أورثه ذلك طول الإجتهاد والحزن والأسف.

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه … وإن كان من ليلى على الهجر طاويا لما سمع الصحابة رضي الله عنهم قول الله عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] .

{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملا يعجز عنه خشي أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له فيحزن لفوات سبقه فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها كما قال تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ثم جاء من بعدهم فعكس الأمر فصار تنافسهم في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.

قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل وقال بعض السلف: لو أن رجلا سمع بأحد أطوع لله منه كان ينبغي له أن يحزنه ذلك وقال غيره: لو أن رجلا سمع برجل أطوع لله منه فانصدع قلبه فمات لم يكن ذلك بعجب قال رجل لمالك بن دينار رأيت في المنام مناديا ينادي أيها الناس الرحيل الرحيل فما رأيت أحدا يرتحل إلا محمد بن واسع فصاح مالك وغشي عليه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10, 12] قال عمر بن عبد العزيز في حجة حجها عند دفع الناس من عرفة ليس السابق اليوم من سبق به بعيره إنما السابق من غفر له.

كان رأس السابقين إلى الخيرات من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال عمر: ما استبقنا إلى شيء من الخير إلا سبقنا أبو بكر وكان سباقا بالخيرات ثم كان السابق بعده إلى الخيرات عمر وفي آخر حجة حجها عمر جاء رجل لا يعرف كانوا يرونه من الجن فرثاه بأبيات منها:

فمن يسع أو يركب جناحي نعامة … ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق

صاحب الهمة العالية والنفس الشريفة التواقة لا يرضى بالأشياء الدنية الفانية وإنما همته المسابقة إلى الدرجات الباقية الزاكية التي لا تفنى ولا يرجع عن مطلوبه ولو تلفت نفسه في طلبه ومن كان في الله تلفه كان على الله خلفه.

قيل لبعض المجتهدين في الطاعات: لم تعذب هذا الجسد؟ قال: كرامته أريد.

وإذا كانت النفوس كبارا … تعبت في مرادها الأجسام

قال عمر بن عبد العزيز إن لي نفسا تواقة ما نالت شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه وإنها لما نالت هذه المنزلة يعني الخلافة وليس في الدنيا منزلة أعلى منها تاقت إلى ما هو أعلى من الدنيا يعني الآخرة.

على قدر أهل العزم تأتي العزائم … وتأتي على قدر الكرام المكارم

قيمة كل إنسان ما يطلب فمن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منه فإن الدنيا دنية وأدنى منها من يطلبها وهي خسيسة وأخس منها من يخطبها قال بعضهم: القلوب جوالة فقلب يجول حول العرش وقلب يجول حول الحش الدنيا كلها حش وكل ما فيها من مطعم ومشرب يؤل إلى الحش وما فيها من أجسام ولباس يصير ترابا كما قيل:

وكل الذي فوق التراب تراب

وقال بعضهم في يوم عيد لإخوانه: هل تنظرون إلا خرقا تبلى أو لحما يأكله الدود غدا وأما من كان يطلب الآخرة فقدره خطير لأن الآخرة خطيرة شريفة ومن يطلبها أشرف منها كما قيل:

أثامن بالنفس النفيسة ربها … وليس لها في الخلق كلها ثمن
بها تدرك الأخرى فإن أنا بعتها … بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن
لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها … لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن

وأما من كان يطلب الله فهو أكبر الناس عنده كما أن مطلوبه أكبر من كل شيء كما قيل:

له همم لا منتهى لكبارها … وهمته الصغرى أجل من الدهر

قال الشبلي: من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها فصار رمادا تذروه الرياح ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب ينتفع به ومن ركن إلى الله أحرقه بنور التوحيد فصار جوهرا لا قيمة له العالي الهمة يجتهد في نيل مطلوبه ويبذل وسعه في الوصول إلى رضى محبوبه فأما خسيس الهمة فاجتهاده في متابعة هواه ويتكل على مجرد العفو فيفوته إن حصل له العفو منازل السابقين المقربين قال بعض السلف: هب أن المسيء عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين.

فيا مذنب يرجو من الله عفوه … أترضى بسبق المتقين إلى الله

لما تنافس المتنافسون في نيل الدرجات غبط بعضهم بعضا بالأعمال.

الصالحات قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فهو ينفقه في سبيل الله آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار” وفي رواية: “لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار يقول: لو أتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في حقه يقول: لو أتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل” وهذا الحديث في الصحيحين وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما مثل هذه الأمة كأربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا وهو يقول: لو كان لي مثل هذا لعملت فيه مثل الذي يعمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته الله علما ولا مالا فهو يقول: لو كان لي مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الوزر سواء”.

وروى حميد بن زنجويه بإسناده عن زيد بن أسلم قال: يؤتى يوم القيامة بفقير وغني اصطحبا في الله فيوجد للغني فضل عمل فيما كان يصنع في ماله فيرفع على صاحبه فيقول الفقير: يا رب لما رفعته وإنما اصطحبنا فيك وعملنا لك فيقول الله تعالى: له فضل عمل بما صنع في ماله فيقول: يا رب لقد علمت لو أعطيتني مالا لصنعت مثل ما صنع فيقول: صدق فارفعوه إلى منزلة صاحبه ويؤتى بمريض وصحيح اصطحبا في الله فيرفع الصحيح بفضل عمله فيقول المريض: يا رب لم رفعته علي فيقول: بما كان يعمل في صحته فيقول: يا رب لقد علمت لو أصححتني لعملت كما عمل فيقول الله: صدق فارفعوه إلى درجة صاحبه ويؤتى بحر ومملوك اصطحبا في الله فيقول مثل ذلك ويؤتى بحسن الخلق وسيء الخلق فيقول: يا رب لم رفعته علي وإنما اصطحبنا فيك وعملنا فيقول: بحسن خلقه فلا يجد له جوابا.

العاقل يغبط من أنفق ماله في سبيل الخيرات ونيل علو الدرجات والجاهل يغبط من أنفق ماله في الشهوات وتوصل به إلى اللذات المحرمات قال الله تعالى حاكيا عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 79, 80] إلى قوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:

83] فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تأسف أصحابه الفقراء وحزنهم على ما فاتهم من إنفاق إخوانهم الأغنياء أموالهم في سبيل الله تقربا إليه وابتغاء لمرضاته طيب قلوبهم ودلهم على عمل يسير يدركون به من سبقهم ولا يلحقهم معه أحد بعدهم ويكونون به خيرا ممن هم معه إلا من عمل مثل عملهم: وهو الذكر عقب الصلوات المفروضات.

وقد اختلفت الروايات بأنواعه وعدده والأخذ بكل ما ورد من ذلك حسن وله فضل عظيم وفي حديث أبي هريرة هذا: أنهم يسبحون ويحمدون ويكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين وقد فسره أبو صالح راوية عنه بالجمع وهو أن يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين مرة فيكون جملة ذلك تسعا وتسعين.

وقد يستشكل على هذا حديث: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: عما يعدل الجهاد؟ فقال: “هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر وتقوم ولا تفتر” وهو حديث ثابت صحيح أيضا فلم يجعل للجهاد عدلا سوى الصيام الدائم والقيام الدائم وفي هذا الحديث قد جعل الذكر عقب الصلوات عدلا له؟ والجمع بين ذلك كله: أن النبي لم يجعل للجهاد في زمانه عملا يعدله بحيث إذا انقضى الجهاد انقضى ذلك العمل واستوى العامل مع المجاهد في الأجر وإنما جعل الذي يعدل الجهاد الذكر الكثير المستدام في بقية عمر المؤمن من غير قطع له حتى يأتي صاحبه أجله فإذا استمر على هذا الذكر في أوقاته إلى أن مات عليه عدل ذكره هذا الجهاد وقد دل على ذلك أيضا ما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ” قالوا بلى يا رسول الله قال: “ذكر الله عز وجل” وخرجه مالك في الموطأ موقوفا.

وخرج الإمام أحمد والترمذي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي العبادة أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 35] قلت يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: “لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختصب دما لكان الذاكرون الله عز وجل أفضل منه درجة” وقد روي هذا المعنى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وطائفة من الصحابة موقوفا وأن الذكر لله أفضل من الصدقة بعدة دراهم ودنانير ومن النفقة في سبيل الله وقيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: رجل أعتق مائة نسمة؟ قال: إن مائة نسمة من مال رجل كثير وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل وعنه قال: لأن أقول لا إله إلا الله والله أكبر مائة مرة أحب إلي من أن أتصدق بمائة دينار ويروى مرفوعا وموقوفا من غير وجه.

من فاته الليل أن يكابده وبخل بالمال أن ينفقه وجبن عن عدوه أن يقاتله فليكثر من سبحان الله وبحمده فإنها أحب إلى الله من جبل ذهب أو فضة ينفقه في سبيل الله عز وجل وذكر الله من أفضل أنواع الصدقة وخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: “ما صدقة أفضل من ذكر الله عز وجل” وقد قال طائفة من السلف في قول الله عز وجل: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد: 18] : إن القرض الحسن قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما أنفق عبد نفقة أفضل عند الله عز وجل من قول ليس من القرآن وهو من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر” وروى عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن قتادة قال: قال ناس من فقراء المؤمنين: يا رسول الله ذهب أصحاب الدثور بالأجور يتصدقون ولا نتصدق وينفقون ولا ننفق قال “أرأيتم لو أن مال الدنيا وضع بعضه على بعض أكان بالغا السماء”؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: “أفلا أخبركم بما أصله في الأرض وفرعه في السماء: أن تقولوا في دبر كل صلاة: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله عشر مرات فإن أصلهن في الأرض وفرعهن في السماء”.

وقد كان بعض الصحابة يظن أن لا صدقة إلا بالمال فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم: أن “الصدقة لا تختص بالمال وأن الذكر وسائر أعمال المعروف صدقة” كما في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه: أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو ليس قد جعل الله لكم ما تتصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة.

وفي المسند عنه أنه قال يا رسول الله الأغنياء يتصدقون ولا نتصدق قال: “وأنت فيك صدقة رفعك العظم عن الطريق صدقة وهدايتك الطريق صدقة وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة وبيانك عن الأرتم صدقة ومباضعتك امرأتك صدقة”.

وفي المعنى أحاديث كثيرة جدا يطول ذكرها.

واعلم أن من عجز عن عمل خير وتأسف عليه وتمنى حصوله كان شريكا لفاعله في الأجر كما تقدم في الذي قال: لو كان لي مال لعملت فيه ما عمل فلان.. أنهما سواء في الأجر والوزر وقد قيل إنهما سواء في أصل الأجر دون المضاعفة فإنهما تختص بالعامل فمن هنا كان أرباب الهمم العالية لا يرضون بمجرد هذه المشاركة ويطلبون أن يعملوا أعمالا تقاوم الأعمال التي عجزوا عنها ليفوزوا بثواب يقاون ثواب تلك الأعمال ويضاعف لهم كما يضاعف لأولئك فيسيروا هو وأولئك العمال في الأجر كله.

وقد كان بعض من يقعد عن الجهاد من امرأة وضعيف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن عمل يعدل الجهاد.

وفات بعض النساء الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدم سألته عما يجزىء من تلك الحجة قال: “اعتمري في رمضان فإن عمرة في رمضان تعدل حجة أو حجة معي”.

وقالت عائشة يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: “جهادكن الحج والعمرة”.

وكان منهم من إذا تخلف عن الغزو واجتهد في مشاركة الغزاة في أجرهم فإما أن يخرج مكانه رجلا بماله وإما أن يعين غازيا وإما أن يخالف في أهله بخير فإن من فعل هذا كله فقد غزا.

تصدق بعض الأغنياء بمال كثير فبلغ ذلك طائفة من الصالحين فاجتمعوا في مكان وحسبوا ما تصدق به من الدراهم وصلوا بدل كل درهم تصدق به لله ركعة هكذا يكون استباق الخيرات والتنافس في علو الدرجات.

كذاك الفخر يا همم الرجال … تعالى فانظري كيف التغالي

سبحان من فضل هذه الأمة وفتح لها على يدي نبيها نبي الرحمة أبواب الفضائل الجمة فما من عمل عظيم يقوم به قوم ويعدز عنه آخرون إلا وقد جعل الله عملا يقاومه أو يفضل عليه فتتساوى الأمة كلها في القدرة عليه.

لما كان الجهاد أفضل الأعمال ولا قدرة لكثير من الناس عليه كان الذكر الكثير الدائم يساويه ويفضل عليه وكان العمل في عشر ذي الحجة يفضل عليه إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع منهما بشيء.

لما كان الحج من أفضل الأعمال والنفوس تتوق إليه لما وضع الله في القلوب من الحنين إلى ذلك البيت المعظم وكان كثير من الناس يعجز عنه ولا سيما كل عام شرع الله أعمالا يبلغ أجرها أجر الحج فيتعرض بذلك العاجزون عن التطوع بالحج.

ففي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من صلى الصبح في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له مثل أجر حجة وعمرة تامة” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “تامة تامة تامة”.

شهود الجمعة يعدل حجة تطوع قال سعيد بن المسيب هو أحب إلى من حجة نافلة وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم المبكر إليها كالمهدي هديا إلى بيت الله الحرام وفي حديث ضعيف “الجمعة حج المساكين”.

وفي تاريخ ابن عساكر عن الأوزاعي قال مر يونس بن ميسرة بن حلبس بمقابر باب توما فقال: السلام عليكم يا أهل القبور أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع فرحمنا الله وإياكم وغفر لنا ولكم فكأن قد صرنا إلى ما صرتم إليه فرد الله الروح إلى رجل منهم فأجابه فقال: طوبى لكم يا أهل الدنيا حين تحجون في الشهر أربع مرار قال وإلى أين يرحمك الله؟ قال إلى الجمعة أما تعلمون أنها حجة مبرورة متقبلة قال: ما خير ما قدمتم؟ قال الاستغفار يا أهل الدينا قال فما يمنعك أن ترد السلام؟ قال: يا أهل الدنيا السلام والحسنات قد رفعت عنا فلا في حسنة نزيد ولا في سيئة تنقص غلقت رهوننا يا أهل الدنيا.

في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد لأداء صلاة مكتوبة فأجره مثل أجر الحاج المحرم ومن خرج لصلاة الضحى كان له مثل أجر المعتمر”.

وفي حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى رجلا ببر أمه وقال له “أنت حاج ومعتمر ومجاهد” ويعني إذا برها.

وقال بعض الصحابة الخروج إلى العيد يوم الفطر يعدل عمرة ويوم الأضحى يعدل حجة.

وقال الحسن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة.

وقال عقبة بن عبد الغافر: صلاة العشاء في جماعة تعدل حجة وصلاة الغد في جماعة تعدل عمرة وقال أبو هريرة لرجل: بكورك إلى المسجد أحب إلي من غزوتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره الإمام أحمد.

أداء الواجبات كلها أفضل من التنفل بالنفل بالحج والعمرة وغيرهما فإنه ما تقرب العباد إلى الله تعالى بأحب إليه من أداء ما افترض عليهم وكثير من الناس يهون عليه التنقل بالحج والصدقة ولا يهون عليه أداء الواجبات من الديون ورد المظالم وكذلك يثقل على كثير من النفوس التنزه عن كسب الحرام والشبهات ويسهل عليها إنفاق ذلك في الحج والصدقة قال بعض السلف: ترك دانق مما يكرهه الله أحب إلي من خمسمائة حجة.

كف الجوارح عن المحرمات أفضل من التطوع بالحج وغيره وهو أشف على النفوس قال الفضيل بن عياض: ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في هم شديد ليس الإعتبار بأعمال البر بالجوارح وإنما الإعتبار بلين القلوب وتقواها وتطهيرها عن الآثام سفر الدنيا ينقطع بسير الأبدان وسفر الآخرة ينقطع بسير القلوب قال رجل لبعض العارفين: قد قطعت إليك مسافة قال: ليس هذا الأمر بقطع المسافات فارق نفسك بخطوة وقد وصلت إلى مقصودك سير القلوب أبلغ من سير الأبدان كم من واصل ببدنه إلى البيت وقلبه منقطع عن رب البيت وكم من قاعد على فراشه في بيته وقلبه متصل بالمحل الأعلى.

جسمي معي غير أن الروح عندكم … فالجسم في غربة والروح في وطن

قال بعض العارفين: عجبا لمن يقطع المفاوز والقفار ليصل إلى البيت فيشاهد فيه آثار الأنبياء كيف لا يقطع هواه ليصل إلى قلبه فيرى فيه أثر: “ويسعني قلب عبدي المؤمن” أيها المؤمن: إن لله بين جنبيك بيتا لو طهرته لأشرق ذلك البيت بنور ربه وانشرح وانفسح أنشد الشبلي:

إن بيتا أنت ساكنه … غير محتاج إلى السرج
ومريضا أنت عائده … قد أتاه الله بالفرج
وجهك المأمول حجتنا … يوم يأتي الناس بالحجج

تطهيره تفريغه من كل ما يكرهه الله تعالى من أصنام النفس والهوى ومتى بقيت فيه من ذلك بقية فالله أغنى الأغنياء عن الشرك وهو لا يرضى بمزاحمة الأصنام قال سهل بن عبد الله: حرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكرهه الله.

أردناكم صرفا فلما مزجتم … بعدتم بمقدار التفاتكم عنا
وقلنا لكم لا تسكنوا القلب غيرنا … فأسكنتم الأغيار ما أنتم منا

إخواني إن حبستم العام عن الحج فارجعوا إلى جهاد النفوس فهو الجهاد الأكبر أو أحصرتم عن أداء النسك فأريقوا على تخلفكم من الدموع ما تيسر فإن إراقة الدماء لازمة للمحصر ولا تحلقوا رؤوس أديانكم بالذنوب فإن الذنوب حالقة الدين ليست حالقة الشعر وقوموا لله باستشعار الرجاء والخوف مقام القيام بأرجاء الخيف والمشعر ومن كان قد بعد عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله فإن رحمة الله قريب ممن تاب إليه واستغفر ومن عجز عن حج البيت أو البيت منه بعد فليقصد رب البيت فإنه ممن دعاه ورجاه أقرب من حبل الوريد.

إليك قصدي رب البيت والحجر … فأنت سؤالي من حجي ومن عمري
وفيك سعيي وتطوافي ومزدلفي … والهدي جسمي الذي يغني عن الجزي
ومسجد الخيف خوفي من تباعدكم … ومشعري ومقامي دونكم خطري
زادي رجائي لكم والشوق راحلتي … والماء من عبراتي والهوى سفري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *