في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم ـ يعني يوم عاشوراء ـ وهذا الشهر ـ ـ يعني رمضان يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة وصومه لفضله كان معروفا بين الأنبياء عليهم السلام وقد صامه نوح وموسى عليهما السلام كما سنذكره إن شاء الله تعالى وروي عن إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يوم عاشوراء كانت تصومه الأنبياء فصوموه أنتم” خرجه بقي بن مخلد في مسنده وقد كان أهل الكتاب يصومونه وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه قال دلهم بن صالح: قلت لعكرمة: عاشوراء ما أمره؟ قال: أذنبت قريش في الجاهلية ذنبا فتعاظم في صدورهم فسألوا ما توبتهم؟ قيل: صوم عاشوراء يوم العاشر من المحرم.
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في صيامه أربع حالات:
الحالة الأولى:
أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء أفطره وفي رواية للبخاري وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من شاء فليصمه ومن شاء أفطر”.
الحالة الثانية:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه والحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فنحن أحق وأولى بموسى منكم” فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه.
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود قد صاموا عاشوراء فقال: “ما هذا من الصوم”؟! قالوا: هذا اليوم الذي نجى الله عز وجل موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله عز وجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم” فأمر أصحابه بالصوم وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا من أسلم: أن أذن في الناس: من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء
وفيهما أيضا عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: “من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه” فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار وفي رواية فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة نلهيهم حتى يتموا صومهم وفي الباب أحاديث كثيرة جدا.
وخرج الطبراني بإسناد فيه جهالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو يوم عاشوراء برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة فيتفل في أفواههم ويقول لأمهاتهم: “لا ترضعوهم إلى الليل” وكان ريقه صلى الله عليه وسلم يجزئهم.
وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل كان صوم يوم عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجبا أم كان سنة متأكدة؟ على قولين مشهورين ومذهب أبي حنيفة أنه كان واجبا حينئذ وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وأبي بكر الأثرم وقال الشافعي رحمه الله بل كان متأكد الاستحباب فقط وهو قول كثير من أصحابنا وغيرهم.
الحالة الثالثة:
أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيده فيه وقد سبق حديث عائشة في ذلك وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك ذلك وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه وفي رواية لمسلم: إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه” وفي رواية له أيضا: ” فمن أحب منكم أن يومه فليصمه ومن كره فليدعه”.
وفي الصحيحين أيضا عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر” وفي رواية لمسلم التصريح برفع آخره وفي رواية للنسائي أن آخره مدرج من قول معاوية وليس بمرفوع.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال في يوم عاشوراء: هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل رمضان فلما نزل شهر رمضان ترك وفي رواية أنه تركه وفيه أيضا عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا عنه ولم يتعاهدنا عنده وخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث قيس بن سعد قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء قبل أن ينزل رمضان فلما نزل رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا وفي رواية: ونحن نفعله.
فهذه الأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجدد أمر الناس بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه فإن كان أمره صلى الله عليه وسلم بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان للوجوب فإنه ينبني على أن الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الإستحباب أم لا؟ وفيه اختلاف مشهور بين العلماء رضي الله عنهم وإن كان أمره للاستحباب المؤكد فقد قيل: إنه زال التوكيد وبقي أصل الإستحباب ولهذا قال قيس بن سعد: ونحن نفعله وقد روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على أن أصل استحباب صيامه زال وقال سعيد بن المسيب: لم يصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وروي عنه عن سعد بن أبي وقاص والمرسل أصح قال الدارقطني.
وأكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد وممن روي عنه صيامه من الصحابة عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وأبو موسى وقيس بن سعد وابن عباس وغيرهم ويدل على بقاء استحبابه قول ابن عباس رضي الله عنهما: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوما يتحرى فضله على الأيام إلا يوم عاشوراء وشهر رمضان وابن عباس إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم بآخرة وإنما عقل منه صلى الله عليه وسلم من آخر أمره.
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء؟ فقال: “أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله” وإنما سأله عن التطوع بصيامه فإنه سأله أيضا عن صيام يوم عرفة وصيام الدهر وصيام يوم وفطر يوم وصيام يوم وفطر يومين فعلم أنه إنما سأله عن صيام التطوع وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث حفصة بنت عمر أم المؤمنين رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع صيام يوم عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر وخرجه أبو داود إلا أن عنده عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير مسماة.
الحالة الرابعة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا بل يضم إليه يوما آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع” قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية له أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر” يعني عاشوراء وخرجه الطبراني ولفظه “إن عشت إلى قابل صمت التاسع مخافة أن يفوتني عاشوراء”.
وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود صوموا قبله يوما وبعده يوما” وجاء في رواية: “أو بعده” فإما أن تكون “أو” للتخير أو يكون شكا من الراوي: هل قال قبله أو بعده وروي هذا الحديث بلفظ آخر وهو: “لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله ويوم بعده” يعني عاشوراء وفي رواية أخرى: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ولآمرن بصيام يوم قبله ويوم بعده” يعني عاشوراء أخرجهما الحافظ أبو موسى المديني.
وقد صح هذا عن ابن عباس من قوله من رواية ابن جريج قال: أخبرنا عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء: خالفوا اليهود صوموا التاسع والعاشر قال الإمام أحمد أنا أذهب إليه.
وروي عن ابن عباس: أنه صام التاسع والعاشر وعلل بخشية فوات عاشوراء وروى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس: أنه كان يصوم عاشوراء في السفر ويوالي بين اليومين خشية فواته وكذلك روي عن ابن اسحاق أنه صام يوم عاشوراء ويوما قبله ويوما بعده وقال: إنما فعلت ذلك خشية أن يفوتني وروي عن ابن سيرين أنه كان يصوم ثلاثة أيام عند الإختلاف في هلال الشهر احتياطا وروي عن ابن عباس والضحاك أن يوم عاشوراء هو تاسع المحرم قال ابن سيرين: كانوا لا يختلفون أنه اليوم العاشر إلا ابن عباس فإنه قال: إنه التاسع وقال الإمام أحمد في رواية الميموني: لا أدري هو التاسع أو العاشر ولكن نصومهما فإن اختلف في الهلال صام ثلاثة أيام احتياطا وابن سيرين يقول ذلك.
وممن رأى صيام التاسع والعاشر: الشافعي رضي الله عنه وأحمد واسحاق وكره أبو حنيفة إفراد العاشر بالصوم.
وروى الطبراني من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس: إنما كان يوم تستر فيه الكعبة وتقاس فيه الحبشة عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان يدور في السنة فكان الناس يأتون فلانا اليهودي يسألونه فلما مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه وهذا فيه إشارة إلى أن عاشوراء ليس هو في المحرم بل يحسب بحساب السنة الشمسية كحساب أهل الكتاب وهذا خلاف ما عليه عمل المسلمين قديما وحديثا وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد من هلال المحرم ثم يصبح يوم التاسع صائما وابن أبي الزناد لا يعتمد على ما ينفرد به وقد جعل الحديث كله عن زيد بن ثابت وآخره لا يصلح أن يكون من قول زيد فلعله من قول من دونه والله أعلم.
وكان طائفة من السلف يصومون عاشوراء في السفر منهم ابن عباس وأبو اسحاق والزهري وقال: رمضان له عدة من أيام أخر وعاشوراء يفوت ونص أحمد على أن يصام عاشوراء في السفر وروى عبد الرزاق في كتابه عن إسرائيل عن سماك بن حرب عن معبد القرشي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بقديد فأتاه رجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أطعمت اليوم شيئا ليوم عاشوراء”؟ قال لا إلا أني شربت ماء قال: “فلا تطعم شيئا حتى تغرب الشمس وأمر من وراءك أن يصوموا هذا اليوم” ولعل المأمور كان من أهل قديد وروى بإسناده عن طاوس أنه كان يصوم عاشوراء في الحضر ولا يصومه في السفر.
ومن أعجب ما ورد في عاشوراء أنه كان يصوم الوحش والهوام وقد روي مرفوعا: “أن الصرد أول طير صام عاشوراء” خرجه الخطيب في تاريخه وإسناده غريب وقد روى ذلك عن أبي هريرة وروي عن فتح بن شخرف قال كنت أفت للنمل الخبز كل يوم فلما كان عاشوراء لم يأكلوه وروي عن القادر بالله الخليفة العباسي أنه جرى له مثل ذلك وأنه عجب منه فسأل أبا الحسن القزويني الزاهد فذكر له أن يوم عاشوراء تصومه النمل وروى أبو موسى المديني بإسناده عن قيس بن عباد قال: بلغني أن الوحش كانت تصوم عاشوراء وبإسناد له عن رجل أتى البادية يوم عاشوراء فرأى قوما يذبحون ذبائح فسألهم عن ذلك فأخبروه أن الوحوش صائمة وقالوا: اذهب بنا نرك فذهبوا به إلى روضة فأوقفوه قال: فلما كان بعد العصر جاءت الوحوش من كل وجه فأحاطت بالروضة رافعة رؤوسها إلى السماء ليس شيء منها يأكل حتى إذا غابت الشمس أسرعت جميعا فأكلت.
وبإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: بين الهند والصين أرض كان بها بطة من نحاس على عمود من نحاس فإذا كمان يوم عاشوراء مدت منقارها فيفيض من منقارها ماء يكفيهم لزروعهم ومواشيهم إلى العام المقبل ورؤي بعض العلماء المتقدمين في المنام فسئل عن حاله فقال: غفر لي بصيام عاشوراء ستين سنة وفي رواية: “ويوم قبله ويوم بعده”
وذكر عبد الوهاب الخفاف في كتاب الصيام: قال سعيد: قال قتادة: كان يقال: صوم عاشوراء كفارة لما ضيع الرجل من زكاة ماله وقد روي: إن عاشوراء كان يوم الزينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون وأنه كان عيدا لهم
ويروى أن موسى عليه السلام كان يلبس فيه الكتان ويكتحل فيه بالإثمد وكان اليهود من أهل المدينة وخيبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذونه عيدا وكان أهل الجاهلية يقتدون بهم في ذلك وكانوا يسترون فيه الكعبة ولكن شرعنا ورد بخلاف ذلك ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء يوما تعظمه اليهود وتتخذه عيدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صوموه أنتم”
وفي رواية لمسلم: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فصوموه أنتم” وخرجه النسائي وابن حبان وعندهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خالفوهم فصوموه”
وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا وعلى استحباب صيام أعياد المشركين فإن الصوم ينافي اتخاذه عيدا فيوافقون في صيامه مع صيام يوم آخر معه كما تقدم فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفية صيامه أيضا فلا تبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكلية
وعلى مثل هذا يحمل ما خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول: “إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم” فإنه إذا صام اليومين معا خرج بذلك عن مشابهة اليهود والنصارى في تعظيم كل طائفة ليومها منفردا
وصيامه فيه مخالفة لهم في اتخاذه عيدا ويجمع بذلك بين هذا الحديث وبين حديث النهي عن صيام يوم السبت.
وكل ما روى في فضل الإكتحال في يوم عاشوراء والإختضاب والإغتسال فيه فموضوع لا يصح وأما الصدقة فيه فقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من صام عاشوراء فكأنما صام السنة ومن تصدق فيه كان كصدقة السنة أخرجه أبو موسى المديني.
وأما التوسعة فيه على العيال فقال حرب: سألت أحمد عن الحديث الذي جاء: “من وسع على أهله يوم عاشوراء” فلم يره شيئا وقال ابن منصور: قلت لأحمد: هل سمعت في الحديث: “من وسع على أهله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر السنة” فقال: نعم رواه سفيان بن عيينة عن جعفر الأحمر عن إبراهيم بن محمد عن المنتشر وكان من أفضل أهل زمانه أنه بلغه: أنه من وسع على عياله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر سنته قال ابن عيينة: جربناه منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيرا وقول حرب أن أحمد لم يره شيئا إنما أراد به الحديث الذي يروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يصح إسناده وقد روي من وجوه متعددة لا يصح منها شيء وممن قال ذلك محمد بن عبد الله بن عبد الحكم
وقال العقبلي: هو غير محفوظ وقد روي عن عمر من قوله وفي إسناده مجهول لا يعرف.
وأما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنه فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف بمن دونهم.
ومن فضائل يوم عاشوراء:
أنه يوم تاب الله فيه على قوم وقد سبق حديث علي الذي خرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ” إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإن فيه يوما تاب الله على قوم ويتوب فيه على آخرين” وقد صح من حديث ابن اسحاق عن الأسود بن يزيد قال: سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء: فقال المحرم شهر الله الأصم: فيه يوم تيب فيه على آدم فإن استطعت أن لا يمر بك إلا صمته كذا روي عن شعبة عن أبي اسحاق ورواه اسرائيل عن أبي اسحاق ولفظه قال: “إن قوما أذنبوا فتابوا فيه فتيب عليهم فإن استطعت أن لا يمر بك إلا وأنت صائم فافعل” ورواه يونس عن أبي اسحاق ولفظه قال: “إن المحرم شهر الله وهو رأس السنة تكتب فيه الكتب ويؤرخ فيه التاريخ وفيه تضرب الورق وفيه يوم تاب فيه قوم فتاب الله عليهم فلا يمر بك إلا صمته” يعني يوم عاشوراء وروى أبو موسى المديني من حديث أبي موسى مرفوعا: “هذا يوم تاب الله فيه على قوم فاجعلوه صلاة وصوما” يعني يوم عاشوراء وقال: حسن غريب وليس كما قال وروى باسناده عن علي قال: يوم عاشوراء هو اليوم الذي تيب فيه على قوم يونس.
وعن ابن عباس قال: هو اليوم الذي تيب فيه على آدم وعن وهب: إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: أن مر قومك يتوبوا إلي في أول عشر المحرم فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إلي حتى أغفر لهم وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن رجل عن عكرمة قال: هو يوم تاب الله فيه على آدم يوم عاشوراء وروى عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة قال: كنا نتحدث اليوم الذي تيب فيه على آدم يوم عاشوراء وهبط فيه آدم إلى الأرض يوم عاشوراء وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي ويتوب فيه على آخرين حث للناس على تجديد التوبة النصوح في يوم عاشوراء وترجيه لقبول التوبة فمن تاب فيه إلى الله عز وجل من ذنوبه تاب الله عليه كما تاب فيه على من قبلهم.
وقد قال الله تعالى عن آدم: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] وأخبر عنه وعن زوجه أنهما قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] .
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار كتابا قال فيه: قولوا كما قال أبوكم آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وقولوا كما قال نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] وقولوا كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] وقولوا كما قال ذو النون: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الانبياء: 87] .
واعتراف المذنب بذنبه مع الندم عليه توبة مقبولة قال الله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه” وفي دعاء الإستفتاح الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح به: “اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت” وفي الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للصديق أن يقوله في صلاته: “اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم” وفي حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم: “سيد الإستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت” الإعتراف يمحو الإقتراف كما قيل:
فإن اعتراف المرء يمحو إقترافه … كما أن إنكار الذنوب ذنوب
لما أهبط آدم من الجنة بكى على تلك المعاهد فيما يروى ثلاثمائة عام وحق له ذلك كان في دار لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى فلما نزل إلى الأرض أصابه ذلك كله وكان إذا رأى جبريل عليه السلام يتذكر برؤيته تلك المعاهد فيشتد بكاؤه حتى يبكي جبريل عليه السلام لبكائه ويقول له: ما هذا البكاء يا آدم فيقول: وكيف لا أبكي وقد أخرجت من دار النعمة إلى دار البؤس فقال له بعض ولده: لقد آذيت أهل الأرض ببكائك فقال إنما أبكي على أصوات الملائكة حول العرش وفي رواية قال: إنما أبكي على جوار ربي في دار تربتها طيبة أسمع فيها أصوات الملائكة وفي رواية قال: أبكي على دار لو رأيتها لزهقت نفسك شوقا إليها وروي أنه قال لولده: كنا نسلا من نسل السماء خلقنا كخلقهم وغذينا بغذائهم فسبانا عدونا إبليس فليس لنا فرحة ولا راحة إلا الهم والعناء حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها.
فحي على جنات عدن فإنها … منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو فهل ترى … نعود إلى أوطاننا ونسلم
لما التقى آدم وموسى عليهما السلام عاتب موسى آدم على إخراجه نفسه وذريته من الجنة فاحتج آدم بالقدر السابق والإحتجاج بالقدر على المصائب حسن كما قال صلى الله عليه وسلم: “إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل”.
والله لولا سابق الأقدار … لم تبعد قط داركم عن داري
من قبل النأي جزية المقدار … هل يمحو العبد ما قضاه الباري
لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له وبتعليمه أسماء كل شيء وإخباره الملائكة بها وهم يستمعون له كاستماع المتعلم من معلمه حتى أقروا بالعجز عن علمه وأقروا له بالفضل وأسكن هو وزوجته الجنة ظهر الحسد من إبليس وسعى في الأذى ـ وما زالت الفضائل إذا ظهرت تحسد:
لا مات حسادك بل خلدوا … حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسودا على نعمة … فإنما الكامل من يحسد
فما زال يحتال على آدم حتى تسبب في إخراجه من الجنة وما فهم الأبله أن آدم إذا خرج منها كملت فضائله ثم عاد إلى الجنة على أكمل من حاله الأول إنما أهلك إبليس العجب بنفسه ولذلك قال {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] وإنما كملت فضائل آدم باعترافه على نفسه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] كان إبليس كلما أوقد نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم واحترق إبليس:
وإذا أراد الله نشر فضيلة … طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت … ما كان يعرف طيب عرف العود
قال بعض السلف: آدم أخرج من الجنة بذنب واحد وأنتم تعلمون الذنوب وتكثرون منها وتريدون أن تدخلوا بها بها الجنة كما قيل:
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى … درج الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدما … منها إلى الدنيا بذنب واحد
احذروا هذا العدو الذي أخرج أباكم من الجنة فإنه ساع في منعكم من العود إليها بكل سبيل والعداوة بينكم وبينه قديمة فإنه ما أخرج من الجنة وطرد عن الخدمة إلا بسبب تكبره على أبيكم وامتناعه من السجود له لما أمر به وقد أيس من الرحمة وأيس من العود إلى الجنة وتحقق خلوده في النار فهو يجتهد على أن يخلد معه في النار بني آدم بتحسين الشرك فإن عجز قنع بما دونه من الفسوق والعصيان وقد حذركم مولاكم منه وقد أعذر من أنذر فخذوا حذركم: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] .
العجب ممن عرف ربه ثم عصاه وعرف الشيطان ثم أطاعه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50] .
رعى الله من نهوى وإن كان ما رعي … حفظنا له العهد القديم فضيعا
وصاحبت قوما كنت أنهاك عنهم … وحقك ما أبقيت للصلح موضعا
لما أهبط آدم إلى الأرض وعد العود إلى الجنة هو ومن آمن من ذريته واتبع الرسل: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35] فليبشر المؤمنون بالجنة هي اقطاعهم وقد وصل منشور الإقطاع مع جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] إنما خرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة فأما من تاب وآمن فالإقطاع مردود عليه المؤمنون في دار الدنيا في سفر جهاد يجاهدون فيه النفوس والهوى فإذا انقضى سفر الجهاد عادوا إلى وطنهم الأول الذي
كانوا فيه في صلب آدم تكفل الله للمجاهد في سبيله أن يرده إلى وطنه بما نال من أجر أو غنيمة.
وصلت إليكم معشر الأمة من أبيكم إبراهيم مع نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رأيت ليلة أسري بي إبراهيم فقال: يا محمد أقرىء أمتك السلام وأخبرهم: أن الجنة عذبة الماء طيبة التربة وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر” وخرج النسائي والترمذي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة” وخرج ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: من قال “سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس له بكل واحدة شجرة في الجنة” وخرجه الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا وخرجه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة مرفوعا: “من قال سبحان الله العظيم بني له برج في الجنة” وروي موقوفا.
وعن الحسن قال: الملائكة يعملون لبني آدم في الجنان يغرسون ويبنون فربما أمسكوا فيقال لهم: قد أمسكتم؟ فيقولون: حتى تأتينا النفقات وقال الحسن: فأتعبوهم بأبي أنتم وأمي على العمل وقال بعض السلف: بلغني أن دور الجنة تبنى بالذكر فإذا أمسك عن الذكر أمسكوا عن البناء فيقال لهم: فيقولون: حتى تأتينا نفقة.
أرض الجنة اليوم قيعان والأعمال الصالحة لها عمران بها تبنى القصور وتغرس أرض الجنان فإذا تكامل الغراس والبنيان انتقل إليه السكان رأى بعض الصالحين في منامه قائلا يقول له: قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك واسمها دار السرور فأبشر وقد أمرنا بتنجيدها وتزيينها والفراغ منها إلى سبعة أيام فلما كان بعد سبعة أيام مات فرؤي في المنام فقال: أدخلت دار السرور فلا تسأل عما فيها لم ير مثل الكريم إذا حل به المطيع رأى بعضهم كأنه أدخل الجنة وعرض عليه منازله وأزواجه فلما أراد أن يخرج تعلق به أزواجه وقالوا: بالله حسن عملك فكلما حسنت عملك ازددنا نحن حسنا.
العاملون اليوم يسلفون رؤوس أموال الأعمال فيما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين إلى أجل يوم المزيد في سوق الجنة فإذا حل الأجل دخلوا السوق فحملوا منه ما يشاؤن بغير نقد ثمن على ما قد سلف من تعجيل رأس مال السلف لكن بغير مكيال ولا ميزان فيا من عزم أن يسلف اليوم إلى ذلك الموسم عجل بتقبيض رأس المال فإن تأخير التقبيض يفسد العقد.
فلله ذاك السوق الذي هو موعد الـ … ـمزيد لوفد الحب لو كنت منهم
فما شئت منه خذ بلا ثمن له … فقد أسلف التجار فيه وأسلموا
في الحديث: “إن الجنة تقول: يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثر حريري واستبرقي وسندسي ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأباريقي وخمري وعسلي ولبني فأتني بأهلي وبما وعدتني” وفي الحديث أيضا: “من سأل الله الجنة شفعت له الجنة إلى ربها وقالت: اللهم أدخله الجنة” وفي الحديث أيضا: “إن الجنة تفتح في كل سحر ويقال لها ازدادي طيبا لأهلك فتزداد طيبا فذلك البرد الذي يجده الناس في السحر” قلوب العارفين تستنشق أحيانا نسيم الجنة قال أنس بن النضر يوم أحد: واها لريح الجنة والله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد ثم تقدم فقاتل حتى قتل:
تمر الصبا صبحا بساكن ذي الغضا … ويصدع قلبي أن يهب هبوبها
قريبة عهد بالحبيب وإنما … هوى كل نفس أين حل حبيبها
كم لله من لطف وحكمه في إهباط آدم إلى الأرض لولا نزوله لما ظهر جهاد المجاهدين واجتهاد العابدين المجتهدين ولا صعدت زفرات أنفاس التائبين ولا نزلت قطرات دموع المذنبين يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة: 186] إن كان حصل لك بالإخراج من الجنة كسر فأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أنين المذنبين أحب إلينا من زجل المسبحين، زجل المسبحين ربما يشوبه الإفتخار وأنين المذنبين يزينه الإنكسار لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم سبحان من إذا لطف بعبده في المحن قلبها منحا وإذا خذل عبدا لم ينفعه كثرة اجتهاده وعاد عليه وبالا لقن آدم حجته وألقى إليه ما تقبل به توبته: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] وطرد إبليس بعد طول خدمته فصار عمله هباء منثورا: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ*وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [صّ: 77, 78] إذا وضع عدله على عبد لم تبق له حسنة وإذا بسط فضله على عبد لم تبق له سيئة:
يعطي ويمنع من يشاء كما يشا … وهباته ليست تقارنها الرشا
لما ظهر فضل آدم على الخلائق بالعلم وكان العلم لا يكمل بدون العمل بمقتضاه والجنة ليست دار عمل ومجاهدة إنما دار نعيم ومشاهدة قيل له: يا آدم اهبط إلى رباط الجهاد وصابر جنود الهوى بالجد والاجتهاد واذرف دموع الأسف على البعاد فكأنك بالعيش الماضي وقد عاد على أكمل من ذلك أوجه المعتاد:
عودوا إلى الوصل عودوا … فالهجر صعب شديد
لو ذاق طعم الفراق رضوى … لكاد من وجده يميد
قد حملوني عذاب شوق … يعجز عن حمله الحديد
قلت وقلبي أسير وجد … متيم في الجفا عميد
أنتم لنا في الهوى موال … ونحن في أسركم عبيد