كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْأَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ]
[النَّوْعُ الْأَوَّلُ النَّظَرُ فِي السَّنَدِ]
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ الْخَبَرِ وَأَقْسَامِهِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْأَصْلُ الرَّابِعُ
فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ
وَهُوَ نَوْعَانِ؛ يَتَعَلَّقُ أَحَدُهُمَا بِالنَّظَرِ فِي السَّنَدِ، وَالْآخَرُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَتْنِ
النَّوْعُ الْأَوَّلُ – النَّظَرُ فِي السَّنَدِ
وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمَتْنِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ
الْبَابُ الْأَوَّلُ
فِي حَقِيقَةِ الْخَبَرِ وَأَقْسَامِهِ
أَمَّا حَقِيقَةُ الْخَبَرِ، فَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ اسْمَ الْخَبَرِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِشَارَاتِ الْحَالِيَّةِ وَالدَّلَائِلِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: ” عَيْنَاكَ تُخْبِرُنِي بِكَذَا؛ وَالْغُرَابُ يُخْبِرُ بِكَذَا “.
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ … تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ (1)
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى قَوْلٍ مَخْصُوصٍ لَكِنَّهُ مَجَازٌ فِي الْأَوَّلِ وَحَقِيقَةٌ فِي الثَّانِي بِدَلِيلِ تَبَادُرِهِ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْخَبَرِ، وَالْغَالِبُ إِنَّمَا هُوَ اشْتِهَارُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ.
ثُمَّ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الصِّيغَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: قَامَ زَيْدٌ، وَقَعَدَ
(1) هَذَا الْبَيْتُ لِأَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي مِنْ قَصِيدَةٍ يَمْدَحُ بِهَا كَافُورَ الْإِخْشِيدِيَّ مَطْلَعُهَا:
أُغَالِبُ الشَّوْقَ وَالشَّوْقُ أَغْلَبُ – وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا الْهَجْرِ وَالْوَصْلُ أَعْجَبُ
وَالْمَانَوِيَّةُ أَصْحَابُ مَانِي بْنِ فَاتِكٍ الثَّنَوِيِّ الْقَائِلِ بِقِدَمِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَأَنَّهُمَا أَصْلُ الْكَائِنَاتِ. انْظُرْ مَذْهَبَهُمْ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ لِلشَّهْرَسْتَانِيِّ.
عَمْرٌو.
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالصِّيغَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْكَلَامِيَّاتِ.
وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةً فِي الصِّيغَةِ؛ لِتَبَادُرِهَا إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْخَبَرِ (1) وَإِذَا عُرِفَ مُسَمَّى الْخَبَرِ حَقِيقَةً فَمَا حَدُّهُ؟
اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى تَحْدِيدِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ، وَأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا.
وَمُطْلَقُ الْخَبَرِ جُزْءٌ مِنْ مَعْنَى الْخَبَرِ الْخَاصِّ، وَالْعِلْمُ بِالْكُلِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْجُزْءِ، فَلَوْ كَانَ تَصَوُّرُ مَاهِيَّةِ مُطْلَقِ الْخَبَرِ مَوْقُوفًا عَلَى الِاكْتِسَابِ، لَكَانَ تَصَوُّرُ الْخَبَرِ الْخَاصِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْسُنُ فِيهِ الْخَبَرُ (2) عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْسُنُ فِيهِ الْأَمْرُ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ مُتَصَوَّرَةٌ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَدَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، وَهِيَ مُقَابَلَةٌ بِنَقِيضِهَا. وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ؛ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ فِي الْعِلْمِ بِهِ إِلَى نَظَرٍ وَدَلِيلٍ يُوصِلُ إِلَيْهِ، وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ التَّنْبِيهِ، لَا بِطْرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى نَوْعِ تَذْكِيرٍ وَتَنْبِيهٍ عَلَى مَا عُلِمَ فِي مَوَاضِعِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَأَمْكَنَ دَعْوَى الضَّرُورَةِ فِي كُلِّ عِلْمٍ نَظَرِيٍّ. وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ التَّنْبِيهِ دُونَ الدَّلَالَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ التَّنْبِيهِ غَيْرُ مُفِيدٍ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا مَعًا. فَغَايَتُهُ أَنَّهُ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ بِنِسْبَةٍ خَاصَّةٍ،
(1) الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَقَدْ يَنْصَرِفُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِقَرِينَةٍ.
(2) يُحْتَمَلُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ وَيُمَيِّزُهُ عَنْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ضَمَّنَ يَعْلَمُ مَعْنَى يُمَيِّزُ فَعَدَّاهُ بِعْنَ.
أَوْ بِسَلْبِ نِسْبَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِلْمًا بِحَقِيقَةِ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتْ تِلْكَ النِّسْبَةُ الْخَاصَّةُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ فَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ خَبَرًا سِوَى تِلْكَ النِّسْبَةِ الْخَاصَّةِ فَهُوَ (1) عَوْدٌ إِلَى التَّحْدِيدِ وَتَرْكٌ لِمَا قِيلَ.
الثَّانِي: إِنَّا؛ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْخَاصَّةِ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْمُطْلَقُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ كَذَلِكَ، قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُطْلَقَ جُزْءٌ مِنَ الْخَبَرِ الْخَاصِّ، لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُطْلَقَ أَعَمُّ مِنَ الْخَبَرِ الْخَاصِّ فَلَوْ كَانَ جُزْءًا مِنْ مَعْنَى الْخَبَرِ الْخَاصِّ، لَكَانَ الْأَعَمُّ مُنْحَصِرًا فِي الْأَخَصِّ وَهُوَ مُحَالٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَعَمُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَحْتَهُ، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاكِهَا فِيهِ سِوَى كَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ مَعْنَاهَا.
قُلْنَا: أَمَّا أَوَّلًا، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ (2) الْأَعَمِّ مُشْتَرَكًا فِيهِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْأَنْوَاعِ أَوِ الْأَشْخَاصِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْهُ، بَلْ بِمَعْنَى لِحَدِّ أَنَّ حَدَّ الطَّبِيعَةِ الَّتِي عَرَضَ لَهَا إِنْ كَانَتْ كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً مُطَابِقٌ طَبَائِعَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ تَحْتَهَا.
وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَامٍّ يَكُونُ جُزْءًا مِنْ مَعْنَى الْخَاصِّ، وَمُقَوِّمًا لَهُ بِجَوَازِ (3) أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْعَامَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَفْهُومِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ، كَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُمَا مِنْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَبَاطِلٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ إِنَّمَا هُوَ وَاقِعٌ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يَحْسُنُ فِيهِ بَيَانُ الْأَمْرِ وَمَا يَحْسُنُ فِيهِ الْخَبَرُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
نَعَمْ؛ غَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَا يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ وَالنِّسْبَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ، وَلَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ وَالْخَبَرِ سِوَى ذَلِكَ الْمَعْلُومِ الْخَاصِّ، فَهُوَ أَيْضًا عَوْدٌ إِلَى التَّحْدِيدِ.
كَيْفَ وَإِنَّ
(1) جَوَابُ قَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ وَرَدَ لِلِاعْتِرَاضِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ إِذَا الشَّرْطِيَّةِ لَا تَفْرِيعَ عَلَيْهَا.
(2) فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ، فِيهِ تَحْرِيفٌ، الصَّوَابُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْأَعَمِّ مُشْتَرَكًا.
(3) لَعَلَّهُ لِجَوَازِ.
مَا ذَكَرَهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَيْضًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ التَّحْدِيدِ كَاسْتِغْنَاءِ الْخَبَرِ.
وَهَذَا الْقَائِلُ بِعَيْنِهِ قَدْ عَرَفَ الْأَمْرَ بِالتَّحْدِيدِ، حَيْثُ قَالَ: الْأَمْرُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي مَفْهُومِ الْخَبَرِ اللَّفْظِيِّ. وَحَقَائِقُ أَنْوَاعِ الْأَلْفَاظِ وَانْقِسَامِهَا إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ، لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ.
وَلِهَذَا، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَوْ أَطْلَقُوا اسْمَ الْأَمْرِ عَلَى الْمَفْهُومِ مِنَ الْخَبَرِ الْآنَ، وَاسْمَ الْخَبَرِ عَلَى مَفْهُومِ الْأَمْرِ؛ لَمَا كَانَ مُمْتَنِعًا، وَمَا يَتَبَدَّلُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَاتِ فَالْعِلْمُ بِمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا.
وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْمَعَ الْبَاقُونَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِمَفْهُومِ الْخَبَرِ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْحَدِّ وَالنَّظَرِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ، فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ كَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَيْهِ إِشْكَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: مُحَمَّدٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقَانِ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَلَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ، وَإِلَّا كَانَ مُسَيْلِمَةُ صَادِقًا، وَلَا الْكَذِبُ، وَإِلَّا كَانَ مُحَمَّدٌ كَاذِبًا وَهُوَ خَبَرٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَذَبَ فِي جَمِيعِ أَخْبَارِهِ فَقَالَ: جَمِيعُ أَخْبَارِي كَذِبٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ هَذَا خَبَرٌ، وَلَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ.
وَإِلَّا كَانَتْ جَمِيعُ أَخْبَارِهِ كَذِبًا، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَخْبَارِهِ وَلَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ، وَإِلَّا كَانَتْ جَمِيعُ أَخْبَارِهِ مَعَ هَذَا الْخَبَرِ كَذِبًا، وَصَدَقَ فِي قَوْلِهِ (جَمِيعُ أَخْبَارِي كَذِبٌ) .
الثَّانِي: أَنَّ تَعْرِيفَ الْخَبَرِ بِمَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ إِلَى يُفْضِي إِلَى الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الصِّدْقَ هُوَ الْخَبَرُ الْمُوَافِقُ لِلْمُخْبَرِ، وَالْكَذِبَ بِضِدِّهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
الثَّالِثُ: إِنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ مُتَقَابِلَانِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِمَّا امْتِنَاعُ وُجُودِ الْخَبَرِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا وُجُودُ الْخَبَرِ مَعَ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ دُخُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِيهِ، فَيَكُونُ الْمَحْدُودُ مُتَحَقِّقًا دُونَ مَا قِيلَ بِكَوْنِهِ حَدًّا لَهُ وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى لَهُ خَبَرٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْكَذِبِ فِيهِ.
وَقَدْ أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ ” مُحَمَّدٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقَانِ ” بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُفِيدُ صِدْقَ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ صِدْقِ الْآخَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَحَدُهُمَا صَادِقٌ حَالَ صِدْقِ الْآخَرِ.
وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ كَاذِبًا، فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: هُمَا صَادِقَانِ وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَا قِيلَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَوْلُهُ: هُمَا صَادِقَانِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ أَحَدِهِمَا صَادِقًا، حَالَ صِدْقِ الْآخَرِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَالْأَعَمُّ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِالْأَخَصِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَذِبِ الْأَخَصِّ كَذِبُ الْأَعَمِّ.
وَأَجَابَ أَبُو هَاشِمٍ بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ جَارٍ مَجْرَى خَبَرَيْنِ أَحَدُهُمَا خَبَرٌ بِصِدْقِ الرَّسُولِ، وَالْآخَرُ خَبَرٌ بِصِدْقِ مُسَيْلِمَةَ.
وَالْخَبَرَانِ لَا يُوصَفَانِ بِالصِّدْقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَإِنَّمَا الَّذِي يُوصَفُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْخَبَرُ الْوَاحِدُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ أَيْضًا فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَفَادَ حُكْمًا وَاحِدًا لِشَخْصَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وَصْفِهِ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، بِدَلِيلِ الْكَذِبِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: كُلُّ مَوْجُودٍ حَادِثٌ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ حُكْمًا وَاحِدًا لِأَشْخَاصٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بِأَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا: ” مَا دَخَلَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ ” أَنَّ اللُّغَةَ لَا تُحَرِّمُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ: صَدَقْتَ أَوْ كَذَبْتَ. وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهُوَ غَيْرُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ.
وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّهُ كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ إِضَافَةَ الصِّدْقِ إِلَيْهِمَا مَعًا مَعَ عَدَمِ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِمَا مَعًا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَاذِبًا فَلَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ، وَقَدْ قِيلَ: الْخَبَرُ مَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ حَاصِلُ هَذَا وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ خَبَرٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى خَبَرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا صَادِقٌ وَهُوَ إِضَافَةُ الصِّدْقِ إِلَى مُحَمَّدٍ. وَالْآخَرُ كَاذِبٌ وَهُوَ إِضَافَتُهُ إِلَى مُسَيْلِمَةَ.
وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو الْخَبَرُ فِيهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ صِدْقٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ كَذِبٌ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ فِي السَّلْبِ أَوِ الْإِيجَابِ.
وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الثَّانِي، فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بِأَنَّ الْخَبَرَ مَعْلُومٌ لَنَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ نَقْصِدْ بِهِ تَعْرِيفَ الْخَبَرِ؛ بَلْ فَصْلَهُ وَتَمْيِيزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا عَرَّفَنَا الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِالْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ دَوْرًا، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَمْيِيزُ الْخَبَرِ عَنْ غَيْرِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالنَّظَرِ إِلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَتَمْيِيزُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِالْخَبَرِ يُوجِبُ تَوَقُّفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي تَمْيِيزِهِ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ عَيْنُ الدَّوْرِ بَلْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي حَدِّ الْخَبَرِ وَمُمَيِّزًا لَهُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ مُفْتَقِرٌ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى الْخَبَرِ، بَلِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالضَّرُورَةِ، لَكَانَ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الثَّالِثُ، فَقَدْ قِيلَ فِي جَوَابِهِ إِنَّ الْمَحْدُودَ إِنَّمَا هُوَ جِنْسُ الْخَبَرِ، وَهُوَ قَابِلٌ لِدُخُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِيهِ كَاجْتِمَاعِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي جِنْسِ اللَّوْنِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّ الْحَدَّ ـ وَإِنْ كَانَ لِجِنْسِ الْخَبَرِ ـ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْحَدُّ مَوْجُودًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْأَخْبَارِ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْهُ وُجُودُ الْخَبَرِ دُونَ حَدِّ الْخَبَرِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ آحَادَ الْأَخْبَارِ الشَّخْصِيَّةِ مِمَّا لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ (الْوَاوَ) وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّرْدِيدُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ تَجَوُّزًا.
وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الرَّابِعُ فَقَدْ قِيلَ فِي جَوَابِهِ مِثْلُ جَوَابِ الْإِشْكَالِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْخَبَرُ مَا دَخَلَهُ الصِّدْقُ أَوِ الْكَذِبُ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ الْإِشْكَالَانِ الْأَوَّلَانِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْحَدِّ الْأَوَّلِ دُونَ الْأَخِيرَيْنِ (1)
وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِمَا.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ آخَرُ خَاصٌّ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ مَعْرُوفٌ لِلْمَحْدُودِ، وَحَرْفُ (أَوْ) لِلتَّرْدِيدِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلتَّعْرِيفِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِهِ: إِنَّ الْحُكْمَ بِقَبُولِ الْخَبَرِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ جَازِمٍ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ فِي التَّحْدِيدِ.
وَإِنَّمَا التَّرَدُّدُ فِي اتِّصَافِهِ بِأَحَدِهِمَا عَيْنًا، وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحَدِّ.
وَقِيلَ مَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ. .
(1) أَيْ: لِتَعْبِيرِهِ بِـ ” أَوْ ” بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا تَعْرِيفُ الْخَبَرِ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ وَالتَّرْدِيدِ. وَقَدْ عُرِفَ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْخَبَرُ كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ إِضَافَةَ أَمْرٍ إِلَى أَمْرٍ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا.
وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ (بِنَفْسِهِ) عَنِ الْأَمْرِ، فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاجِبًا لَكِنْ لَا بِنَفْسِهِ، بَلْ بِوَاسِطَةِ مَا اسْتَدْعَاهُ الْأَمْرُ بِنَفْسِهِ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنَ الْحَكِيمِ، وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِالنِّسَبِ التَّقْيِيدِيَّةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، فَإِنَّهُ أَفَادَ بِنَفْسِهِ إِثْبَاتَ النُّطْقِ لِلْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ بِخَبَرٍ.
فَإِنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكَلَامٍ. وَنَحْنُ. فَقَدْ قَيَّدْنَا الْحَدَّ بِالْكَلَامِ. قُلْنَا: هَذَا مِنْهُ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ (1) حَدَّ الْكَلَامِ بِمَا انْتَظَمَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُمَيَّزَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ قَيْدٌ آخَرُ.
وَحَدُّ الْكَلَامِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مُتَحَقِّقٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَكَانَ عَلَى أَصْلِهِ كَلَامًا.
وَالْمُخْتَارُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: الْخَبَرُ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّفْظِ الدَّالِّ بِالْوَضْعِ عَلَى نِسْبَةِ مَعْلُومٍ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ سَلْبِهَا عَلَى وَجْهٍ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَمَامٍ مَعَ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى النِّسْبَةِ أَوْ سَلْبِهَا.
أَمَّا قَوْلُنَا (اللَّفْظِ) فَهُوَ كَالْجِنْسِ لِلْخَبَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَرَزَ بِهِ عَنِ الْخَبَرِ الْمَجَازِيِّ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا.
وَقَوْلُنَا: (الدَّالِّ) احْتِرَازٌ عَنِ اللَّفْظِ الْمُهْمَلِ.
وَقَوْلُنَا: (بِالْوَضْعِ) احْتِرَازٌ عَنِ اللَّفْظِ الدَّالِّ بِجِهَةِ الْمُلَازَمَةِ.
وَقَوْلُنَا: (عَلَى نِسْبَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى نِسْبَةٍ.
وَقَوْلُنَا: (مَعْلُومٍ إِلَى مَعْلُومٍ) حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ الْمَوْجُودُ وَالْمَعْدُومُ.
وَقَوْلُنَا: (سَلْبًا أَوْ إِيجَابًا) حَتَّى يَعُمَّ ” مَا ” مِثْلُ قَوْلِنَا: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، لَيْسَ فِي الدَّارِ.
وَقَوْلُنَا: (يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِتْمَامٍ) احْتِرَازٌ عَنِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى النِّسَبِ التَّقْيِيدِيَّةِ.
(1) ” فَإِنَّ ” صَوَابُهُ ” فَإِنَّهُ.
وَقَوْلُنَا (مَعَ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى النِّسْبَةِ أَوْ سَلْبِهَا) احْتِرَازٌ عَنْ صِيغَةِ الْخَبَرِ إِذَا وَرَدَتْ. وَلَا تَكُونُ خَبَرًا، كَالْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِ النَّائِمِ وَالسَّاهِي وَالْحَاكِي لَهَا، أَوْ لِقَصْدِ الْأَمْرِ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وَقَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} ، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} ، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَنَحْوِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الدَّلَالَةَ عَلَى النِّسْبَةِ وَلَا سَلْبَهَا.
[الْقِسْمَةُ الْأُولَى الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى صَادِقٍ وَكَاذِبٍ]
وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْخَبَرِ فَهُوَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَ قِسَمٍ:
الْقِسْمَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى صَادِقٍ وَكَاذِبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ بِهِ (1) أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الصَّادِقُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْكَاذِبُ.
وَقَالَ الْجَاحِظُ: الْخَبَرُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: صَادِقٌ، وَكَاذِبٌ، وَمَا لَيْسَ بِصَادِقٍ، وَلَا كَاذِبٍ. وَقَدِ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا النَّصُّ فَحِكَايَةُ الْقُرْآنِ عَنِ الْكُفَّارِ قَوْلَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} حَصَرُوا دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ فِي الْكَذِبِ وَالْجِنَّةِ، وَلَيْسَ إِخْبَارُهُ بِالنُّبُوَّةِ حَالَةَ جُنُونِهِ كَذِبًا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا فِي مُقَابَلَةِ الْكَذِبِ، وَلَا صِدْقًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا صِدْقَهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. فَإِخْبَارُهُ حَالَةَ جِنَّةٍ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ الصَّادِقُ هُوَ الْخَبَرَ الْمُطَابِقَ لِلْمُخْبَرِ.
فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ، عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا، وَكَانَ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَا يُوَصَفُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ. وَلَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا لِمُطَابَقَةِ خَبَرِهِ لِلْمُخْبَرِ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْكَذِبُ هُوَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْمُخْبَرِ لِوَجْهَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ الْكَذِبُ فِي كَلَامِ اللَّهِ (تَعَالَى) بِتَخْصِيصِ عُمُومِ خَبَرِهِ وَتَقْيِيدِ مُطْلَقِهِ لِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ، عَلَى اعْتِقَادِ كَوْنِهِ فِيهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا،
(1) بِهِ الصَّوَابُ إِبْدَالُهَا بِكَلِمَةِ عَنْهُ.
فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا؛ وَلَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْمُخْبَرِ. وَإِنَّمَا الصَّادِقُ مَا طَابَقَ الْمُخْبَرَ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ أَنَّهُ كَذَلِكَ. وَالْكَذِبُ مَا لَمْ يُطَابِقِ الْمُخْبَرَ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَفْرِضَ فِي الِاعْتِقَادِ وَاسِطَةً بَيْنَ كَوْنِهِ عِلْمًا أَوْ جَهْلًا، لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ عِلْمًا، وَلَا جَهْلًا مُرَكَّبًا، كَاعْتِقَادِ الْعَامِّيِّ الْمُقَلِّدِ وُجُودَ الْإِلَهِ تَعَالَى، جَازَ أَنْ يُفْرَضَ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ خَبَرٌ لَيْسَ بِصَادِقٍ وَلَا كَاذِبٍ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا حَصَرُوا أَمْرَهُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْجِنَّةِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الدَّلَالَةِ بِهِ عَلَى مَدْلُولِهِ شَرْطٌ فِي كَوْنِهِ خَبَرًا، وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ، فَصَارَ كَالنَّائِمِ وَالسَّاهِي، إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ خَبَرًا وَحَيْثُ لَمْ يَعْتَقِدُوا صِدْقَهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، أَوْ لَا يَكُونُ مَا أَتَى بِهِ خَبَرًا وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ الْخَبَرِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَلَيْسَ صَادِقًا فِيهِ وَلَا كَاذِبًا؛ فَلَا.
وَعَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِ زَيْدٍ فِي الدَّارِ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا وَهُوَ فِيهَا أَنَّ خَبَرُهُ لَا يَكُونُ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ عَلَى الصِّدْقِ.
وَكَذَلِكَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ، عَلَى اعْتِقَادِ كَوْنِهِ فِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا أَنَّهُ لَيْسَ كَاذِبًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ عَلَى كَذِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ لَيْسَ عَلَى نَفْسِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَا غَيْرُ، بَلْ عَلَى الصِّدْقِ مَعَ قَصْدِهِ وَالْكَذِبِ مَعَ قَصْدِهِ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّ الْأُمَّةَ حَاكِمَةٌ بِأَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي عُلِمَ مِنْهُ اعْتِقَادُ بُطْلَانِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَادِقٌ بِإِخْبَارِهِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ لَمَّا كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا لِذَلِكَ وَلَا قَاصِدًا لِلصِّدْقِ، وَحَاكِمَةٌ بِكَذِبِهِ فِي إِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَا أَخْبَرَ بِهِ لَمَّا كَانَ خَبَرُهُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْمُخْبَرِ.
وَأَمَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ خَبَرِ الْقُرْآنِ وَتَقْيِيدُ مُطْلَقِهِ، فَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ كَذِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَبَرُ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ، وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ إِلَى الْآخَرِ لَا يَكُونُ كَذِبًا، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوْ
الْمَجَازِيَّةِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ وَأَرَادَ بِهِ بَعْضَ مَدْلُولَاتِهِ دُونَ الْبَعْضِ. كَمَا لَوْ قَالَ: (رَأَيْتُ عَيْنًا) وَأَرَادَ بِهِ الْعَيْنَ الْجَارِيَةَ دُونَ الْبَاصِرَةِ، وَبِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ كَاذِبًا.
وَكَذَلِكَ مَنْ أَخْبَرَ بِلَفْظٍ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي شَيْءٍ وَمَجَازٌ فِي شَيْءٍ، وَأَرَادَ جِهَةَ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ كَاذِبًا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: (رَأَيْتُ أَسَدًا) وَأَرَادَ بِهِ الْمَحْمَلَ الْمَجَازِيَّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ.
وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ انْقِسَامِ الِاعْتِقَادِ إِلَى عِلْمٍ وَجَهْلٍ مُرَكَّبٍ، وَحَالَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ لَيْسَتْ عِلْمًا وَلَا جَهْلًا مُرَكَّبًا، انْقِسَامُ الْخَبَرِ إِلَى صِدْقٍ وَكَذِبٍ، وَمَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ، إِذْ هُوَ قِيَاسٌ تَمْثِيلِيٌّ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا، لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَيْضًا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَاسِطَةٌ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَالنِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ حَيْثُ إِنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ يُطْلِقُ اسْمَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَلَى مَا لَا يُطْلِقُهُ الْآخَرُ إِلَّا بِشَرْطٍ زَائِدٍ.
[الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَإِلَى مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ وَإِلَى مَا لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ]
الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنَّ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ، وَإِلَى مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ، وَإِلَى مَا لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ.
فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ فَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ، كَخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَمَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ لَا بِنَفْسِ الْخَبَرِ، بَلْ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا، كَخَبَرِ اللَّهِ وَخَبَرِ الرَّسُولِ فِيمَا يُخْبَرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوْ رَسُولُهُ أَوْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَخَبَرُ مَنْ وَافَقَ خَبَرُهُ خَبَرَ الصَّادِقِ أَوْ دَلِيلَ الْعَقْلِ وَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا ادُّعِيَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الصِّدْقِ، فَفِيهِ اخْتِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ.
وَأَمَّا مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ، فَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوِ النَّظَرِ، أَوِ الْحِسِّ أَوْ أَخْبَارِ التَّوَاتُرِ، أَوِ النَّصِّ الْقَاطِعِ، أَوِ الْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ، أَوْ مَا صَرَّحَ الْجَمْعُ الَّذِينَ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بِتَكْذِيبِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ ” أَنَا كَاذِبٌ ” فَخَبَرُهُ ذَلِكَ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ هَذَا الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَلَا مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَخْبَارِهِ، فَإِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْأَخْبَارِ السَّالِفَةِ. وَقَدْ كَانَ صَادِقًا فِيهَا فَخَبَرُهُ عَنْهَا بِأَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهَا يَكُونُ
كَذِبًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَخْبَارٍ قِيلَ إِنَّهَا مَعْلُومَةُ الْكَذِبِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا بَعْدَ هَذَا فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ.
وَأَمَّا مَا لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ، فَمِنْهُ مَا يُظَنُّ صِدْقُهُ كَكَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ وَالْعَادَاتِ مِمَّنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْعَدَالَةِ وَالصِّدْقِ. وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ كَذِبُهُ كَخَبَرِ مَنِ اشْتُهِرَ بِالْكَذِبِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْرُ مَظْنُونِ الصِّدْقِ وَلَا الْكَذِبِ، بَلْ مَشْكُوكٌ فِيهِ، كَخَبَرِ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ وَلَمْ يَشْتَهِرْ أَمْرُهُ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ.
فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ خَبَرٍ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا فَهُوَ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَادِقًا لَمَا أَخْلَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَصْبِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْمُتَحَدِّيَ بِالنُّبُوَّةِ، إِذَا لَمْ تَظْهَرْ عَلَى يَدِهِ مُعْجِزَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِكَذِبِهِ، قُلْنَا: جَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ الْخُلُوِّ مِنْ نَصْبِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَمَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا بَنَاهُ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الصَّلَاحِ أَوِ الْأَصْلَحِ وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَلَوْ كَانَ كَاذِبًا لَمَا أَخْلَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَصْبِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرُوهُ أَنْ يُقْطَعَ بِكَذِبِ كُلِّ شَاهِدٍ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى صِدْقِهِ، وَكُفْرِ كُلِّ مُسْلِمٍ وَفِسْقِهِ، إِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَدَالَتِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَأَمَّا الْمُتَحَدِّي بِالرِّسَالَةِ إِذَا لَمْ تَظْهَرِ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ إِنَّمَا قَطَعْنَا بِكَذِبِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْعَادَةِ لَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْعَقْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَالْعَادَةُ تَقْضِي بِكَذِبِ مَنْ يَدَّعِي مَا يُخَالِفُ الْعَادَةَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا كَذَلِكَ الصِّدْقُ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْعَادَةِ.
[الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ]
الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَجَبَ رَسْمُ الْبَابِ الثَّانِي فِي الْمُتَوَاتِرِ، وَالْبَابِ الثَّالِثِ فِي الْآحَادِ.