كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْأَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ]
[مُقَدِّمَةُ فِي تَعْرِيفِ الْإِجْمَاعِ]
فِي الْإِجْمَاعِ (1)
وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَفِي تَعْرِيفِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِاعْتِبَارَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ وَمِنْهُ يُقَالُ: أَجْمَعَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} أَيِ اعْزِمُوا، وَبِقُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» ” أَيْ يَعْزِمُ، وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَزْمِ الْوَاحِدِ.
الثَّانِي: الِاتِّفَاقُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا إِذَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ.
وَعَلَى هَذَا فَاتِّفَاقُ كُلِّ طَائِفَةٍ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ دِينِيًّا كَانَ أَوْ دُنْيَوِيًّا يُسَمَّى إِجْمَاعًا حَتَّى اتِّفَاقُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَقَدْ قَالَ النَّظَّامُ: هُوَ كُلُّ قَوْلٍ قَامَتْ حُجَّتُهُ حَتَّى قَوْلُ الْوَاحِدِ.
وَقَصَدَ بِذَلِكَ الْجَمْعَ بَيْنَ إِنْكَارِهِ كَوْنَ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ حُجَّةً، وَبَيْنَ مُوَافَقَتِهِ لِمَا اشْتُهِرَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ تَحْرِيمِ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالنِّزَاعُ مَعَهُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَالْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ آيِلٌ إِلَى اللَّفْظِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْإِجْمَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّفَاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ مَدْخُولٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ يُشْعِرُ بِعَدَمِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ جُمْلَةُ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ مِنْهُمْ إِنَّمَا يَعُمُّ بَعْضَ الْأُمَّةِ لَا كُلَّهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ وَلَا لِمَنِ اعْتَرَفَ بِوُجُودِ الْإِجْمَاعِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ صَدَقَ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ أَنَّهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ غَيْرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ أَنَّهُ لَوْ خَلَا عَصْرٌ مِنَ الْأَعْصَارِ عَنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ فِيهِ عَامِّيًّا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
_________
(1) انْظُرْ ص 176 – 192 – ج 19 وَص 10 – 11 – ج 20 مِنْ مَجْمُوعَةِ الْفَتَاوَى.
________________________________________
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَقْيِيدِهِ لِلْإِجْمَاعِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى قَضِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ أَوْ عُرْفِيَّةٍ حُجَّةً شَرْعِيَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْإِجْمَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّفَاقِ جُمْلَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى حُكْمِ وَاقِعَةٍ مِنَ الْوَقَائِعِ.
هَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: الْإِجْمَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّفَاقِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ إِلَى آخَرِ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ.
فَقَوْلُنَا: (اتِّفَاقُ) يَعُمُّ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ وَالسُّكُوتَ وَالتَّقْرِيرَ.
وَقَوْلُنَا: (جُمْلَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ) احْتِرَازٌ عَنِ اتِّفَاقِ بَعْضِهِمْ وَعَنِ اتِّفَاقِ الْعَامَّةِ.
وَقَوْلُنَا: (مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) احْتِرَازٌ عَنِ اتِّفَاقٍ أَهْلِ الْعَقْدِ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ.
وَقَوْلُنَا: (فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ) حَتَّى يَنْدَرِجَ فِيهِ إِجْمَاعُ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ، وَإِلَّا أَوْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُنَا: (عَلَى حُكْمِ وَاقِعَةٍ) لِيَعُمَّ الْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ وَالْأَحْكَامَ الْعَقْلِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ، وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْإِجْمَاعِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ.
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ هل يمكن تصوره]
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
اخْتَلَفُوا فِي تَصَوُّرِ اتِّفَاقِ (1) أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ بِالضَّرُورَةِ فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، أَوْ عَنْ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ.
لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ وَإِلَّا لَكَانَتِ الْعَادَةُ مُحِيلَةً لِعَدَمِ نَقْلِهِ وَتَوَاطُئِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى إِخْفَائِهِ، فَحَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ.
كَيْفَ وَأَنَّهُ لَوْ نُقِلَ لَكَانَ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَنْ إِجْمَاعِهِمْ وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي ; لِأَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَذْهَانِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ فِي الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ وَالْعِنَادِ، فَالْعَادَةُ أَيْضًا تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ كَمَا أَنَّهَا تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَكْلِ
_________
(1) (تَصَوُّرِ اتِّفَاقِ إِلَخْ) أَيْ: إِمْكَانُ إِجْمَاعِهِمْ لَا مُجَرَّدَ خُطُورِ اتِّفَاقِهِمْ فِي الذِّهْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَأَتَّى فِي الْمُسْتَحِيلِ لِذَاتِهِ.
________________________________________
طَعَامٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ عَدَمُ نَقْلِهِ أَنْ لَوْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ كَافِيًا عَنْهُ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَلَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ اتِّفَاقُ الْجَمْعِ الْكَبِيرِ عَلَى حُكْمِهِ بِدَلِيلِ اتِّفَاقِ أَهْلِ الشُّبَهِ عَلَى أَحْكَامِهَا مَعَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى مُنَاقَضَتِهَا، كَاتِّفَاقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى إِنْكَارِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتِّفَاقِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ وَالْمَجُوسِ عَلَى التَّثْنِيَةِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ كَثْرَةً لَا تُحْصَى، فَالِاتِّفَاقُ عَلَى الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ الْخَالِي عَنْ مُعَارَضَةِ الْقَاطِعِ لَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْتَنِعَ عَادَةً (1) وَخَرَجَ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ اتِّفَاقِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي الْعَادَةِ لِعَدَمِ الصَّارِفِ إِلَيْهِ، كَيْفَ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا وُجِدَ مِنَ اتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنِ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مَعَ خُرُوجِ عَدَدِهِمْ عَنِ الْحَصْرِ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ التى لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا الضَّرُورَةَ (2) وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ التَّصَوُّرِ وَزِيَادَةٌ.
_________
(1) وُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَالْإِجْمَاعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ لِمَنْ رَجَعَ لِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ.
(2) قَدْ يُقَالُ: إِنْ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ اخْتَلَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَآمَنَ بِهَا وَبِمَا يَتْبَعُهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَنْكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَاتِّبَاعًا لِدَاعِي الْهَوَى، وَأَغْرُوا بِذَلِكَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَا نَظَرَ لَهُمْ فَتَبِعُوهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ، وَانْدِفَاعًا وَرَاءَ الْعَصَبِيَّةِ لِقَوْمِهِمْ، وَتَوَارَثُوا ذَلِكَ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ إِلَى يَوْمِنَا، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عُلَمَائِهِمُ اتِّفَاقٌ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَكَشَفَ دَخَلَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُتَّبِعِيهِمْ إِلَّا التَّقْلِيدَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ إِجْمَاعًا مِنْ أُمَّةٍ، وَمَنْ نَظَرَ فِي التَّارِيخِ وَتَدَبَّرَ مَا نَزَلَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي حَسَدِهِمْ لِلرَّسُولِ، وَأَتْبَاعِهِ وَإِغْرَائِهِمْ قَوْمَهَمْ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِالْمُؤْمِنِينَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ مَا أَنْكَرُوا كَانَ عَنْ تَؤَاطُؤِ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ.
وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي اتِّفَاقِ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ عَنْ شُبْهَةٍ طَغَتْ عَلَى أَفْكَارِهِمْ، أَوْ عَنْ هَوًى وَسُوءِ طَوِيَّةٍ، وَقَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، فَهِيَ زَلَّةُ عَالِمٍ تَبِعَهُ فِيهَا مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ قُوَّةٌ عَلَى الْبَحْثِ وَلَا نَظَرٌ صَحِيحٌ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ.
________________________________________
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هل يمكن معرفة انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
الْمُتَّفِقُونَ عَلَى تَصَوُّرِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ اخْتَلَفُوا فِي إِمْكَانِ مَعْرِفَتِهِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ أَيْضًا وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ، وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنِ ادَّعَى وُجُودَ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ كَاذِبٌ (1) اعْتِمَادًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى اعْتِقَادِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى سَمَاعِ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ مَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَوْ مُشَاهَدَةِ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَذَلِكَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي الْبِلَادِ النَّائِيَةِ وَالْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ مُتَعَذِّرٌ عَادَةً.
وَبِتَقْدِيرِ الْمَعْرِفَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَعْرِفَةُ مُعْتَقَدِهِ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ وَهُوَ أَيْضًا مُتَعَذِّرٌ (2) .
وَبِتَقْدِيرِ الِاجْتِمَاعِ بِهِ وَسَمَاعِ قَوْلِهِ وَرُؤْيَةِ فِعْلِهِ أَوْ تَرَكِهِ قَدْ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْيَقِينَ بِأَنَّهُ مُعْتَقَدُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارُهُ وَمَا يُشَاهِدُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ (3) .
وَبِتَقْدِيرِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِمُعْتَقَدِهِ، فَلَعَلَّهُ يَرْجِعُ عَنْهُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَاقِينَ وَحُصُولِ الْعِلْمِ بِمُعْتَقَدِهِمْ (4) ، وَمَعَ الِاخْتِلَافِ فَلَا إِجْمَاعَ.
وَطَرِيقُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ: جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ بَاطِلٌ بِالْوَاقِعِ، وَدَلِيلُ الْوُقُوعِ مَا عَلِمْنَاهُ عِلْمًا لَا مِرَاءَ فِيهِ مِنْ أَنَّ مَذْهَبَ جَمِيعِ الشَّافِعِيَّةِ امْتِنَاعُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَبُطْلَانُ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، وَأَنَّ مَذْهَبَ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ نَقِيضُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ جَمِيعِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّشْكِيكَاتِ وَالْوُقُوعُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ دَلِيلُ الْجَوَازِ الْعَادِي وَزِيَادَةٌ.
_________
(1) قِيلَ: إِنَّهُ قَالَهَا عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ، وَزَجْرًا عَنِ الْجُرْأَةِ عَلَى دَعْوَى الْإِجْمَاعِ دُونَ تَحَرٍّ، وَتَتَبُّعٍ لِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَعْرِفَةٌ، أَوْ أَنَّهُ أَنْكَرَ إِجْمَاعَ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، أَوِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، أَوْ مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَحْمُودَةِ – انْظُرْ ص 315 – 316 مِنْ مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَّةَ، طَبْعَةُ الْمَدَنِيِّ.
(2) قَدْ يُعْرَفُ مُعْتَقَدُهُ مِنْ تَأْلِيفِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ تَلَامِيذِهِ فِي رَحَلَاتِهِمْ طَلَبًا لِلْعِلْمِ وَنَشْرِهِ، فَلَا يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ.
(3) الْأَصْلُ أَنْ نَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، فَيَجِبُ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ مُعْتَقَدِهِ، وَلَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُسِيءَ بِهِ الظَّنَّ.
(4) الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يَثْبُتَ الْنَّاقِلُ.
________________________________________
فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا عَلِمْنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ.
فَعَلِمْنَا أَنَّ مَذْهَبَ كُلِّ مَنْ يَتْبَعُهُ وَهُوَ مُقَلِّدٌ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا نَصٌّ عَنِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ يَكُونُ مُسْتَنَدَ إِجْمَاعِهِمْ، وَلَوْ عُرِفَ ذَلِكَ لَكَانَ هُوَ الْحُجَّةَ (1) .
قُلْنَا: هَذَا وَإِنِ اسْتَمَرَّ لَكُمْ هَاهُنَا فَلَا يَسْتَمِرُّ (2) فِيمَا نَقَلَهُ قَطْعًا مِنَ اعْتِقَادِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ مِنْ إِنْكَارِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا فِيهِ أَنَّهُ قَوْلُ مُوسَى وَلَا عِيسَى، وَلَا قَوْلُ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ ذَلِكَ لِاتِّبَاعِهِمْ لَهُ. (3)
فَمَا هُوَ الْجَوَابُ هَاهُنَا فَهُوَ الْجَوَابُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ (4) .
_________
(1) لَمْ يُوجَدْ إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِدَلِيلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَثِيرًا مَا قِيلَ فِي الِاحْتِجَاجِ دَلِيلُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَضَافُرِ الْأَدِلَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَكَفَى.
(2) اسْتَمَرَّ يَسْتَمِرُّ – اطَّرَدَ يَطَّرِدُ.
(3) لَمْ يَتَّبِعِ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى مُوسَى وَلَا عِيسَى فِيمَا أَنْكَرُوا مِنَ الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُمْ تَبِعُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ فِيمَا شَرَّعُوا لَهُمْ مِنْ قَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَقَلَّدُوهُمْ غُلُوًّا فِيهِمْ وَعَصَبِيَّةً لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ: ص 197.
(4) وَأَخِيرًا فَالْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالْإِطْلَاعِ عَلَيْهِ قَرِيبٌ لِقِلَّةِ الْعَدَدِ، وَتَقَارُبِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْعَدَمِ وَالسَّعْيِ الْحَثِيثِ فِي طَلَبِهِ مَعَ انْحِصَارِ الْخِلَافِ وَضِيقِ دَائِرَتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاطِّلَاعِ عَلَى إِجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي أَيِّ عَصْرٍ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ.