كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْأَصْلُ الثَّانِي فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ وَطُرُقِ مَعْرِفَتِهَا]
الْأَصْلُ الثَّانِي
فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ وَطُرُقِ مَعْرِفَتِهَا
أَوَّلُ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ أَنَّ مَا وُضِعَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا هَلْ هُوَ لِمُنَاسَبَةٍ طَبِيعِيَّةٍ بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ أَرْبَابُ عِلْمِ التَّكْسِيرِ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى ذَلِكَ ; مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ مُنَاسَبَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لَمَا كَانَ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْوَاضِعَ فِي ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ لَوْ وَضَعَ لَفْظَ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ وَالْعَدَمِ عَلَى الْوُجُودِ وَاسْمَ كُلِّ ضِدٍّ عَلَى مُقَابِلِهِ – لَمَا كَانَ مُمْتَنِعًا، كَيْفَ وَقَدْ وُضِعَ ذَلِكَ كَمَا فِي اسْمِ الْجَوْنِ وَالْقُرْءِ وَنَحْوِهِ، وَالِاسْمُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا بِطَبْعِهِ لِشَيْءٍ وَلِعَدَمِهِ (1) ، وَحَيْثُ خَصَّصَ الْوَاضِعُ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ بِبَعْضِ الْمَدْلُولَاتِ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا إِلَى الْإِرَادَةِ الْمُخَصِّصَةِ، كَانَ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوِ الْمَخْلُوقُ إِمَّا لِغَرَضٍ أَوْ لَا لِغَرَضٍ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَظَهَرَ أَنَّ مُسْتَنَدَ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِبَعْضِ الْمَعَانِي إِنَّمَا هُوَ الْوَضْعُ الِاخْتِيَارِيُّ،
_________
(1) لَعَلَّهُ وَلِضِدِّهِ.
(1/73)
________________________________________
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهِ:
فَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَوَضْعُهُ مُتَلَقًّى لَنَا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ الْإِلَهِيِّ، إِمَّا بِالْوَحْيِ، أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ وَيُسْمِعَهَا لِوَاحِدٍ أَوْ لِجَمَاعَةٍ وَيَخْلُقَ لَهُ أَوْ لَهُمُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّهَا قُصِدَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي؛ مُحْتَجِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتٍ:
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ – قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} دَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ – الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ – عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَاللُّغَاتُ دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ذَمَّهُمْ عَلَى تَسْمِيَةِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا تَوْقِيفٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} وَالْمُرَادُ بِهِ اللُّغَاتُ لَا نَفْسُ اخْتِلَافِ هَيْئَاتِ الْجَوَارِحِ مِنَ الْأَلْسِنَةِ ; لِأَنَّ اخْتِلَافَ اللُّغَاتِ أَبْلَغُ فِي مَقْصُودِ الْآيَةِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْحَمْلِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَتِ الْبَهْشَمِيَّةُ (1) وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ أَرْبَابِ اللُّغَاتِ وَاصْطِلَاحِهِمْ، وَأَنَّ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً انْبَعَثَتْ دَاعِيَتُهُ أَوْ دَوَاعِيهِمْ إِلَى وَضْعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا، ثُمَّ حَصَلَ تَعْرِيفُ الْبَاقِينَ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّكْرَارِ كَمَا يَفْعَلُ الْوَالِدَانِ بِالْوَلَدِ الرَّضِيعِ، وَكَمَا يُعَرِّفُ الْأَخْرَسُ مَا فِي ضَمِيرِهِ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّكْرَارِ مَرَّةً بَعْد أُخْرَى؛ مُحْتَجِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ اللُّغَةِ عَلَى الْبَعْثَةِ وَالتَّوْقِيفِ.
وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَائِينِيُّ إِلَى أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ إِلَى التَّوَاضُعِ بِالتَّوْقِيفِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ بِالِاصْطِلَاحِ فَالِاصْطِلَاحُ عَلَيْهِ
_________
(1) نِسْبَةً إِلَى أَبِي هَاشِمٍ الْجُبَّائِيّ عَلَى طَرِيقِ النَّحْتِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْجُبَّائِيّ.
(1/74)
________________________________________
مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ إِلَى الِاصْطِلَاحِ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ بِالِاصْطِلَاحِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّوْقِيفِ، وَجُوِّزَ حُصُولُ مَا عَدَا ذَلِكَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُمْكِنٌ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَأَمَّا وُقُوعُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَالظُّنُونُ مُتَعَارِضَةٌ يَمْتَنِعُ مَعَهَا الْمَصِيرُ إِلَى التَّعْيِينِ.
هَذَا مَا قِيلَ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقِينَ الْوُقُوعِ لِبَعْضِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ. فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ; إِذْ لَا يَقِينَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ.
وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ، وَهُوَ الْحَقُّ فَالْحَقُّ مَا صَارَ إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ لِمَا قِيلَ مِنَ النُّصُوصِ لِظُهُورِهَا فِي الْمَطْلُوبِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ ظُهُورَ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَطْلُوبِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} فَالْمُرَادُ بِالتَّعْلِيمِ إِنَّمَا هُوَ إِلْهَامُهُ وَبَعْثُ دَاعِيَتِهِ عَلَى الْوَضْعِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ مُعَلِّمًا (1) لِكَوْنِهِ الْهَادِيَ إِلَيْهِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَفْهَمَهُ ذَلِكَ بِالْخِطَابِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ دَاوُدَ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} مَعْنَاهُ أَلْهَمْنَاهُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أَيْ أَلْهَمْنَاهُ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِفْهَامُ بِالْخِطَابِ وَالتَّوْقِيفِ، وَلَكِنْ أَرَادَ بِهِ كُلَّ الْأَسْمَاءِ مُطْلَقًا، أَوِ الْأَسْمَاءَ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ آدَمَ بِهَا كَانَ تَوْقِيفِيًّا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا بِالتَّوْقِيفِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُصْطَلَحِ خَلْقٍ سَابِقٍ عَلَى آدَمَ، وَالْبَارِي تَعَالَى عَلَّمَهُ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
سَلَّمْنَا أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ لِآدَمَ بِالتَّوْقِيفِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أُنْسِيهَا، وَلَمْ
_________
(1) الْأُولَى سُمِّي إِلْهَامُهُ تَعْلِيمًا لِهِدَايَتِهِ إِلَيْهِ.
(1/75)
________________________________________
يُوقِفْ عَلَيْهَا مَنْ بَعْدَهُ، وَاصْطَلَحَ أَوْلَادُهُ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَاتِ. وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي هَذِهِ اللُّغَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ اللُّغَاتِ التَّوْقِيفُ لِمَا عُرِفَ فِي حَقِّ آدَمَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ لَا تَفْرِيطَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُعَرِّفًا لِلُغَاتِ مَنْ تَقَدَّمَ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وَعَنْ قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وَأَمَّا آيَةُ الذَّمِّ فَالذَّمُّ فِيهَا إِنَّمَا كَانَ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ أَسْمَاءَ الْأَصْنَامِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ كَوْنَهَا آلِهَةً.
وَأَمَّا آيَةُ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ، فَهِيَ غَيْرُ مَحْمُولَةٍ عَلَى نَفْسِ الْجَارِحَةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ.
وَلَيْسَ تَأْوِيلُهَا بِالْحَمْلِ عَلَى اللُّغَاتِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِهَا بِالْحَمْلِ عَلَى الْإِقْدَارِ عَلَى اللُّغَاتِ، كَيْفَ وَأَنَّ التَّوْقِيفَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ دَالَّةً عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ إِنْ كَانَ تَوْقِيفِيًّا كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الِاصْطِلَاحِ.
ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ اللُّغَاتِ عَلَى الْبَعْثَةِ.
وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ: الْمُرَادُ مِنْ تَعْلِيمِ آدَمَ إِلْهَامُهُ بِالْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ مَعَ نَفْسِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ إِطْلَاق لَفْظِ التَّعْلِيمِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنِ اخْتَرَعَ أَمْرًا وَاصْطَلَحَ عَلَيْهِ مَعَ نَفْسِهِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَا عَلَّمَهُ أَحَدٌ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ إِطْلَاقُ التَّعْلِيمِ بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ بِمَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مَعَ نَفْسِهِ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ نَفْيُهُ، وَحَيْثُ صَحَّ نَفْيُهُ دَلَّ
(1/76)
________________________________________
عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّأْوِيلِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّعْلِيمِ فِي حِقِّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ التَّأْوِيلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، إِلَّا أَنَّ الِاشْتِرَاكَ (1) فِي دَلِيلِ التَّأْوِيلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.
وَقَوْلُهُمْ: أَرَادَ بِهِ الْأَسْمَاءَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِهِ، إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلِ الْبَارِي تَعَالَى عَلَّمَهُ كُلَّ مَا يُمْكِنُ التَّخَاطُبُ بِهِ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ.
قَوْلُهُمْ: مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ مِنْ مُصْطَلَحِ مَنْ كَانَ قَبْلَ آدَمَ.
قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، فَمَنِ ادَّعَاهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَبِهِ يَبْطُلُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُنْسِيهَا ; إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ النِّسْيَانِ وَبَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ.
وَعَلَى هَذَا فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتِنَا} إِذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قِيلَ مِنَ التَّأْوِيلِ فِي حَقِّ آدَم، وَقَدْ عُرِفَ جَوَابُهُ.
قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ فِيمَا فِي الْكِتَابِ؛ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ قَطْعًا، فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مُفِيدًا.
قَوْلُهُمْ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُعَرَّفًا لِلُغَاتِ مَنْ تَقَدَّمَ، فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ، وَبِهِ يُخَرَّجُ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وَعَنْ قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
قَوْلُهُمْ فِي آيَةِ الذَّمِّ: إِنَّمَا ذَمَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَوْنَ الْأَصْنَامِ آلِهَةً، فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ إِضَافَةِ الذَّمِّ إِلَى التَّسْمِيَةِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. (2)
_________
(1) صَوَابُهُ: اشْتِرَاكًا.
(2) لَيْسَ لِلْأَصْنَامِ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ مَا يُوجِبُ عِبَادَتَهَا وَتَسْمِيَتَهَا آلِهَةً، فَكَانَ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ كَذِبًا وَزُورًا ; لِذَا ذَمَّهُمُ اللَّهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ بِقَوْلِهِ: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ. . .) إِلَخْ. وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهَا مُجَرَّدُ أَسْمَاءٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْعَقْلِ أَوِ النَّقْلِ سُلْطَانٌ يَصِفُهَا.
(1/77)
________________________________________
وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ دُونَ حَمْلِهِ عَلَى الْإِقْدَارِ عَلَى اللُّغَاتِ أَقَلُّ فِي الْإِضْمَارِ ; إِذْ هُوَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارِ اللُّغَاتِ لَا غَيْرُ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارِ الْقُدْرَةِ عَلَى اللُّغَاتِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُمْ فِي الْمَعْنَى أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّسَلْسُلِ، لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَارَاتِ، وَيَخْلُقَ لِمَنْ يَسْمَعُهَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ وَاضِعًا وَضَعَهَا لِتِلْكَ الْمَعَانِي كَمَا سَبَقَ.
ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي الْقَوْلِ بِالِاصْطِلَاحِ فَإِنَّ مَا يُدْعَى بِهِ إِلَى الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِالِاصْطِلَاحِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّوْقِيفِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْآيَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ طَرِيقُ التَّوْقِيفِ مُنْحَصِرًا فِي الرِّسَالَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ التَّوْقِيفِ مَعْلُومًا إِمَّا بِالْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِمَّا بِخَلْقِ اللُّغَاتِ وَخَلْقِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لِلسَّامِعِينَ بِأَنَّ وَاضِعًا وَضَعَهَا لِتِلْكَ الْمَعَانِي عَلَى مَا سَبَقَ.
وَأَمَّا طُرُقُ مَعْرِفَتِهَا لَنَا، فَاعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا مَعْلُومًا بِحَيْثُ لَا يُتَشَكَّكُ فِيهِ مَعَ التَّشْكِيكِ كَعِلْمِنَا بِتَسْمِيَةِ الْجَوْهَرِ جَوْهَرًا وَالْعَرَضِ عَرَضًا وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَسَامِي، فَنَعْلَمُ أَنَّ مَدْرَكَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ التَّوَاتُرُ الْقَاطِعُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَنَا وَلَا تَوَاتُرَ فِيهِ، فَطَرِيقُ تَحْصِيلِ الظَّنِّ بِهِ إِنَّمَا هُوَ أَخْبَارُ الْآحَادِ، وَلَعَلَّ الْأَكْثَرَ إِنَّمَا هُوَ الْأَوَّلُ.