كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْبَحْثُ الثَّالِثُ فِي الصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ]
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِكَلَامِ النَّفْسِ (1) هَلْ لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فِي اللُّغَةِ، أَمْ لَا.
فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَابَعَهُ إِلَى النَّفْيِ، وَذَهَبَ مَنْ عَدَاهُمْ إِلَى الْإِثْبَاتِ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، وَالَّذِي نَرَآهُ أَنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ خَطَأٌ.
فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ ” أَمَرْتُكَ وَأَنْتَ مَأْمُورٌ ” صِيغَةٌ خَاصَّةٌ بِالْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ مُنَازَعَةٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ صِيغَةَ ” افْعَلْ ” هَلْ هِيَ خَاصَّةٌ بِالْأَمْرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا مُتَرَدِّدَةً فِي اللُّغَةِ بَيْنِ مَحَامِلٍ كَثِيرَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِاسْتِبْعَادِ هَذَا الْخِلَافِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ ” أَمَرْتُكَ وَأَنْتَ مَأْمُورٌ ” لَا يَرْفَعُ هَذَا الْخِلَافَ، إِذِ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْإِنْشَاءِ، وَمَا مِثْلُ (2) هَذِهِ الصِّيَغِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا إِخَبَارَاتٌ عَنِ الْأَمْرِ لَا إِنْشَاآتٌ.
وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ صِحَّةَ اسْتِعْمَالِهَا لِلْإِنْشَاءِ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنِ اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الْخَبَرِ لِلْإِنْشَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: طَلَّقْتُ وَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ وَنَحْوِهِ.
(1) كَلَامُ اللَّهِ النَّفْسِيِّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى، لَيْسَتْ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَهِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِافْعَلْ مَثَلًا كَانَ أَمْرًا، وَبِلَا تَفْعَلْ كَانَ نَهْيًا إِلَخْ، قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 153 ج1
(2) وَمَا مِثْلُ – كَانَ فِيهِ تَحْرِيفًا وَلَعَلَّ الصَّوَابَ وَمَا كَانَ مِثْلُ إِلَخْ
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ (طَلَّقْتُكِ) فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَ إِخْبَارًا لَكَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْمَاضِي أَوِ الْحَالِ، لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ هَذِهِ الصِّيغَةِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ الطَّلَاقُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، امْتَنَعَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ ” إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ” لِأَنَّ تَعْلِيقَ وُجُودِ مَا وُجِدَ عَلَى وُجُودِ مَا لَمْ يُوجَدْ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، وَجَبَ أَنْ يُعَدَّ كَاذِبًا، وَأَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ الْإِحَالَةِ، فَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ، وَقَالَ لَهَا سَتَصِيرِينَ طَالِقًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مَعَ أَنَّهُ صَرِيحُ إِخْبَارٍ عَنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ أَوْلَى.
وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ إِخْبَارًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ إِنْشَاءً، إِذِ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى امْتِنَاعِ الْخُلُوِّ مِنْهُمَا، فَإِذَا بَطَلَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ.
[الْبَحْثُ الرَّابِعُ فِي مُقْتَضَى صِيغَةِ الْأَمْرِ]
[الْمَسْأَلَةُ الْأُوْلَى فِيمَاذَا صِيغَةُ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ]
الْبَحْثُ الرَّابِعُ، فِي مُقْتَضَى صِيغَةِ الْأَمْرِ وَفِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْأُوْلَى
فِيمَاذَا صِيغَةُ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِيهِ إِذَا وَرَدَتْ مُطْلَقَةً عُرْيَةً عَنِ الْقَرَائِنِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى إِطْلَاقِهَا بِإِزَاءِ خَمْسَةَ عَشَرَ اعْتِبَارًا (1) .
الْوُجُوبُ، كَقَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} .
وَالنَّدْبُ، كَقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ} .
وَالْإِرْشَادُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا} ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ النَّدْبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي طَلَبِ تَحْصِيلٍ، غَيْرَ أَنَّ النَّدْبَ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ، وَالْإِرْشَادَ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ.
وَالْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ: {فَاصْطَادُوا} .
وَالتَّأْدِيبُ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي النَّدْبِ كَقَوْلِهِ: ” كُلْ مِمَّا يَلِيكَ “
(1) أَوْصَلَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى 26 مَعْنًى وَأَوْصَلَهَا آخَرُونَ إِلَى بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ، انْظُرْ غَايَةَ الْوُصُولِ عَلَى لُبِّ الْأُصُولِ لِزَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيِّ
وَالِامْتِنَانُ، كَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} وَالْإِكْرَامُ، كَقَوْلِهِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} وَالتَّهْدِيدُ، كَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وَالْإِنْذَارُ، كَقَوْلِهِ: {تَمَتَّعُوا} وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّهْدِيدِ.
وَالتَّسْخِيرُ، كَقَوْلِهِ: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وَالتَّعْجِيزُ، كَقَوْلِهِ: {كُونُوا حِجَارَةً} وَالْإِهَانَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} وَالتَّسْوِيَةُ، كَقَوْلِهِ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} وَالدُّعَاءُ، كَقَوْلِهِ: {اغْفِرْ لِي} وَالتَّمَنِّي، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (
أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي
) (1) وَكَمَالُ الْقُدْرَةِ، كَقَوْلِهِ: {كُنْ فَيَكُونُ} .
وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مَجَازٌ فِيمَا سِوَى الطَّلَبِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَالْإِبَاحَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ كَاشْتِرَاكِ لَفْظِ الْقُرْءِ بَيْنَ الطَّلَبِ لِلْفِعْلِ، وَبَيْنَ التَّهْدِيدِ الْمُسْتَدْعِي لِتَرْكِ الْفِعْلِ، وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ الْمُخَيَّرَةِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ، وَمَجَازٌ فِيمَا سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.
وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا سَمِعْنَا أَنَّ أَحَدًا قَالَ لِغَيْرِهِ (افْعَلْ كَذَا) وَتَجَرَّدَ ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ، وَفَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إِلَى الْإِفْهَامِ مِنْهُ طَلَبُ الْفِعْلِ وَاقْتِضَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى أَمْرٍ خَارِجٍ دُونَ التَّهْدِيدِ الْمُسْتَدْعِي لِتَرْكِ الْفِعْلِ وَالْإِبَاحَةِ الْمُخَيَّرَةِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.
وَلَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا (2) أَوْ ظَاهِرًا فِي الْإِبَاحَةِ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ الطَّلَبُ هُوَ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرَائِنِ مُطْلَقًا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ صِيغَةِ (افْعَلْ) ظَاهِرَةً فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عُرْفٍ طَارِئٍ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، كَمَا فِي لَفْظِ الْغَائِطِ وَالدَّابَّةِ، وَإِنْ سَلِمَ دَلَالَةُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الظُّهُورِ فِي الطَّلَبِ.
(1) هَذَا صَدْرُ بَيْتٍ مِنْ مُعَلَّقَةِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْمَشْهُورَةِ، وَعَجُزُهُ: وَمَا الْإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
(2) أَيْ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ وَالتَّهْدِيدِ
غَيْرَ أَنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِهِ فِي الْإِبَاحَةِ، لِكَوْنِهَا أَقَلَّ الدَّرَجَاتِ فَكَانَتْ مُسْتَيْقَنَةً.
قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعُرْفِ الطَّارِئِ وَبَقَاءُ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ بِحَالِهِ.
وَجَوَابُ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مُتَيَقَّنَةٌ، إِذْ هِيَ مُقَابِلَةٌ لِلطَّلَبِ وَالتَّهْدِيدِ، لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُسْتَدْعِيَةٍ لِلْفِعْلِ وَلَا لِلتَّرْكِ، وَالطَّلَبُ مُسْتَدْعٍ لِلْفِعْلِ، وَالتَّهْدِيدُ مُسْتَدْعٍ لِتَرْكِ الْفِعْلِ، فَلَا تَيَقُّنَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا (1) .
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ ظَاهِرَةٌ فِي الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ فَالْفِعْلُ الْمَطْلُوبُ يَكُونَ فِعْلُهُ رَاجِحًا عَلَى تَرْكِهِ]