تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الِاسْمِ

الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الِاسْمِ

  • بواسطة

 

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)

 


[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الِاسْمِ]

[الْقِسْمَةُ الْأُولَى أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ لَا يَصِحُّ]

 

الْفَصْلُ الرَّابِعُ

فِي الِاسْمِ

وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الزَّمَانُ الْخَارِجُ عَنْ مَعْنَاهُ لِبِنْيَتِهِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَمُسَمَّاهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَمَفْهُومُهُ مُنْقَسِمٌ عَلَى وُجُوهٍ:

الْقِسْمَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ كُلِّيٌّ، وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ فِيهِ الشَّرِكَةُ بِالْفِعْلِ مَا بَيْنَ أَشْخَاصٍ مُتَنَاهِيَةٍ كَاسْمِ الْكَوْكَبِ، أَوْ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ، أَوْ لَمْ تَقَعْ إِمَّا لِمَانِعٍ مِنْ خَارِجٍ كَاسْمِ الْعَالَمِ (1) وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ كَاسْمِ عَنْقَاءِ مُغْرِبٍ أَوْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ.

_________

(1) بِفَتْحِ اللَّامِ

________________________________________

وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً أَوْ لَا يَكُونُ صِفَةً، وَالصِّفَةُ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَمَا لَيْسَ بِصِفَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَإِمَّا مَعْنًى كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ. وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا اخْتِلَافَ فِي مَدْلُولِهِ بِشِدَّةٍ وَلَا ضَعْفٍ وَلَا تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ، فَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَإِلَّا فَمُشَكِّكٌ كَلَفْظِ الْوُجُودِ وَالْأَبْيَضِ.

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاتِيًّا لِلْمُشْتَرِكَاتِ فِيهِ أَوْ عَرَضِيًّا.

فَإِنْ كَانَ ذَاتِيًّا، فَالْمُشْتَرِكَاتُ فِيهِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِفَةً بِالذَّوَاتِ أَوْ بِالْعَرَضِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا فِي جَوَابٍ (مَا هِيَ) فَهُوَ الْجِنْسُ أَوْ لَا يُقَالُ كَذَلِكَ، فَهُوَ ذَاتِيٌّ مُشْتَرَكٌ إِمَّا جِنْسُ جِنْسٍ، أَوْ فَصْلُ فَصْلٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِالْعَرَضِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا فِي جَوَابِ (مَا) أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ النَّوْعُ وَالثَّانِي هُوَ فَصْلُ النَّوْعِ.

وَإِنْ كَانَ عَرَضِيًّا فَإِنْ كَانَتِ الْمُشْتَرِكَاتُ مُخْتَلِفَةً بِالذَّوَاتِ فَهُوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ، وَإِلَّا فَهُوَ الْخَاصَّةُ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَفْهُومُهُ غَيْرَ صَالِحٍ لِاشْتِرَاكِ كَثِيرِينَ فِيهِ فَهُوَ الْجُزْئِيُّ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ تَأْلِيفٌ أَوْ فِيهِ.

وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَجَلًا، أَوْ هُوَ مُرْتَجِلٌ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرْتَجَلًا فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مَنْقُولًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، أَوْ هُوَ مَنْقُولٌ، وَالْمَنْقُولُ إِمَّا عَنِ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ صَوْتٍ.

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا عَنِ اسْمِ عَيْنٍ كَأَسَدٍ وَعُقَابٍ، أَوِ اسْمِ مَعْنًى كَفَضْلٍ، أَوِ اسْمِ صِفَةٍ كَحَاتِمٍ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَإِمَّا عَنْ مَاضٍ كَشَمِرٍ، أَوْ مُضَارِعٍ كَتَغْلِبَ، أَوْ فِعْلِ أَمْرٍ كَاصْمُتْ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ كَبَبَّةَ. (1)

_________

(1) بَبَّةُ عَلَى وَزْنِ بَتَّةُ حِكَايَةُ صَوْتِ صَبِيٍّ، يُرْوَى عَنِ امْرَأَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ وَهِيَ تُرَقِّصُ وَلَدَهَا: لَأُنْكِحَنَّ بَبَّةَ، جَارِيَةً خِدَبَّةً، مُكَرَّمَةً مُحَبَّةً، تُحِبُّ أَهْلَ الْكَعْبَةِ. انْظُرِ الْقَامُوسَ حَرْفَ الْبَاءِ.

________________________________________

وَإِنْ كَانَ مُرْتَجَلًا وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مُنَاسَبَةٌ كَحَمْدَانَ.

وَإِنْ كَانَ مُؤَلَّفًا فَإِمَّا مِنَ اسْمَيْنِ مُضَافَيْنِ كَعَبْدِ اللَّهِ، أَوْ غَيْرِ مُضَافَيْنِ وَأَحَدُهُمَا عَامِلٌ فِي الْآخَرِ أَوْ غَيْرُ عَامِلٍ. وَالْأَوَّلُ كَتَسْمِيَةِ بَعْضِ النَّاسِ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَالثَّانِي كَبَعْلَبَكَّ وَحَضْرَمَوْتَ، وَإِمَّا مِنْ فِعْلَيْنِ كَقَامَ قَعَدَ، وَإِمَّا مِنْ حَرْفَيْنِ كَتَسْمِيَتِهِ إِنَّمَا، وَإِمَّا مِنَ اسْمٍ وَفِعْلٍ نَحْوَ تَأَبَّطَ شَرًّا، وَإِمَّا مَنْ حَرْفٍ وَاسْمٍ كَتَسْمِيَتِهِ بِزَيْدٍ، وَإِمَّا مَنْ فِعْلٍ وَحَرَفٍ كَتَسْمِيَتِهِ قَامَ عَلِيٌّ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاسْمُ وَاحِدًا وَالْمُسَمَّى مُخْتَلِفًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ، أَوْ هُوَ مُسْتَعَارٌ فِي بَعْضِهَا.

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمُسَمَّيَاتُ مُتَبَايِنَةً كَالْجَوْنِ (1) لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، أَوْ غَيْرَ مُتَبَايِنَةٍ، كَمَا إِذَا أَطْلَقْنَا اسْمَ الْأَسْوَدِ عَلَى شَخْصٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِطَرِيقِ الْعَلَمِيَّةِ، وَأَطْلَقْنَاهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ مِنَ السَّوَادِ الْقَائِمِ بِهِ، فَإِنَّ مَدْلُولَهُ عِنْدَ كَوْنِهِ عَلَمًا إِنَّمَا هُوَ ذَاتُ الشَّخْصِ، وَمَدْلُولُهُ عِنْدَ كَوْنِهِ مُشْتَقًّا الذَّاتُ مَعَ الصِّفَةِ وَهِيَ السَّوَادُ، فَالذَّاتُ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الْعِلْمِ جُزْءٌ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ، وَمَدْلُولُ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ وَصْفٌ لِمَدْلُولِ الْعِلْمِ.

وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَجَازِيُّ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاسْمُ مُتَعَدِّدًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مُتَّحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا فَتِلْكَ هِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَرَادِفَةُ كَالْبُهْتُرِ وَالْبُحْتُرِ لِلْقَصِيرِ (2) ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مُتَعَدِّدًا فَتِلْكَ هِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَبَايِنَةُ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ.

مَسَائِلُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ ثَلَاثٌ:

_________

(1) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَجَمْعُهُ جُونٍ بِضَمِّ الْجِيمِ

(2) بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَسُكُونِ الثَّانِي فِي الْمِثَالَيْنِ.

________________________________________

 

[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي اللُّغَةِ]

 

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ (1) ، هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي اللُّغَةِ، فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ، وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ وَوُقُوعُهُ.

أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يَضَعَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَفْظًا وَاحِدًا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَيُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ، أَوْ أَنْ يَتَّفِقَ وَضْعُ إِحْدَى الْقَبِيلَتَيْنِ لِلِاسْمِ عَلَى مَعْنَى حَقِيقَةٍ، وَوَضْعُ الْأُخْرَى لَهُ بِإِزَاءِ مَعْنًى آخَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا وَضَعَتْهُ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَشْتَهِرُ الْوَضْعَانِ وَيَخْفَى سَبَبُهُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَلَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ لَمَا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ عَقَلًا، كَيْفَ وَإِنَّ وَضْعَ اللَّفْظِ تَابِعٌ لِغَرَضِ الْوَاضِعِ، وَالْوَاضِعُ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مُفَصَّلًا فَقَدْ يَقْصِدُ تَعْرِيفَهُ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ؛ إِمَّا لِأَنَّهُ عَلِمَهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمُهُ مُفَصَّلًا، أَوْ لِمَحْذُورٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْصِيلِ دُونَ الْإِجْمَالِ، فَلَا يَبْعُدُ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ مِنْهُمْ وَضْعُ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.

وَأَمَّا بَيَانُ الْوُقُوعِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْأَلْفَاظُ الْمُشْتَرَكَةُ وَاقِعَةً فِي اللُّغَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَالْأَسْمَاءَ مُتَنَاهِيَةٌ ضَرُورَةَ تَرَكُّبِهَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ ; لَخَلَتْ أَكْثَرُ الْمُسَمَّيَاتِ عَنِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مَعَ دَعْوَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَغَيْرُ سَدِيدٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُتَنَاهِيَةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ مِنْ تَضَاعِيفِ التَّرْكِيبَاتِ مُتَنَاهِيَةً وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.

وَإِنْ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ مُتَنَاهِيَةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَضَادَّةَ وَالْمُخْتَلِفَةَ – وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا – غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.

_________

(1) يَنْصَرِفُ الْمُشْتَرَكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَى الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ، وَهُوَ مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَتَعَدَّدَ وَضْعُهُ وَمَعْنَاهُ، وَإِثْبَاتُ جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ هُنَا تَمْهِيدًا لِلْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامٍ فِي الْمَحْمَلِ: إِنْ قُلْنَا بِحَمْلِهِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ، وَفِي الْعَامِّ إِنْ قُلْنَا بِحَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ

________________________________________

وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ مَقْصُودًا بِالْوَضْعِ وَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَضْعُ.

وَلِهَذَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي لَمْ تَضَعِ الْعَرَبُ بِإِزَائِهَا أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَيْهَا لَا بِطْرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَلَا التَّفْصِيلِ كَأَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ وَكَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: ” أَطْلَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ اسْمَ الْقُرْءِ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَهُمَا ضِدَّانِ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ فِي اللُّغَةِ “. (1) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ، بَلْ غَايَةُ الْمَنْقُولِ اتِّحَادُ الِاسْمِ وَتَعَدُّدُ الْمُسَمَّى، وَلَعَلَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى وَاحِدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، لَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ حَقِيقَتِهِمَا، أَوْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْآخَرِ، وَإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَهَذَا (2) هُوَ الْأَوْلَى.

إِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، فَلِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ.

وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ التَّجَوُّزَ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ كَمَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.

وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: اتَّفَقَ إِجْمَاعُ الْكُلِّ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَوْجُودِ عَلَى الْقَدِيمِ (3) وَالْحَادِثِ حَقِيقَةً، وَلَوْ كَانَ مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا لَصَحَّ نَفْيُهُ إِذْ هُوَ أَمَارَةُ الْمَجَازِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْجُودِ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، أَوْ عَلَى صِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى ذَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَاتَ الرَّبِّ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ بِذَاتِهَا لِمَا سِوَاهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ (4) ، وَإِلَّا لَوَجَبَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا شَارَكَهَا فِي مَعْنَاهَا فِي الْوُجُوبِ (5) ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي مَفْهُومِ

_________

(1) دَلِيلٌ ثَانٍ لِوُقُوعِ الْمُشْتَرَكِ.

(2) اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ لِكُلٍّ مِنَ الْاِعْتَبَارَيْنِ.

(3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ ص (12) .

(4) الْمُخَالَفَةُ وَعَدَمُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ فَقَطْ لَا فِي الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ ; إِذْ لِكُلٍّ مِنَ الْخَوَاصِّ مَا يَلِيقُ بِهِ وَيُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ.

(5) لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَا اشْتِرَاكَ فِي الْخَارِجِ.

________________________________________

الذَّاتِ (1) وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ اسْمِ الْوُجُودِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنَ اسْمِ الْوُجُودِ فِي الْحَوَادِثِ وَإِمَّا خِلَافَهُ، وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى الْوُجُودِ فِي الْمُمْكِنِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ وُجُودَ الْبَارِي تَعَالَى وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الرَّبِّ مُمْكِنًا ضَرُورَةَ إِمْكَانِ وُجُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ إِنَّمَا هُوَ التَّفَاهُمُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ مَعَ الِاشْتِرَاكِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فَهْمَ الْمَدْلُولِ مِنْهُ ضَرُورَةً تُسَاوِي النِّسْبَةِ (2) غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ اللَّفْظِ وَالْقَرَائِنِ فَقَدْ تَظْهَرُ وَقَدْ تَخْفَى، وَبِتَقْدِيرِ خَفَائِهَا يَخْتَلُّ الْمَقْصُودُ مِنَ الْوَضْعِ وَهُوَ الْفَهْمُ.

قُلْنَا: وَإِنِ اخْتَلَّ فَهْمُ التَّفْصِيلِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فَلَا يَخْتَلُّ مَعَهُ الْفَهْمُ فِي جِهَةِ الْجُمْلَةِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَيْسَ فَهْمُ التَّفْصِيلِ لُغَةً مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ بِدَلِيلِ وَضْعِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ تَفَاصِيلَ مَا تَحْتَهَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ إِنَّمَا هِيَ

_________

(1) الِاشْتِرَاكُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ فَلَا يَلْزَمُ الْمُحَالُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الدَّلِيلِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ لِاسْمِ الْوُجُودِ (وَهُوَ مُطْلَقُ الْوُجُودِ) تَسْتَلْزِمُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْخَارِجِ، وَالْمُشَابَهَةَ الَّتِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وَلَيْسَ كَذَلِكَ. إِذِ الْكُلِّيُّ لَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا فِي الذِّهْنِ، وَلَا اشْتِرَاكَ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ حَتَّى تَلْزَمَ الْمُشَابَهَةُ فِيهِ، فَلِلَّهِ وُجُودٌ يَخُصُّهُ فَلَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ، وَلَا وُجُودَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا تَطْرَأُ عَلَيْهِ آفَاتٌ، وَلَا يَعْتَرِيهِ فَنَاءٌ إِلَخْ. وَلِلْمَخْلُوقِ وُجُودٌ يَخُصُّهُ فَلَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ غَيْرِهِ وَحَاجَتُهُ مُسْتَمِرَّةٌ وَيَنْتَهِي إِلَى فَنَاءٍ إِلَخْ. وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِاللَّوْنِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ كُلِّيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا فِي الذِّهْنِ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ أَفْرَادُهُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ كَسَوَادِ الْفَحْمِ، وَبَيَاضِ الْقُطْنِ إِلَخْ. وَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ اشْتِرَاكِهَا فِي مَعْنَاهُ الْكُلِّيِّ تَشَابُهُهَا فِي الْخَارِجِ، وَلَا مُدَاخَلَةُ كُلٍّ الْآخَرَ فِي خَوَاصِّهِ بَلْ مَا زَالَتْ مُتَضَادَّةً مُتَمَيِّزًا كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِخَوَاصِّهِ. وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ فِي الْأَلْوَانِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ ذَلِكَ بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ.

وَإِنْ أَرَدْتَ الْمَزِيدَ فَارْجِعْ إِلَى التَّدْمُرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.

(2) تَعْلِيلٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا

________________________________________

فَهْمُ التَّفْصِيلِ، فَإِنَّمَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ إِنْ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً لِجَمِيعِ مَدْلُولَاتِهَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ. (1) وَإِذَا عُرِفَ وُقُوعُ الِاشْتِرَاكِ لُغَةً، فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِهِ، وَهُمَا ضِدَّانِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ.

وَمَا يَقُولُهُ الْمَانِعُ لِذَلِكَ ” مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِفْهَامَ، فَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ الْبَيَانُ فَهُوَ تَطْوِيلٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ فَاتَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِفْهَامَ فَهُوَ عَبَثٌ، وَهُوَ قَبِيحٌ، فَوَجَبَ صِيَانَةُ كَلَامِ اللَّهِ عَنْهُ ” فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الذَّاتِيِّ الْعَقْلِيِّ، وَسَيَأْتِي إِبْطَالُهُ. (2) كَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُمُومِ، وَالْعَامُّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ عُمُومِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْخِطَابِ بِهِ فَائِدَةٌ لِنَيْلِ الثَّوَابِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِامْتِثَالِهِ بِتَقْدِيرِ بَيَانِهِ بِظُهُورِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْبَعْضِ، وَإِبْطَالُ جَمِيعِ الْأَقْسَامِ سِوَى الْوَاحِدِ مِنْهَا.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ظُنَّ فِي أَشْيَاءَ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ وَهِيَ مُتَوَاطِئَةٌ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ

قَدْ ظُنَّ فِي أَشْيَاءَ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ (3) وَهِيَ مُتَوَاطِئَةٌ (4) ، وَفِي أَشْيَاءَ أَنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِنَا ” مَبْدَأٌ ” لِلنُّقْطَةِ، وَالْآنَ فَإِنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الْمَوْضُوعُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الزَّمَانُ وَالْخَطُّ ظُنَّ الِاشْتِرَاكُ فِي اسْمِ الْمَبْدَأِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَبْدَأِ عَلَيْهِمَا إِنَّمَا كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوَّلٌ لِشَيْءٍ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ أَوَّلٌ لِلزَّمَانِ أَوِ الْخَطِّ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَوَاطِئٌ وَلَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ.

_________

(1) فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ.

(2) فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَبَادِئِ الْفِقْهِيَّةِ.

(3) أَيْ مُشْتَرَكَةٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا.

(4) أَيْ مُشْتَرَكَةٌ اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا.

________________________________________

وَأَمَّا الثَّانِي فَكَقَوْلِنَا ” خَمْرِيٌّ ” لِلَّوْنِ الشَّبِيهِ بِلَوْنِ الْخَمْرِ، وَلِلْعِنَبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى الْخَمْرِ، وَلِلدَّوَاءِ إِذَا كَانَ يُسْكِرُ كَالْخَمْرِ أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ جُزْءٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا اتَّحَدَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْخَمْرُ ظُنَّ أَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اسْمَ الْخَمْرِيِّ وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ النِّسَبِ الْمُخْتَلِفَةِ إِلَيْهِ وَمَعَ الِاخْتِلَافِ فَلَا تَوَاطُؤَ. نَعَمْ لَوْ أَطْلَقَ اسْمَ الْخَمْرِيِّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ مِنْ عُمُومِ النِّسْبَةِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِيَّاتِهَا كَانَ مُتَوَاطِئًا.

 

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ]

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ

ذَهَبَ شُذُوذٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ تَعَدُّدُ الْمُسَمَّيَاتِ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ اسْمٍ بِمُسَمًّى غَيْرِ مُسَمَّى الْآخَرِ، وَبَيَانُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى تَعْطِيلُ فَائِدَةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ لِحُصُولِهَا بِاللَّفْظِ الْآخَرِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِاتِّحَادِ الْمُسَمَّى فَهُوَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسَمَّى الْمُتَعَدِّدِ بِتَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ، وَغَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ الْأَسْمَاءِ بِإِزَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ أَهْلِ الْوَضْعِ مِنْ وَضْعِهِمْ.

فَاسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِيمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ خِلَافُ الْأَصْلِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَؤُونَةَ فِي حِفْظِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ أَخَفُّ مِنْ حِفْظِ الِاسْمَيْنِ، وَالْأَصْلُ إِنَّمَا هُوَ الْتِزَامُ أَعْظَمِ (1) الْمُشْتَقَّيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْفَائِدَتَيْنِ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا اتَّحَدَ الِاسْمُ دَعَتْ حَاجَةُ الْكُلِّ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مَعَ خِفَّةِ الْمَؤُونَةِ فِي حِفْظِهِ فَعَمَّتْ فَائِدَةُ التَّخَاطُبِ بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ إِذَا تَعَدَّدَتِ الْأَسْمَاءُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى أَمْرَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَحْفَظَ مَجْمُوعَ الْأَسْمَاءِ، أَوِ الْبَعْضَ مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ شَاقٌّ جِدًّا وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ، وَالثَّانِي فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْلَالُ بِفَائِدَةِ التَّخَاطُبِ لِجَوَازِ اخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَعْرِفَةِ اسْمٍ لَا يَعْرِفُهُ الْآخَرُ.

_________

(1) الصَّوَابُ أَخَفَّ.

________________________________________

وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يَضَعَ وَاحِدٌ لَفْظَيْنِ عَلَى مُسَمَّى وَاحِدٍ ثُمَّ يَتَّفِقُ الْكُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تَضَعَ إِحْدَى الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدَ الِاسْمَيْنِ عَلَى مُسَمَّى وَتَضَعُ الْأُخْرَى لَهُ اسْمًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورِ كُلِّ قَبِيلَةٍ بِوَضْعِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَشِيعُ الْوَضْعَانِ بَعْدُ بِذَلِكَ، كَيْفَ وَذَلِكَ جَائِزٌ بَلْ وَاقِعٌ بِالنَّظَرِ إِلَى لُغَتَيْنِ ضَرُورَةً فَكَانَ جَائِزًا بِالنَّظَرِ إِلَى قَبِيلَتَيْنِ.

قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ” لَا فَائِدَةَ فِي أَحَدِ الِاسْمَيْنِ ” لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّوْسِعَةُ فِي اللُّغَةِ وَتَكْثِيرُ الطُّرُقِ الْمُفِيدَةِ لِلْمَطْلُوبِ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَذُّرِ حُصُولِ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ تَعَذُّرُ الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اتَّحَدَ الطَّرِيقُ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَوَائِدُ أُخَرَ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ بِمُسَاعَدَةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ فِي الْحَرْفِ الرَّوِيِّ وَوَزْنِ الْبَيْتِ وَالْجِنَاسِ وَالْمُطَابَقَةِ وَالْخِفَّةِ فِي النُّطْقِ بِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ لِأَرْبَابِ الْأَدَبِ وَأَهْلِ الْفَصَاحَةِ.

وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُقُوعِ التَّرَادُفِ، بِدَلِيلِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجَازِيَّةِ.

وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ مِنْهُ وَهُوَ زِيَادَةُ مَؤُونَةِ الْحِفْظِ، إِنْ لَوْ وُظِّفَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حِفْظُ جَمِيعِ الْمُتَرَادِفَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي حِفْظِ الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ (1) مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

وَعَنِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ، أَنَّهُ مُلْغًى بِالتَّرَادُفِ فِي لُغَتَيْنِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالتَّرَادُفِ الْإِخْلَالُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ أَوَّلًا وَهُوَ مَحْذُورٌ.

ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ، مَا نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِهِمْ ” الصُّهْلُبُ وَالشَّوْذَبُ مِنْ أَسْمَاءِ الطَّوِيلِ، وَالْبُهْتُرُ وَالْبُحْتُرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَصِيرِ ” إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ حَتَّى يَتْبَعَ مَا يَقُولُهُ مَنْ يَتَعَسَّفُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي بَيَانِ اخْتِلَافِ الْمَدْلُولَاتِ، لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَفِيَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَظَهَرَ الْبَعْضُ، فَيُجْعَلُ الْأَشْهُرُ بَيَانًا لِلْأَخْفَى وَهُوَ الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ.

_________

(1) إِدْخَالُ (الْ) عَلَى كُلٍّ وَبَعْضٍ لَمْ يُعْرَفْ عَرَبِيَّةً.

________________________________________

وَقَدْ ظُنَّ بِأَسْمَاءَ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ وَهِيَ مُتَبَايِنَةٌ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا إِذَا كَانَتِ الْأَسْمَاءُ لِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالسَّيْفِ وَالصَّارِمِ وَالْهِنْدِيِّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ وَصِفَةِ صِفَتِهِ كَالنَّاطِقِ وَالْفَصِيحِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَيُفَارِقُ الْمُرَادِفُ الْمُؤَكِّدَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُرَادِفَ لَا يَزِيدُ مُرَادِفُهُ إِيضَاحًا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا يُرَادِفُ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُؤَكِّدِ. وَالتَّابِعُ فِي اللَّفْظِ فَمُخَالِفٌ لَهُمَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ الْمَتْبُوعِ، وَأَنَّهُ قَدْ لَا يُفِيدُ مَعْنًى أَصْلًا كَقَوْلِهِمْ: حَسَنٌ بَسَنٌ، وَشَيْطَانٌ لَيْطَانٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سَأَلَتْ أَبَا حَاتِمٍ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ ” بَسَنٌ ” فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هُوَ.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *