الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الْحَرْفِ وَأَصْنَافِهِ

 

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)

 


 [الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الْحَرْفِ وَأَصْنَافِهِ]

 

الْفَصْلُ السَّادِسُ

فِي الْحَرْفِ وَأَصْنَافِهِ

الْحَرْفُ: مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ عَلَى أَصْنَافٍ:

مِنْهَا: حَرْفُ الْإِضَافَةِ، وَهُوَ مَا يُفْضِي بِمَعَانِي الْأَفْعَالِ إِلَى الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: مِنْهُ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا حَرْفًا كَمِنْ، وَإِلَى، وَحَتَّى، وَفِي، وَالْبَاءِ، وَاللَّامِ، وَرُبَّ، وَوَاوِ الْقَسَمِ وَتَائِهِ.

أَمَّا ” مِنْ ” فَهِيَ قَدْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِكِ: سِرْتُ مِنْ بَغْدَادَ، وَلِلتَّبْعِيضِ كَقَوْلِكِ: أَكَلْتُ مِنَ الْخُبْزِ، وَلِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِكِ: خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَزَائِدَةٌ كَقَوْلِكِ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ.

_________

(1) الْمُرَادُ بِالْمَوْضُوعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مُعَيَّنًا كَانَ: كَضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ الْمَبْدُوءِ بِالتَّاءِ، وَضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَبْدُوءِ بِالْهَمْزَةِ، وَضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْمَبْدُوءِ بِالنُّونِ. أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ: كَضَمِيرِ الْغَائِبِ الْمُضَارِعِ الْمَبْدُوءِ بِالْيَاءِ

________________________________________

وَأَمَّا (إِلَى) فَهِيَ قَدْ تَكُونُ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِكِ: سِرْتُ إِلَى بَغْدَادَ، وَبِمَعْنَى ” مَعَ ” كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} .

وَأَمَّا (حَتَّى) فَفِي مَعْنَى إِلَى.

وَأَمَّا (فِي) فَلِلظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِكِ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى ” عَلَى ” كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وَقَدْ يُتَجَوَّزُ بِهَا فِي قَوْلِهِمْ: نَظَرْتُ فِي الْعِلْمِ الْفُلَانِيِّ.

وَأَمَّا (الْبَاءُ) فَلِلْإِلْصَاقِ كَقَوْلِكَ: بِهِ دَاءٌ، وَقَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِعَانَةِ كَقَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَالْمُصَاحَبَةُ كَقَوْلِكَ: اشْتَرَيْتُ الْفَرَسَ بِسَرْجِهِ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى ” عَلَى ” قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} أَيْ عَلَى قِنْطَارٍ وَعَلَى دِينَارٍ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى ” مِنْ أَجْلِ ” قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أَيْ لِأَجْلِ دُعَائِكَ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى فِي دُعَائِكَ.

وَقَدْ تَكُونُ زَائِدَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .

وَأَمَّا (اللَّامُ) فَهِيَ لِلِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِكَ: ” الْمَالُ لِزَيْدٍ “، وَقَدْ تَكُونُ زَائِدَةً كَقَوْلِهِ: (رَدِفَ لَكُمْ) .

وَأَمَّا (رُبَّ) فَهِيَ لِلتَّقْلِيلِ، وَلَا تَدْخُلْ إِلَّا عَلَى النَّكِرَةِ كَقَوْلِكَ: رُبَّ رَجُلٍ عَالِمٍ.

وَأَمَّا (وَاوُ الْقَسَمِ) فَمُبْدَلَةٌ عَنْ بَاءِ الْإِلْصَاقِ فِي قَوْلِكَ: أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ.

وَ (التَّاءُ) مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ فِي تَاللَّهِ (1) .

 

الْقِسْمُ الثَّانِي مَا يَكُونُ حَرْفًا وَاسْمًا كَعَلَى وَعَنْ وَالْكَافِ وَمُذْ وَمُنْذُ.

فَأَمَّا (عَلَى) فَهِيَ لِلِاسْتِعْلَاءِ، وَهِيَ إِمَّا حَرْفٌ كَقَوْلِكَ: عَلَى زَيْدٍ دَيْنٌ، وَإِمَّا اسْمٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَمَا تَمَّ ظِمْؤُهَا … تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَبْزَاءَ مَجْهَلِ.

_________

(1) لَعَلَّهُ وَاللَّهِ

________________________________________

وَأَمَّا (عَنْ) فَلِلْمُبَاعَدَةِ، وَهِيَ إِمَّا حَرْفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ، وَإِمَّا اسْمٌ كَقَوْلِكَ: جَلَسْتُ مِنْ عَنْ يَمِينِهِ.

وَأَمَّا (الْكَافُ) فَقَدْ تَكُونُ حَرْفًا لِلتَّشْبِيهِ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَعَمْرٍو، وَقَدْ تَكُونُ اسْمًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

يَضْحَكْنَ عَنْ كَالْبَرَدِ الْمُنْهَمِّ.

وَأَمَّا (مُذْ) وَ (مُنْذُ) فَحَرْفَانِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الزَّمَانِ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُهُ مُذِ الْيَوْمَ، وَمُنْذُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ يَكُونَانِ اسْمَيْنِ إِذَا رَفَعَا مَا بَعْدَهُمَا.

 

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَكُونُ حَرْفًا وَفِعْلًا كَحَاشَا وَخَلَا وَعَدَا، فَإِنَّهَا تَخْفِضُ مَا بَعْدَهَا بِالْحَرْفِيَّةِ وَقَدْ تَنْصِبُهُ بِالْفِعْلِيَّةِ.

وَمِنْهَا الْحَرْفُ الْمُضَارِعُ لِلْفِعْلِ، وَهُوَ يَنْصِبُ الِاسْمَ وَيَرْفَعُ الْخَبَرَ مِثْلُ: إِنَّ، وَأَنَّ، وَلَكِنَّ، وَكَأَنَّ، وَلَيْتَ، وَلَعَلَّ.

وَمِنْهَا حُرُوفُ الْعَطْفِ وَهِيَ عَشَرَةٌ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ تَشْتَرِكُ فِي جَمْعِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمٍ غَيْرَ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي أُمُورٍ أُخْرَى.

وَهَذِهِ هِيَ: (الْوَاوُ، وَالْفَاءُ، وَثُمَّ، وَحَتَّى) .

أَمَّا ” الْوَاوُ ” فَقَدِ اتَّفَقَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأَدَبِ عَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ غَيْرِ مُقْتَضِيَةٍ تَرْتِيبًا وَلَا مَعِيَّةً، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ مُطْلَقًا، وَنُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ حَيْثُ يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} .

وَقِيلَ: إِنَّهَا تَرِدُ بِمَعْنَى ” أَوْ ” كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} قِيلَ: أَرَادَ مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ، وَقَدْ تَرِدُ لِلِاسْتِئْنَافِ كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} تَقْدِيرُهُ: وَالرَّاسِخُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى ” مَعَ ” فِي بَابِ الْمَفْعُولِ مَعَهُ، تَقُولُ: جَاءَ الْبَرْدُ وَالطَّيَالِسَةُ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى ” إِذْ ” قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أَيْ إِذْ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ.

________________________________________

احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ ” الْوَاوُ ” فِي قَوْلِ الْقَائِلِ (رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا) لِلتَّرْتِيبِ لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} فِي آيَةٍ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} مَعَ اتِّحَادِ الْقَضِيَّةِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْمُتَقَدِّمِ مُتَأَخِّرًا وَالْمُتَأَخِّرِ مُتَقَدِّمًا.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا حَسُنَ قَوْلُ الْقَائِلِ ” تَقَاتَلَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو ” إِذْ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ ” جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو ” كَاذِبًا ثُمَّ مَجِيئُهُمَا مَعًا أَوْ تَقَدُّمُ الْمُتَأَخِّرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ” رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بَعْدَهُ ” تَكْرِيرًا وَ ” قَبْلَهُ ” تَنَاقُضًا.

الْخَامِسُ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْسَارُ عَنْ تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا وَتَأَخُّرِ الْآخَرِ ; لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا مِنْ ظَاهِرِ الْعَطْفِ.

السَّادِسُ: أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ التَّرْتِيبُ عِنْدَ قَوْلِ سَيِّدِهِ لَهُ: إِيتِ بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو.

السَّابِعُ: هُوَ أَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى وَاوِ الْجَمْعِ وَفِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ مَجْرَى يَاءِ التَّثْنِيَةِ، وَهُمَا لَا يَقْتَضِيَانِ التَّرْتِيبَ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ جَارٍ مَجْرَاهُمَا.

الثَّامِنُ: أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ مَعْقُولٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرْفٍ يُفِيدُهُ، وَلَيْسَ ثَمَّ مِنَ الْحُرُوفِ سِوَى (الْوَاوِ) بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ (الْوَاوَ) .

التَّاسِعُ: أَنَّهَا لَوْ أَفَادَتِ التَّرْتِيبَ لَدَخَلَتْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ كَالْفَاءِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: (إِذَا دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ وَأَعْطِهِ دِرْهَمًا) كَمَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ (فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا) .

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْمُخَالِفِ أَنَّ ” الْوَاوَ ” ظَاهِرَةٌ فِي التَّرْتِيبِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى غَيْرِ التَّرْتِيبِ تَجَوُّزًا، وَعَلَى هَذَا فَحَيْثُ تَعَذَّرَ حَمْلُهَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ التَّرْتِيبِ بِجِهَةِ التَّجَوُّزِ.

________________________________________

وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِمْ (تَقَاتَلَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو) وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّجَوُّزِ بِالْوَاوِ فِي غَيْرِ التَّرْتِيبِ أَنْ يُتَجَوَّزَ عَنْهُ بِالْفَاءِ وَثُمَّ ; إِذْ هُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْحُرُوفِ.

وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ الْمَعِيَّةِ أَوْ تَقَدُّمِ الْمُتَأَخِّرِ فِي اللَّفْظِ لِإِمْكَانِ التَّجَوُّزِ بِهَا عَنِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، كَمَا لَوْ قَالَ: (رَأَيْتُ أَسَدًا) وَكَانَ قَدْ رَأَى إِنْسَانًا شُجَاعًا.

وَعَلَى الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: ” رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بَعْدَهُ ” لَا يَكُونُ تَكْرِيرًا ; لِأَنَّهُ يَكُونُ مُفِيدًا لِامْتِنَاعِ حَمْلِهِ عَلَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لِاحْتِمَالِ تَوَهُّمِهِ بِجِهَةِ التَّجَوُّزِ، وَإِذَا قَالَ: (رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا قَبْلَهُ) لَا يَكُونُ تَنَاقُضًا لِكَوْنِهِ مُفِيدًا لِإِرَادَةِ جِهَةِ التَّجَوُّزِ.

وَعَلَى الْخَامِسِ: أَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ الِاسْتِفْسَارُ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ تَجَوُّزًا.

وَعَلَى السَّادِسِ: أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ التَّرْتِيبُ نَظَرًا إِلَى قَرِينَةِ الْحَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِرَادَةِ جِهَةِ التَّجَوُّزِ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ فُرِضَ عَدَمُ الْقَرِينَةِ لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلتَّرْتِيبِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ ” الْوَاوُ ” حَقِيقَةً فِي التَّرْتِيبِ فَإِفَادَتُهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا بِهِ، إِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ وَهُوَ أَيْضًا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.

قُلْنَا: وَلَوْ كَانَتْ حَقِيقَةً فِي الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَإِفَادَتُهَا لِلتَّرْتِيبِ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً كَانَ مُشْتَرَكًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.

فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ; لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ حَقِيقَةً فِي التَّرْتِيبِ خَلَا الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ عَنْ حَرْفٍ يَخُصُّهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةً فِي الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَخْلُ التَّرْتِيبُ عَنْ حَرْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ (الْفَاءِ) وَ (ثُمَّ) عَلَيْهِ.

قُلْنَا: إِنَّمَا نَجْعَلُهَا حَقِيقَةً فِي التَّرْتِيبِ الْمُطْلَقِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ (الْفَاءِ) وَ (ثُمَّ) وَذَلِكَ مِمَّا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ (الْفَاءُ) وَ (ثُمَّ) دَلَالَةً مُطَابِقَةً، بَلْ إِمَّا بِجِهَةِ التَّضَمُّنِ أَوْ

________________________________________

الِالْتِزَامِ، وَكَمَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُشْتَرَكِ بِدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ أَوِ الِالْتِزَامِ فَتَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ هَذِهِ الدَّلَالَةُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ إِخْلَاءُ التَّرْتِيبِ الْمُشْتَرَكِ عَنْ لَفْظٍ يُطَابِقُهُ أَوْلَى مِنْ إِخْلَاءِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ.

وَعَلَى السَّابِعِ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَتْ (الْوَاوُ) جَارِيَةً مَجْرَى (وَاوِ) الْجَمْعِ وَ (يَاءِ) التَّثْنِيَةِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِهَا جَارِيَةً مَجْرَاهُمَا فِي مُطْلَقِ الْجَمْعِ مَعَ كَوْنِهَا مُخْتَصَّةً بِالتَّرْتِيبِ، كَمَا فِي (الْفَاءِ) وَ (ثُمَّ) .

وَعَلَى الثَّامِنِ: أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ مَعْقُولٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مَنْ حَرْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَالتَّرْتِيبُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا مَعْقُولٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مَنْ حَرْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مَا يُفِيدُهُ بِالْإِجْمَاعِ سِوَى (الْوَاوُ) فَتَعَيَّنَ، كَيْفَ وَإِنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: (رَأَيْتُ زَيْدًا، رَأَيْتُ عَمْرًا) .

وَعَلَى التَّاسِعِ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِثُمَّ وَبَعْدَ.

 

وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ لِلتَّرْتِيبِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِالنَّقْلِ، وَالْحُكْمِ، وَالْمَعْنَى.

أَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} فَإِنَّهُ مُقْتَضٍ لِلتَّرْتِيبِ.

وَأَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قَالَ الصَّحَابَةُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (بِمَ نَبْدَأُ) قَالَ: ( «ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» ) (1) وَلَوْلَا أَنَّ (الْوَاوَ) لِلتَّرْتِيبِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.

وَأَيْضًا مَا رُوِيَ «أَنَّ وَاحِدًا قَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ: (مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدِ اهْتَدَى وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى) فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى) » (2) وَلَوْ كَانَتْ (الْوَاوُ) لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ.

_________

(1) الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) وَقَالَ: ” أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ “. وَفِي رِوَايَةٍ فِي النَّسَائِيِّ: ” نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ “. وَفِي أُخْرَى: ” ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ “. وَلَيْسَ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا ذِكْرُ سُؤَالِ الصَّحَابَةِ

(2) انْظُرْ كَلَامَ ابْنِ حَجْرٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ شَرْحِهِ: ” ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ “. – ج 1 – مِنْ فَتْحِ الْبَارِي

________________________________________

وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِشَاعِرٍ قَالَ: (

كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا

) : لَوْ قَدَّمْتَ الْإِسْلَامَ عَلَى الشَّيْبِ لَأَجَزْتُكَ. وَكَانَ عُمَرُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ.

وَأَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالُوا لَهُ: لِمَ تَأْمُرُنَا بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَكَانُوا أَيْضًا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَلَوْلَا أَنَّ (الْوَاوَ) لِلتَّرْتِيبِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا الْحُكْمُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، وَقَعَ بِهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ (الْوَاوُ) لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَوَقَعَتِ الثَّلَاثُ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا.

وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ يَسْتَدْعِي سَبَبًا، وَالتَّرْتِيبَ فِي الْوُجُودِ صَالِحٌ لَهُ فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ.

أَجَابَ النَّافُونَ عَنِ النَّقْلِ: أَمَّا الْآيَةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَفَادٌ مِنْهَا، بَلْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى وَرَتَّبَ الرُّكُوعَ قَبْلَ السُّجُودِ وَقَالَ: ( «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ) وَلَوْ كَانَتْ (الْوَاوُ) لِلتَّرْتِيبِ لَمَا احْتَاجَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» ) فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ سَأَلَهُ الصَّحَابَةُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَلَوْ كَانَتْ (الْوَاوُ) لِلتَّرْتِيبِ لَمَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ السُّؤَالِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَمَا احْتَاجُوا إِلَى السُّؤَالِ فَيَتَعَارَضَانِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» ) وَهُوَ دَلِيلُ التَّرْتِيبِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «قُلْ: وَمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى» ) إِنَّمَا قَصَدَ بِهِ إِفْرَادَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِ لَا أَنَّ ” الْوَاوَ ” لِلتَّرْتِيبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا انْفِكَاكَ لِإِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى حَتَّى يُتَصَوَّرَ فِيهِمَا التَّرْتِيبُ.

________________________________________

وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ بِتَقْدِيمِ ذِكْرِ الْأَعْظَمِ لَا عَلَى قَصْدِ التَّرْتِيبِ.

وَأَمَّا قِصَّةُ الصَّحَابَةِ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنَدُ إِنْكَارِهِمْ لِأَمْرِهِ بِتَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ كَوْنَ الْآيَةِ مُقْتَضِيَةً لِتَرْتِيبِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ، بَلْ لِأَنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَأَمْرُهُ بِالتَّرْتِيبِ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْآيَةِ، كَيْفَ وَإِنَّ فَهْمَهُمْ لِتَرْتِيبِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ مِنَ الْآيَةِ مُعَارَضٌ بِمَا فَهِمَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ.

وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ ” الْوَاوَ ” لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَإِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ فِي تَخْرِيجِهِ أَنْ يُقَالَ: إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَالْأَخِيرُ تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ، وَالْكَلَامُ يُعْتَبَرُ بِجُمْلَتِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ.

وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ: رَأَيْتُ زَيْدًا، رَأَيْتُ عَمْرًا. فَإِنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ فِي الذِّكْرِ لَا يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِجْمَاعًا، كَيْفَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي تَقْدِيمِهِ ذِكْرًا لِزِيَادَةِ حُبِّهِ لَهُ وَاهْتِمَامِهِ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْهُ لَا غَيْرُ، ثُمَّ تَجَدَّدَ لَهُ قَصْدُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْآخَرِ عِنْدَ إِخْبَارِهِ عَنِ الْأَوَّلِ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَجَاذَبٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْجَحُ هُوَ الْأَوَّلَ فِي النَّفْسِ.

وَأَمَّا ” الْفَاءُ ” وَ ” ثُمَّ ” وَ ” حَتَّى ” فَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَتَخْتَلِفُ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ.

فَأَمَّا ” الْفَاءُ ” فَمُقْتَضَاهَا إِيجَابُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْأُدَبَاءُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} وَإِنْ كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنِ الْهَلَاكِ، فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِالْحُكْمِ بِمَجِيءِ الْبَأْسِ بَعْدَ هَلَاكِهَا ضَرُورَةَ مُوَافَقَةِ النَّقْلِ (1) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}

_________

(1) مَجِيءُ الْبَأْسِ مُقَارِنٌ لِلْإِهْلَاكِ، فَالْحُكْمُ بِهِ مُقَارِنٌ لِلْإِهْلَاكِ أَوْ سَابِقٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْعَدُ عَنِ اللَّبْسِ وَالْغُمُوضِ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا، أَوْ يُقَالَ: الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا مِنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّفْصِيلِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْمُجْمَلِ وَهُوَ الْإِهْلَاكُ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ زَمَانِيًّا

________________________________________

، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْإِسْحَاتُ بِالْعَذَابِ مِمَّا يَتَرَاخَى عَنِ الِافْتِرَاءِ بِالْكَذِبِ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ مِمَّا يَتَرَاخَى عَنِ الْمُدَايَنَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ حُكْمَ الِافْتِرَاءِ الْإِسْحَاتُ، وَحُكْمَ الْمُدَايَنَةِ الرَّهْنِيَّةُ ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مُوَافَقَةِ النَّقْلِ.

وَقَدْ تَرِدُ ” الْفَاءُ ” مَوْرِدَ ” الْوَاوِ ” كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

(

بِسِقْطِ اللَّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

) .

وَأَمَّا (ثُمَّ) فَإِنَّهَا تُوجِبُ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ بِمُهْلَةٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} وَإِنْ كَانَ الِاهْتِدَاءُ يَتَرَاخَى عَنِ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى دَوَامِ الِاهْتِدَاءِ وَثَبَاتِهِ ضَرُورَةَ مُوَافَقَةِ النَّقْلِ.

وَقِيلَ: إِنَّهَا قَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى (الْوَاوِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ شَاهِدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا.

وَأَمَّا (حَتَّى) فَمُوجِبَةٌ لِكَوْنِ الْمَعْطُوفِ جُزْءًا مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ نَحْوُ قَوْلِكَ: مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْأَنْبِيَاءُ، وَقَدِمَ الْحَاجُّ حَتَّى الْمُشَاةُ. فَالْأَوَّلُ أَفْضَلُهُ وَالثَّانِي دُونَهُ.

وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا تَشْتَرِكُ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الْمَذْكُورِينَ وَهِيَ: أَوْ، وَإِمَّا، وَأَمْ.

إِلَّا أَنْ (أَوْ) وَ (إِمَّا) يَقَعَانِ فِي الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَ (أَمْ) لَا تَقَعُ إِلَّا فِي الِاسْتِفْهَامِ، غَيْرَ أَنَّ (أَوْ) وَ (إِمَّا) فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ، تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَجَاءَ إِمَّا زَيْدٌ وَإِمَّا عَمْرٌو، وَفِي الْأَمْرِ لِلتَّخْيِيرِ تَقُولُ: اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، وَاضْرِبْ إِمَّا زَيْدًا وَإِمَّا عَمْرًا. وَلِلْإِبَاحَةِ تَقُولُ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ. وَ (أَوْ) فِي الِاسْتِفْهَامِ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ الْأَمْرَيْنِ، وَ (أَمْ) مَعَ الْعِلْمِ بِأَحَدِهِمَا وَالشَّكِّ فِي تَعْيِينِهِ.

وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا تَشْتَرِكُ فِي أَنَّ الْمَعْطُوفَ مُخَالِفٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ وَهِيَ: لَا، وَبَلْ، وَلَكِنْ. تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ لَا عُمَرُ بَلْ عُمَرُ، وَمَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو. وَمِنْهَا حُرُوفُ النَّفْيِ وَهِيَ: مَا، وَلَا، وَلَمْ، وَلَمَّا، وَلَنْ، وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ.

________________________________________

فَأَمَّا (مَا) فَلِنَفْيِ الْحَالِ أَوِ الْمَاضِي الْقَرِيبِ مِنَ الْحَالِ، كَقَوْلِكَ مَا تَفْعَلُ مَا فَعَلَ.

وَأَمَّا (لَا) فَلِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ إِمَّا خَبَرًا كَقَوْلِكَ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، أَوْ نَهْيًا كَقَوْلِكَ: لَا تَفْعَلْ، أَوْ دُعَاءً كَقَوْلِكَ: لَا رَعَاكَ اللَّهُ.

وَأَمَّا (لَمْ) وَ (لَمَّا) فَلِقَلْبِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي تَقُولُ: لَمْ يَفْعَلْ، وَلَمَّا يَفْعَلْ.

وَ (لَنْ) لِتَأْكِيدِ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِكَ: لَنْ أَبْرَحَ الْيَوْمَ مَكَانِي تَأْكِيدًا لِقَوْلِكَ: لَا أَبْرَحُ الْيَوْمَ مَكَانِي.

وَ (إِنْ) لِنَفْيِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} .

وَمِنْهَا حُرُوفُ التَّنْبِيهِ وَهِيَ: هَا، وَأَلَا، وَأَمَا.

تَقُولُ: هَا أَفْعَلُ كَذَا، وَأَلَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَأَمَا إِنَّكَ خَارِجٌ.

وَمِنْهَا حُرُوفُ النِّدَاءِ وَهِيَ: يَا، وَأَيَا، وَهَيَا، وَأَيْ، وَالْهَمْزَةُ، وَوَا.

وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ، وَأَيْ وَالْهَمْزَةُ لِلْقَرِيبِ، وَوَا لِلنُّدْبَةِ.

وَمِنْهَا حُرُوفُ التَّصْدِيقِ وَالْإِيجَابِ وَهِيَ: نَعَمْ، وَبَلَى، وَأَجَلْ، وَجَيْرِ، وَإِيْ، وَإِنَّ. فَنَعَمْ مُصَدِّقَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَامَ زَيْدٌ مَا قَامَ زَيْدٌ.

وَ (بَلَى) لِإِيجَابِ مَا نُفِيَ كَقَوْلِكَ: بَلَى، لِمَنْ قَالَ: مَا قَامَ زَيْدٌ.

وَ (أَجَلْ) لِتَصْدِيقِ الْخَبَرِ كَقَوْلِكَ: أَجَلْ، لِمَنْ قَالَ: جَاءَ زَيْدٌ.

وَ (جَيْرِ) وَ (إِنَّ) وَ (إِيْ) لِلتَّحْقِيقِ، تَقُولُ: جَيْرِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَلِكَ، وَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَا، وَإِيْ وَاللَّهِ.

وَمِنْهَا حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ وَهِيَ: إِلَّا، وَحَاشَا، وَعَدَا، وَخَلَا.

وَالْحَرْفُ الْمَصْدَرِيُّ، وَهُوَ (مَا) فِي قَوْلِكَ: أَعْجَبَنِي مَا صَنَعْتَ، أَيْ صُنْعُكَ. وَ (أَنْ) فِي قَوْلِكَ: أُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، أَيْ فِعْلَكَ.

وَحُرُوفُ التَّحْضِيضِ وَهِيَ: لَوْلَا، وَلَوْمَا، وَهَلَّا، وَأَلَا فَعَلْتَ كَذَا، إِذَا أَرَدْتَ الْحَثَّ عَلَى الْفِعْلِ.

________________________________________

وَحَرْفُ تَقْرِيبِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ، وَهُوَ (قَدْ) فِي قَوْلِكَ: قَدْ قَامَ زَيْدٌ.

وَحُرُوفُ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ: الْهَمْزَةُ، وَهَلْ فِي قَوْلِكَ: أَزَيْدٌ قَامَ؟ وَهَلْ زَيْدٌ قَائِمٌ؟

وَحُرُوفُ الِاسْتِقْبَالِ وَهِيَ: السِّينُ، وَسَوْفَ، وَأَنْ، وَلَا، وَإِنْ فِي قَوْلِكَ: سَيَفْعَلُ، وَسَوْفَ يَفْعَلُ، وَأُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ، وَلَا تَفْعَلْ، وَإِنْ تَفْعَلْ.

وَحُرُوفُ الشَّرْطِ وَهِيَ: إِنْ، وَلَوْ، فِي قَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي، وَلَوْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ.

وَحَرْفُ التَّعْلِيلِ وَهُوَ ” كَيْ ” فِي قَوْلِكَ: قَصَدْتُ فُلَانًا كَيْ يُحْسِنَ إِلَيَّ.

وَحَرْفُ الرَّدْعِ وَهُوَ ” كَلَّا ” فِي قَوْلِكَ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ لَكَ ” إِنَّ الْأَمْرَ كَذَا.

وَمِنْهَا حُرُوفُ اللَّامَاتِ وَهِيَ: لَامُ التَّعْرِيفِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الِاسْمِ الْمُنَكَّرِ لِتَعْرِيفِهِ كَالرَّجُلِ، وَلَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِكَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَالْمُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ فِي قَوْلِكَ: وَاللَّهِ لَئِنْ أَكْرَمْتَنِي لَأُكْرِمَنَّكَ، وَلَامُ جَوَابِ (لَوْ) وَ (لَوْلَا) فِي قَوْلِكَ: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَوْلَا كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَامُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِكَ: لِيَفْعَلْ زَيْدٌ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِكَ: لَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ.

وَمِنْهَا ” تَاءُ التَّأْنِيثِ السَّاكِنَةُ ” فِي قَوْلِكَ: فَعَلَتْ.

وَمِنْهَا التَّنْوِينُ وَالنُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ فِي قَوْلِكَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا.

وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ الْمُرَكَّبِ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ الْكَلَامُ.

اعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْكَلَامِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ بِالْوَضْعِ تَارَةً وَعَلَى مَدْلُولِهَا الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ تَارَةً (1) عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ دُونَ النَّفْسَانِيِّ.

وَالْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ قَدْ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا أُلِّفَ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى شَيْءٍ، وَيُسَمَّى مُهْمَلًا، وَإِلَى مَا يَدُلُّ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي اللُّغَة: هَذَا

_________

(1) الصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ لَهُمَا، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا بِقَرِينَةٍ، كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا بِقَرِينَةٍ

________________________________________

كَلَامٌ مُهْمَلٌ، وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُهْمَلٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ إِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى الْمُهْمَلِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَالْغَرَضُ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْكَلَامِ الَّذِي لَيْسَ بِمُهْمَلٍ لُغَةً.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ إِذَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا كَلَامٌ، وَلَا جَرَمَ، قَالُوا فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا انْتَظَمَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُمَيَّزَةِ الْمُتَوَاضَعِ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا الصَّادِرَةِ عَنْ مُخْتَارٍ وَاحِدٍ. وَقَصَدُوا بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْحَرْفِ الْوَاحِدِ كَالزَّايِ مِنْ زَيْدٍ، وَبِالْقَيْدِ الثَّانِي الِاحْتِرَازَ عَنْ حُرُوفِ الْكِتَابَةِ، وَبِالْقَيْدِ الثَّالِثِ الِاحْتِرَازَ عَنْ أَصْوَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَالْمُهْمَلَاتِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَبِالْقَيْدِ الرَّابِعِ الِاحْتِرَاز عَنِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ إِذَا صَدَرَتْ حُرُوفُهُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْ شَخْصٍ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ تُسَمَّى كَلَامًا، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا اجْتَمَعَ مِنْ كَلِمَاتٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ لَا كُلَّمَا، وَنَحْوِهِ، هَلْ هُوَ كَلَامٌ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَلَامٌ ; لِأَنَّ آحَادَ كَلِمَاتِهِ وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ كَلَامًا، وَالنِّزَاعُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مَائِلٌ إِلَى الِاصْطِلَاحِ الْخَارِجِ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ.

وَأَمَّا مَأْخَذُهُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ اللُّغَةِ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ نَاقِدٌ بَصِيرٌ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ: (الْكَلَامُ هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ أُسْنِدَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى) . فَقَوْلُهُ: (الْمُرَكَّبُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ) احْتِرَازٌ عَنِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ: (أُسْنِدَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِكَ: زَيْدٌ عَمْرٌو، وَعَنْ قَوْلِكَ: زَيْدٌ عَلِيٌّ، أَوْ زَيْدٌ فِي، أَوْ قَامَ فِي. فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ مِنْهُمَا مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ وَلَيْسَ بِكَلَامٍ ; لِعَدَمِ إِسْنَادِ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنِ اسْمَيْنِ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، أَوِ اسْمٍ وَفِعْلٍ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَامَ، وَتُسَمَّى الْأُولَى جُمْلَةً اسْمِيَّةً وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، وَلَا يَتَرَكَّبُ الْكَلَامُ مِنَ الِاسْمِ وَالْحَرْفِ فَقَطْ، وَلَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَحْدِهَا، وَلَا مِنَ الْحُرُوفِ، وَلَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ.

________________________________________

فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْحَدِّ مُنْتَقِضٌ بِمَا تَرَكَّبَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ أُسْنِدَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى وَهُمَا مُهْمَلَتَانِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَلَامًا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ أَسْنَدْتَ مَقْلُوبَ زَيْدٍ إِلَى مَقْلُوبِ رَجُلٍ، فَقُلْتَ: (ديز هُوَ لجر) .

قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَةِ الَّتِي مِنْهَا التَّأْلِيفُ اللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ الدَّالَّةُ بِالْوَضْعِ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدٍ، وَلَا وُجُودَ لِذَلِكَ فِيمَا ذَكَرُوهُ، غَيْرَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَدِّ يَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَإِنْسَانٌ عَالِمٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النِّسَبِ التَّقْيِيدِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ كَلَامًا مُفِيدًا وَإِنْ أُسْنِدَ فِيهِ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، وَالْوَاجِبِ أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ مَا تَأَلَّفَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ تَأْلِيفًا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *