كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي بَيَانِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِهِ]
[مُقَدِّمَةُ فِي بَيَانِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ]
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ
فِي بَيَانِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِهِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَأُصُولٍ أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَفِي بَيَانِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ.
فَنَقُولُ: كَمَا بَيَّنَّا فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى حَدَّ الدَّلِيلِ وَانْقِسَامَهُ إِلَى عَقْلِيٍّ وَشَرْعِيٍّ.
وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا هَاهُنَا تَعْرِيفُ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ بَلِ الشَّرْعِيِّ.
وَالْمُسَمَّى بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا هُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِلَى مَا ظُنَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِدًا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ أَوْ لَا مِنْ جِهَتِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُتْلَى، أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يُتْلَى.
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُتْلَى فَهُوَ الْكِتَابُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يُتْلَى فَهُوَ السُّنَّةُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِدًا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ عِصْمَةُ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ صُورَتُهُ بِحَمْلِ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي حُكْمٍ بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ، أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَهُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، فَهُوَ دَلِيلٌ لِظُهُورِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَنَا بِهِ.
وَالْأَصْلُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ الْكِتَابُ ; لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشَرِّعِ لِلْأَحْكَامِ، وَالسُّنَّةُ مُخْبِرَةٌ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ، وَمُسْتَنَدِ الْإِجْمَاعِ فَرَاجِعٌ إِلَيْهِمَا.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِدْلَالُ، فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِمَعْقُولِ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ فَالنَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ أَصْلٌ، وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِدْلَالُ فَرْعٌ تَابِعٌ لَهُمَا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا ظُنَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ، فَكَشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، وَالِاسْتِحْسَانِ وَالْمُصْلِحَةِ الْمُرْسَلَةِ عَلَى مَا الْكَلَامُ فِيهِ.
________________________________________
[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِمَّا يُسَمَّى دَلِيلًا شَرْعِيًّا]
[الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ]
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنَ الْقُرْآنِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا وَعَلِمْنَا أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ فهو حُجَّةٌ]
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ
فِيمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِمَّا يُسَمَّى دَلِيلًا شَرْعِيًّا
وَلَمَّا بَانَ أَنَّهُ عَلَى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ، فَالنَّظَرُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا مِنْهُ مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِخُصُوصِهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا.
فَلْنَرْسُمْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَصْلًا، وَهِيَ سِتَّةُ أُصُولٍ.
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ
فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ ; لِأَنَّهُ الْأَوَّلُ وَالْأَوْلَى بِتَقْدِيمِ النَّظَرِ فِيهِ (1) أَمَّا حَقِيقَةُ الْكِتَابِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ: هُوَ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَفِيهِ نَظَرٌ.
فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْكِتَابِ سِوَى الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْنَا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا مُتَوَاتِرًا بَلْ وَلَا بِعَدَمِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ غَايَتُهُ جَهْلُنَا بِوُجُودِ الْقُرْآنِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا وَعَدَمِ عِلْمِنَا بِكَوْنِهِ قُرْآنًا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ تَوَاتُرِهِ، وَعِلْمُنَا بِوُجُودِهِ غَيْرُ مَأْخُوذٍ فِي حَقِيقَتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ فِي تَحْدِيدِهِ.
وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ.
فَقَوْلُنَا: (الْقُرْآنُ) احْتِرَازٌ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كُتُبًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَتْ هِيَ الْكِتَابَ الْمَعْهُودَ لَنَا الْمُحْتَجَّ بِهِ فِي شَرْعِنَا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَعْرِيفِهِ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنِ الْكَلَامِ الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا لَيْسَ بِمَتْلُوٍّ.
وَقَوْلُنَا: (الْمُنَزَّلِ) احْتِرَازٌ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِكِتَابٍ، بَلِ الْكِتَابُ هُوَ الْكَلَامُ الْمُعَبِّرُ عَنِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ، (2) وَلِذَلِكَ لَمْ نَقُلْ هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ وَلَمْ نَقُلْ هُوَ الْمُعْجِزُ ; لِأَنَّ الْمُعْجِزَ أَعَمُّ مِنَ الْكِتَابِ وَلَمْ نَقُلْ هُوَ الْكَلَامُ الْمُعْجِزُ ; لِأَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ الْآيَةَ وَبَعْضَ الْآيَةِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً.
_________
(1) تَقَدَّمَ بَيَانُ وَجْهِ الْأَوْلَوِيَّةِ عَقِبَ ذِكْرِهِ أَقْسَامَ الْأَدِلَّةِ.
(2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 153.
________________________________________
وَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى تَعْرِيفِ حَقِيقَةِ الْكِتَابِ (1) ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَهِيَ خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى (2) اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنَ الْقُرْآنِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْهُ آحَادًا كَمُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِ أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً، أَمْ لَا؟
فَنَفَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَثْبَتَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَنَى (3) عَلَيْهِ وُجُوبَ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ بِمَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مُصْحَفِهِ مِنْ قَوْلِهِ: ” فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ “.
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَحُجَّتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُكَلَّفًا بِإِلْقَاءِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى طَائِفَةٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِقَوْلِهِمْ، وَمَنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِقَوْلِهِمْ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِمُ التَّوَافُقُ عَلَى عَدَمِ نَقْلِ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ.
فَالرَّاوِي لَهُ إِذَا كَانَ وَاحِدًا إِنْ ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ فَقَدْ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
وَهَذَا بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمْ إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلْقَاءُ الْقُرْآنِ إِلَى عَدَدٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِقَوْلِهِمْ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ دَعْوَاهُ مَعَ أَنَّ حُفَّاظَ الْقُرْآنِ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ لِقِلَّتِهِمْ، وَأَنَّ جَمْعَهُ إِنَّمَا كَانَ
_________
(1) كِتَابُ اللَّهِ أَوِ الْقُرْآنُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْهَا الْأُمِّيُّونَ وَصِبْيَانُ الْكَتَاتِيبِ، وَتَعْرِيفُهُ بِمِثْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ غُمُوضٍ احْتَاجُوا مَعَهُ إِلَى سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، وَإِخْرَاجِ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ قُيُودٍ، فَمَا كَانَ أَغْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّهَا الصِّنَاعَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ الْمُتَكَلَّفَةُ تَغَلْغَلَتْ فِي نُفُوسِ الْكَثِيرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
(2) انْظُرْ آخِرَ الْجُزْءِ: 13 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى، فَفِيهِ بَيَانُ ضَابِطِ الْمُتَوَاتِرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، وَبَيَانُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْهَا، وَمَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَمَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَمَا تَجُوزُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ.
(3) بَيَانٌ لِثَمَرَةِ الْخِلَافِ بَيْنَ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ.
________________________________________
بِطْرِيقِ تَلَقِّي آحَادِ آيَاتِهِ مِنَ الْآحَادِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ مَصَاحِفُ الصَّحَابَةِ.
وَلَوْ كَانَ قَدْ أَلْقَاهُ إِلَى جَمَاعَةٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَلِهَذَا أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِي الْبَسْمَلَةِ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَوْنَ الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ.
سَلَّمْنَا وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ جَمْعٌ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ السُّكُوتُ عَنْ نَقْلِهِ عَلَى الْكُلِّ لِعِصْمَتِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ، وَإِذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَقَدْ رَوَى مَا رَوَاهُ فَلَمْ يَقَعِ الِاتِّفَاقُ مِنَ الْكُلِّ عَلَى الْخَطَأِ بِالسُّكُوتِ
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ رِوَايَتِهِ لِذَلِكَ فِي مُصْحَفِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُهُ.
غَايَتُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، لِعَدَمِ تَوَاتُرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ لِكَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمْكَنَ أَنْ (1) يَكُونُ لِكَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ قُرْآنًا، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَهُمَا احْتِمَالَانِ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ، وَهُوَ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالٍ مِنَ احْتِمَالَيْنِ أَغْلَبُ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ.
إِلَّا أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهِ خَبَرًا رَاجِحٌ ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُ لَهُ مُوهِمٌ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ.
وَلَوْ كَانَ مَذْهَبًا لَهُ لَصَرَّحَ بِهِ، نَفْيًا لِلتَّلْبِيسِ عَنِ السَّامِعِ الْمُعْتَقِدِ كَوْنِهِ حُجَّةً مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا وُجُوبُ إِلْقَائِهِ عَلَى عَدَدٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، فَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطْعًا، وَمَعَ عَدَمِ بُلُوغِهِ إِلَى مَنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ لَا يَكُونُ حُجَّةً قَاطِعَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي تَصْدِيقِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ بُلُوغِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَدَدَ التَّوَاتُرِ أَنْ يَكُونَ الْحُفَّاظُ لِآحَادِ آيَاتِهِ كَذَلِكَ.
_________
(1) سَقَطَ مِنْهُ حَرْفُ: لَا. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَمْكَنَ أَلَّا يَكُونَ إِلَخْ. فَإِنَّ الْمَعْنَى وَأَمْكَنَ أَلَّا يَكُونَ قُرْآنًا لِكَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ.
________________________________________
وَأَمَّا التَّوَقُّفُ فِي جَمْعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي كَوْنِهَا قُرْآنًا بَلْ فِي تَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا وَفِي طُولِهَا وَقِصَرِهَا.
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَتْ بِهِ الْمَصَاحِفُ، فَمَا كَانَ مِنَ الْآحَادِ فَلَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا كَانَ مُتَوَاتِرًا فَهُوَ مِنْهُ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ، إِنَّمَا كَانَ فِي وَضْعِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لَا فِي كَوْنِهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا إِنْكَارُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِإِنْزَالِ هَذِهِ السُّوَرِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ لِإِجْرَائِهَا مُجْرَى الْقُرْآنِ فِي حُكْمِهِ.
قَوْلُهُمْ: إِذَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَتَّفِقِ الْكُلُّ عَلَى الْخَطَأِ.
قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ سُكُوتَ مَنْ سَكَتَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا (1) إِلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ (2) لِوُجُوبِ نَقْلِهِ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَوْ قُلْنَا إِنَّ مَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ قُرْآنٌ، لَزِمَ ارْتِكَابُ مَنْ عَدَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ لِلْحَرَامِ بِالسُّكُوتِ.
وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ ذَلِكَ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاوِي وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَدَاهُ مِنَ السَّاكِتِينَ وَبِتَقْدِيرِ (3) ارْتِكَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلْحَرَامِ مَعَ كَوْنِهِ وَاحِدًا أَوْلَى مِنَ ارْتِكَابِ الْجَمَاعَةِ لَهُ، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ بَطَلَ قَوْلُهُمْ بِظُهُورِ صِدْقِهِ فِيمَا نَقَلَهُ مُعَارِضٌ، وَتَعَيَّنَ تَرَدُّدُ نَقْلِهِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمَذْهَبِ.
قَوْلُهُمْ: حَمْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ رَاجِحٌ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ مَذْهَبًا لَصَرَّحَ بِهِ، نَفْيًا لِلتَّلْبِيسِ.
قُلْنَا: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ لَمْ يُصَرَّحْ بِكَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ (4) ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَذْهَبِ مَعَ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي مَا صَرَّحَ فِيهِ بِالْخَبَرِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بِالِاتِّفَاقِ.
كَيْفَ وَفِيهِ مُوَافَقَةُ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ التَّتَابُعِ بِخِلَافِ مُقَابِلِهِ، فَكَانَ أَوْلَى.
_________
(1) أَيْ: عَادَةً.
(2) لَيْسَ بِحَرَامٍ ; لِأَنَّ نَقْلَهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَبِذَلِكَ يَمْتَنِعُ مَا فَرَّعْتَ عَلَى التَّحْرِيمِ.
(3) فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ وَتَقْدِيرُ، وَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ ” أَوْلَى “.
(4) إِنْ أَرَادَ بِمَا لَمْ يُصَرَّحْ بِنِسْبَتِهِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْأَخْبَارِ، مَا يَعُمُّ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ وَالْقُدْسِيَّةَ وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي نُقِلَتْ آحَادًا فَلَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَإِنْ أَرَادَ بِمَا لَمْ يُصَرَّحْ بِنِسْبَتِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَالْقُدْسِيَّةِ خَاصَّةً، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِيهِ عَلَى عَدَمِ الْحُجِّيَّةِ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ.
________________________________________
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هل البسملة من القرآن]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، فَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ.
لَكِنَّ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ حَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كُتِبَتْ مَعَ الْقُرْآنِ بِخَطِّ الْقُرْآنِ أَمْ لَا (1) .
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّهَا هَلْ هِيَ آيَةٌ بِرَأْسِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، أَوْ هِيَ مَعَ أَوَّلِ آيَةٍ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ آيَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ.
وَقَضَى بِتَخْطِئَةِ مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ لَهُ لِعَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ الْقَاطِعِ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ.
وَالْحُجَّةُ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ.
وَلِذَلِكَ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ” «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَا يَعْرِفُ خَتْمَ سُورَةٍ، وَابْتِدَاءَ أُخْرَى حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» “، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ حَيْثُ أُنْزِلَتْ.
الثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ تُكْتَبُ بِخَطِّ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَنْ كَتَبَهَا بِخَطِّ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ مَعَ تَخَشُّنِهِمْ فِي الدِّينِ وَتَحَرُّزِهِمْ فِي صِيَانَةِ الْقُرْآنِ عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ أَثْبَتَ أَوَائِلَ السُّوَرِ وَالتَّعْشِيرَ وَالنَّقْطَ.
وَذَلِكَ كُلُّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا حَيْثُ كُتِبَتْ مَعَ الْقُرْآنِ بِخَطِّ الْقُرْآنِ أَنَّهَا مِنْهُ.
الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ” سَرَقَ الشَّيْطَانُ مِنَ النَّاسِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَمَّا أَنْ تَرَكَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ “، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ.
_________
(1) مَعْنَاهُ أَمْ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ.
________________________________________
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْقَطْعُ فِي إِثْبَاتِهَا أَوْ لَا يُشْتَرَطَ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ بَلْ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا تَصْلُحُ لِلْإِثْبَاتِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهَا مِنَ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ مَعَهُ بَيَانًا شَافِيًا شَائِعًا قَاطِعًا لِلشَّكِّ، كَمَا فَعَلَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَلْيُثْبِتِ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ بِمَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مُصْحَفِهِ.
قُلْنَا: الِاخْتِلَافُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَقَعْ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ التَّسْمِيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَطْعُ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي وَضْعِهَا آيَةً فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَالْقَطْعُ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ فِيهِ.
وَلِهَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ لِلْآخَرِ، كَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي عَدَدِ الْآيَاتِ وَمَقَادِيرِهَا (1) .
قَوْلُهُمْ كَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَانُ ذَلِكَ بَيَانًا قَاطِعًا لِلشَّكِّ.
قُلْنَا: وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْقُرْآنِ لَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا بَيَانًا قَاطِعًا لِلشَّكِّ، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي التَّعَوُّذِ، بَلْ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّسْمِيَةَ مَكْتُوبَةٌ بِخَطِّ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَمُنَزَّلَةٌ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَيَانِ بِخِلَافِ التَّعَوُّذِ.
فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ مُنْحَصِرٌ يُمْكِنُ بَيَانُهُ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ، فَلَا يُمْكِنُ بَيَانُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَلِهَذَا قِيلَ بِوُجُوبِ بَيَانِ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ.
_________
(1) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى كِتَابَتِهَا بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ سِوَى مَا بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ، وَأَنَّهَا نُقِلَتْ كِتَابَةً نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي قُرْآنِيَّتِهَا فَقَطْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كُتِبَتْ فِيهِ بَيْنَ سُورَتَيْنِ لَا فِي نَقْلِهَا، وَلَا فِي ثُبُوتِهَا قُرْآنًا فِي نَفْسِهَا، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلِذَا لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَسِّقْهُ بَلْ خَطَّأَهُ فَقَطْ. وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ حَقٌ ; فَإِنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ فَصَلَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَلَيْسَتْ آيَةً مِنْهُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ.
________________________________________
قُلْنَا: نَحْنُ لَمْ نُوجِبْ بَيَانَ كُلِّ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ إِنَّمَا أَوْجَبْنَا بَيَانَ مَا يَسْبِقُ إِلَى الْأَفْهَامِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ كَمَا فِي التَّسْمِيَةِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُنْحَصِرٌ، بَلْ هُوَ أَقَلُّ مِنْ بَيَانِ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ (1) مِنْ وَضْعِ (2) كَوْنِ التَّسْمِيَةِ آيَةً مَعَ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِالِاجْتِهَادِ وَالظَّنِّ.
وَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهَا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ قَطْعًا أَنْ يُقَالَ (3) مِثْلُهُ فِي ثُبُوتِ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّتَابُعِ مَعَ أَنَّهَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا مِنَ الْقُرْآنِ قَطْعًا وَلَا ظَنًّا.