تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الْقَاعِدَةُ الْأُولَى فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ ومَوْضُوعِهِ وَغَايَتِهِ وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ ومَوْضُوعِهِ وَغَايَتِهِ وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ

  • بواسطة

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)


 

[المقدمة]

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 

الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْأَفْلَاكِ وَمُدَبِّرِهَا، وَمُزَيِّنِهَا، بِالشُّهُبِ الثَّاقِبَةِ وَمُنِيرِهَا، وَجَاعِلِ حَرَكَاتِ السَّيَّارَاتِ دَالَّةً عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْكَائِنَاتِ وَتَدْبِيرِهَا (1) ، وَمُظْهِرِ حِكَمَهُ فِي إِبْدَاعِهِ لِأَنْوَاعِ مَوْجُودَاتِ الْعَالَمِ وَتَصْوِيرِهَا، الْمُتَفَضِّلِ بِسَوَابِغِ الْإِنْعَامِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. الْعَادِلِ فِيمَا قَضَاهُ وَأَمْضَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِهَا. الَّذِي شَرَّفَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ بِالْعَقْلِ الْهَادِي إِلَى أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَتَحْرِيرِهَا. وَأَهَّلَ خَاصَّةَ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِثْمَارِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَدَارِكِهَا وَتَقْرِيرِهَا (2) ، حَتَّى اسْتَقَرَّتْ قَاعِدَةُ الدِّينِ، وَظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ فِي جَمْعِهَا وَتَحْبِيرِهَا.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً مُنْجِيَةً مِنْ صَغِيرِ الْمُوبِقَاتِ وَكَبِيرِهَا. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي أَزَالَ – بِوَاضِحِ بُرْهَانِهِ – وَأَزَاحَ – بِصَادِقِ بَيَانِهِ – مَا ظَهَرَ مِنْ شُبَهِ الْمُلْحِدَةِ وَتَزْوِيرِهَا. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ الْمُؤَازِرِينَ لَهُ فِي إِظْهَارِ دَعَوْتِهِ بِحَدِّهَا وَتَشْمِيرِهَا، وَالسَّلَامُ.
وَبَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْقَضَايَا الْفِقْهِيَّةُ وَسَائِلَ مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَنَاطَ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَأَجَلَّ الْعُلُومِ قَدْرًا وَأَعْلَاهَا شَرَفًا وَذِكْرًا ; لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، كَانَتْ أَوْلَى بِالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَأَجْدَرَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا.
وَحَيْثُ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِثْمَارِهَا دُونَ النَّظَرِ فِي مَسَالِكِهَا وَلَا مَطْمَعَ فِي اقْتِنَاصِهَا مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى مَدَارِكِهَا، كَانَ مِنَ الْلَازِمَاتِ وَالْقَضَايَا الْوَاجِبَاتِ الْبَحْثُ فِي أَغْوَارِهَا، وَالْكَشْفُ عَنْ أَسْرَارِهَا، وَالْإِحَاطَةُ بِمَعَانِيهَا، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَبَانِيهَا حَتَّى تُذَلَّلَ (3) طُرُقُ الِاسْتِثْمَارِ، وَيَنْقَادَ جُمُوحُ غَامِضِ الْأَفْكَارِ؛ وَلِذَلِكَ كَثُرَ تَدْآبِي (4) ، وَطَالَ اغْتِرَابِي فِي جَمْعِ فَوَائِدِهَا، وَتَحْقِيقِ فَرَائِدِهَا مِنْ
_________
(1) مَعْطُوفٌ عَلَى اخْتِلَافٍ
(2) مَعْطُوفٌ عَلَى اسْتِثْمَارِهَا
(3) أَيِ التَّفْصِيلِيَّةِ
(4) مُضَارِعٌ حُذِفَ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ

 

مُبَاحَثَاتِ الْفُضَلَاءِ، وَمُطَارَحَاتِ النُّبَلَاءِ حَتَّى لَانَ مِنْ مَعْرَكِهَا مَا اسْتُصْعِبَ عَلَى الْمُتَدَرِّبِينَ، وَظَهَرَ مِنْهَا مَا خَفِيَ عَلَى حُذَّاقِ الْمُتَبَحِّرِينَ، وَأَحَطْتُ مِنْهَا بِلُبَابِ الْأَلْبَابِ، وَاحْتَوَيْتُ مِنْ مَعَانِيهَا عَلَى الْعَجَبِ الْعُجَابِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَجْمَعَ فِيهَا كِتَابًا حَاوِيًا لِجَمِيعِ مَقَاصِدِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ. مُشْتَمِلًا عَلَى حَلِّ مَا انْعَقَدَ مِنْ غَوَامِضِهَا عَلَى أَرْبَابِ الْعُقُولِ، مُتَجَنِّبًا لِلْإِسْهَابِ وَغَثِّ الْإِطْنَابِ، مُمِيطًا لِلْقِشْرِ عَنِ اللُّبَابِ خِدْمَةً (1) لِمَوْلَانَا السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ الْمُكَرَّمِ ; سُلْطَانِ الْأَجْوَادِ وَالْأَمْجَادِ، أَجَلِّ الْعَالَمِ، وَأَفْضَلِ مَنْ تَمْتَدُّ إِلَيْهِ أَعْنَاقُ الْهِمَمِ وَالْعَزَائِمِ، مَلِكِ أَرْبَابِ الْفَضَائِلِ، نَاقِدِ خَلَاصِ الْأَفَاضِلِ، بَاعِثِ أَمْوَاتِ الْخَوَاطِرِ، نَاشِرِ رُفَاتِ الْعُلُومِ الدَّوَاثِرِ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي حَازَ بِهَا قَصَبَ سَبْقِ الْأَوَّلِينَ، وَالْمَنَاقِبِ الَّتِي يَقِفُ دُونَ إِحْصَائِهَا عَدُّ الْحَاصِرِينَ. فَبِيَدِهِ زِمَامُهَا، وَإِلَيْهِ حَلُّهَا وَإِبْرَامُهَا، وَبِهِ كَشْفُ أَغْوَارِهَا، وَالْمَيْزُ بَيْنَ ظُلْمِهَا وَأَنْوَارِهَا (2) أَدَامَ اللَّهُ سَعَادَتَهُ إِدَامَةً لَا تَغْرُبُ طَوَالِعُهَا، وَلَا تَنْضُبُ مَشَارِعُهَا، وَإِنْ كُنْتُ فِي ضَرْبِ الْمِثَالِ كَحَامِلِ تَمْرٍ إِلَى هَجَرَ أَوْ طَلٍّ إِلَى مَطَرٍ، لَكِنَّهُ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْقَدْرِ، وَغَايَةُ مَنَالِ أَفْكَارِ الْبَشَرِ (3) وَأَرْجُو أَنْ يُصَادِفَ مِنْهُ الْقَبُولَ، وَأَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْإِغْضَاءُ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ.

(وَسَمَّيْتُهُ كِتَابَ الْإِحْكَامِ فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ)
وَقَدْ جَعَلَتْهُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ:
الْأُولَى: فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَبَادِيهِ.
_________
(1) لَوْ أَلَّفَ كِتَابَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَخِدْمَةً لِدِينِهِ، وَرَجَا مِنْهُ قَبُولَهُ وَالْمَثُوبَةَ مِنْهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، فَإِنَّهُ قَدَّمَهُ لِلسُّلْطَانِ إِعْظَامًا لَهُ، وَلَيْسَ كَمَنْ يَكْتُبُ لِتَلَامِيذِهِ تَعْلِيمًا لَهُمْ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ ” وَإِنْ كُنْتُ فِي ضَرْبِ الْمِثَالِ كَحَامِلِ تَمْرٍ إِلَى هَجَرَ أَوْ طَلٍّ إِلَى مَطَرٍ “.
(2) فِي ثَنَائِهِ عَلَى السُّلْطَانِ إِطْرَاءٌ لَا تُقِرُّهُ الشَّرِيعَةُ، وَهَذَا مِمَّا ابْتُلِيَتْ بِهِ الْأُمَّةُ فِي عُصُورِ ضَعْفِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَارْتِمَاءِ الْعُلَمَاءِ فِي أَحْضَانِ الْحُكَّامِ.
(3) فِي ذَلِكَ إِطْرَاءٌ لِنَفْسِهِ وَزَهْوٌ وَإِعْجَابٌ بِتَأْلِيفِهِ وَادِّعَاءٌ لِمَا يُكَذِّبُهُ الْوَاقِعُ

 

الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ لَوَازِمِهِ وَأَحْكَامِهِ.

الثَّالِثَةُ: فِي أَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَحْوَالِ الْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَفْتِينَ.
الرَّابِعَةُ: فِي تَرْجِيحَاتِ طُرُقِ الْمَطْلُوبَاتِ.
اللَّهُمَّ فَيَسِّرْ خِتَامَهُ، وَسَهِّلْ إِتْمَامَهُ، وَبَصِّرْنَا بِسُلُوكِ مَسَالِكِ الْحَقِّ الْيَقِينِ، وَجَنِّبْنَا بِرَحْمَتِكِ عَنْ طُرُقِ الزَّائِغِينَ، وَسَلِّمْنَا مِنْ غَوَائِلِ الْبِدَعِ. وَاقْطَعْ عَنَّا عَلَائِقَ الطَّمَعِ. وَآمِّنَّا يَوْمَ الْخَوْفِ وَالْجَزَعِ. إِنَّكَ مَلَاذُ الْقَاصِدِينَ، وَكَهْفُ (1) الرَّاغِبِينَ.

 

 

[الْقَاعِدَةُ الْأُولَى فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ ومَوْضُوعِهِ وَغَايَتِهِ وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ]

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى

فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَتَعْرِيفِ مَوْضُوعِهِ وَغَايَتِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهُ مِنْ مَسَائِلِهِ، وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ وَتَصْوِيرُ مَبَادِيهِ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ مَعْرِفَتِهِ قَبْلَ الْخَوْضِ فِيهِ.
فَنَقُولُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ حَاوَلَ تَحْصِيلَ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ أَنْ يَتَصَوَّرَ مَعْنَاهُ أَوَّلًا بِالْحَدِّ أَوِ الرَّسْمِ؛ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا يَطْلُبُهُ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَوْضُوعَهُ – وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِهِ الْعَارِضَةِ لَهُ – تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَا هُوَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ تَحْصِيلِهِ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ سَعْيُهُ عَبَثًا، وَمَا عَنْهُ الْبَحْثُ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَسَائِلُهُ لِتَصَوُّرِ طَلَبِهَا، وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ عِنْدَ رَوْمِ تَحْقِيقِهِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَتَصَوَّرَ مَبَادِيَهُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ مَعْرِفَتِهَا فِيهِ لِإِمْكَانِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا.
أَمَّا مَفْهُومُ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ ” أُصُولُ الْفِقْهِ ” قَوْلٌ مُؤَلَّفٍ مِنْ مُضَافٍ هُوَ الْأُصُولُ، وَمُضَافٍ إِلَيْهِ هُوَ الْفِقْهُ، وَلَنْ نَعْرِفَ الْمُضَافَ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُ مَعْنَى الْفِقْهِ أَوَّلًا ثُمَّ مَعْنَى الْأُصُولِ ثَانِيًا.
_________
(1) لَوْ قَالَ: غَوْثُ اللَّاجِئِينَ لَكَانَ أَرْعَى لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ، وَأَبْعَدَ عَنْ وَحْشَةِ الْعِبَارَةِ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ.

أَمَّا الْفِقْهُ: فَفِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَهْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} أَيْ لَا نَفْهَمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أَيْ لَا تَفْهَمُونَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: فَقِهْتُ كَلَامَكَ، أَيْ فَهِمْتُهُ.
وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْفَهْمَ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ ; إِذِ الْفَهْمُ عِبَارَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهْيِئَتِهِ لِاقْتِنَاصِ كُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَطَالِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُتَّصِفُ بِهِ عَالِمًا كَالْعَامِّيِّ الْفَطِنِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ فَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ عَنْ قَرِيبٍ. وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ عَالِمٍ فَهِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَهِمٍ عَالِمًا.
وَفِي عُرْفِ الْمُتَشَرِّعِينَ: الْفِقْهُ مَخْصُوصٌ بِالْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفُرُوعِيَّةِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
فَالْعِلْمُ احْتِرَازٌ عَنِ الظَّنِّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ تُجُوِّزَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْفِقْهِ عَلَيْهِ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّيِّ، فَلَيْسَ فِقْهًا فِي الْعُرْفِ اللُّغَوِيِّ وَالْأُصُولِيِّ، بَلِ الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِهَا أَوِ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ بِهَا بِنَاءً عَلَى الْإِدْرَاكِ الْقَطْعِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً فِي نَفْسِهَا.
وَقَوْلُنَا: ” بِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ” احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي عُرْفِهِمْ فِقْهًا.
وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ بِالْأَحْكَامِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْفِقْهِ هُوَ الْعِلْمَ بِجُمْلَةِ الْأَحْكَامِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلْمُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِقْهًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُنَا: (الشَّرْعِيَّةُ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ، كَالْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ.
وَقَوْلُنَا: (الْفُرُوعِيَّةُ) احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ حُجَجًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِقْهًا فِي الْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ حُكْمًا شَرْعِيًّا نَظَرِيًّا لِكَوْنِهِ غَيْرَ فُرُوعِيٍّ.
وَقَوْلُنَا: (بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ) احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَعِلْمِ جِبْرِيلَ وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا عَلِمَهُ بِالْوَحْيِ، فَإِنَّ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ فِقْهًا فِي الْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ ; إِذْ لَيْسَ طَرِيقُ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِمْ بِذَلِكَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. (1) وَأَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ: فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مَا يَسْتَنِدُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ.
فَأُصُولُ الْفِقْهِ هِيَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ وَجِهَاتُ دَلَالَاتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَيْفِيَّةُ حَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ (2) لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، بِخِلَافِ الْخَاصَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ.

 

وَأَمَّا مَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَوْضُوعَ كُلِّ عِلْمٍ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِهِ الْعَارِضَةِ لِذَاتِهِ.

وَلَمَّا كَانَتْ مَبَاحِثُ الْأُصُولِيِّينَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِيهِ وَأَقْسَامِهَا وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْهَا عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ (3) كَانَتْ هِيَ مَوْضُوعَ عِلْمِ الْأُصُولِ.
وَأَمَّا غَايَةُ عِلْمِ الْأُصُولِ، فَالْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.
وَأَمَّا مَسَائِلُهُ، فَهِيَ أَحْوَالُ الْأَدِلَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِيهِ مِمَّا عَرَفْنَاهُ.

 

وَأَمَّا مَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ، فَعِلْمُ الْكَلَامِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

أَمَّا عِلْمُ الْكَلَامِ، فَلِتَوَقُّفِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ مُفِيدَةً لَهَا شَرْعًا عَلَى
_________
(1) أُولِعَ الْكَثِيرُ بِالتَّعَارِيفِ الْمُتَكَلَّفَةِ الَّتِي تُورِثُ الْعِبَارَةَ غُمُوضًا وَالْقَارِئَ لَهَا حَيْرَةً، وَمِنْ ذَلِكَ تَعْرِيفُ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهِمَا بِمَا ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى شَرْحِ التَّعْرِيفِ وَإِخْرَاجِ الْمُحْتَرَزَاتِ وَيُكْثِرُونَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابِ، وَلَا يَكَادُ يَخْلُصُ لَهُمْ تَعْرِيفٌ مِنَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ، وَالْوَاقِعُ أَصْدَقُ شَاهِدٍ.
(2) رَاجِعٌ لِأَجْزَاءِ التَّعْرِيفِ الثَّلَاثَةِ
(3) رَاجِعٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَأَقْسَامِهَا لَا إِلَى أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَأَقْسَامِهَا

مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَصِدْقِ رَسُولِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِ عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا عِلْمُ الْعَرَبِيَّةِ، فَلِتَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ دَلَالَاتِ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى مَعْرِفَةِ مَوْضُوعَاتِهَا لُغَةً مِنْ جِهَةِ: الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ، وَالْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ، وَالْإِطْلَاقِ، وَالتَّقْيِيدِ، وَالْحَذْفِ، وَالْإِضْمَارِ، وَالْمَنْطُوقِ، وَالْمَفْهُومِ، وَالِاقْتِضَاءِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالتَّنْبِيهِ، وَالْإِيمَاءِ، وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّاظِرَ فِي هَذَا الْعِلْمِ إِنَّمَا يَنْظُرُ فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَقَائِقِ الْأَحْكَامِ (1) لِيَتَصَوَّرَ الْقَصْدَ إِلَى إِثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا، وَأَنْ يَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ إِيضَاحِ الْمَسَائِلِ بِضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ وَكَثْرَةِ الشَّوَاهِدِ، وَيَتَأَهَّلُ بِالْبَحْثِ فِيهَا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
وَلَا نَقُولُ: إِنَّ اسْتِمْدَادَهُ مِنْ وُجُودِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَنَفْيِهَا فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ، فَإِنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا ثَبْتَ لَهَا بِغَيْرِ أَدِلَّتِهَا، فَلَوْ تَوَقَّفَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ دَوْرًا مُمْتَنَعًا.

 

وَأَمَّا مَبَادِئُهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَبَادِئَ كُلِّ عِلْمٍ هِيَ التَّصَوُّرَاتُ وَالتَّصْدِيقَاتُ الْمُسَلَّمَةِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَهِيَ غَيْرُ مُبَرْهَنَةٍ فِيهِ ; لِتَوَقُّفِ مَسَائِلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ عَلَيْهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسَلَّمَةً فِي نَفْسِهَا كَمَبَادِئِ الْعِلْمِ الْأَعْلَى (2) أَوْ غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ فِي نَفْسِهَا، بَلْ مَقْبُولَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَادَرَةِ أَوِ الْوَضْعِ، عَلَى أَنَّ تُبَرْهَنَ فِي عِلْمٍ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَمَا هَذِهِ الْمَبَادِئُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ؟ فَنَقُولُ:

قَدْ عُرِفَ أَنَّ اسْتِمْدَادَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ: الْكَلَامِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَبَادِئُهُ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَلْنَرْسِمْ فِي كُلِّ مَبْدَأٍ قِسْمًا:
_________
(1) أَيْ مُتَصَوِّرًا لِمَعَانِيهَا بِذِكْرِ تَعْرِيفِهَا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدُ: وَلَا نَقُولُ. . . إِلَخْ.
(2) عِلْمِ التَّوْحِيدِ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *