كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى ظَاهِرٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا بَيْنَهُمَا]
الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ
الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى ظَاهِرٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْبَيَانُ مَعَ الِاخْتِصَارِ أَوْ لَا مَعَ الِاخْتِصَارِ
فَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ
وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ لَا يُقْصَدَ مَعَهُ التَّنْبِيهُ أَوْ يُقْصَدَ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُضْمَرُ، وَالثَّانِي مَا بَيْنَهُمَا.
فَأَمَّا الِاسْمُ الظَّاهِرُ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ آخِرُهُ أَلِفًا وَلَا يَاءَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ أَوْ يَكُونُ.
فَالْأَوَّلُ هُوَ الِاسْمُ الصَّحِيحُ، فَإِنْ دَخَلَهُ حَرَكَةُ الْجَرِّ مَعَ التَّنْوِينِ فَهُوَ الْمُنْصَرِفُ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ كَأَحْمَدَ وَإِبْرَاهِيمَ.
وَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَلُّ، فَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ يَاءً قَبْلَهَا كَسْرَةٌ فَهُوَ الْمَنْقُوصُ كَالْقَاضِي وَالدَّاعِي، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ أَلِفٌ فَهُوَ الْمَقْصُورُ كَالدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ هَمْزَةٌ قَبْلَهَا أَلِفٌ فَهُوَ الْمَمْدُودُ كَالرِّدَاءِ وَالْكِسَاءِ.
وَأَمَّا الْمُضْمَرُ، فَهُوَ إِمَّا مُنْفَصِلٌ وَإِمَّا مُتَّصِلٌ، وَالْمُنْفَصِلُ نَحْوَ: أَنَا وَنَحْنُ وَهُوَ وَهِيَ وَنَحْوُهُ، وَالْمُتَّصِلُ نَحْوَ: فَعَلْتُ وَفَعَلْنَا، وَمَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ.
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا لَيْسَ مَعَهُ تَنْبِيهٌ وَلَا خِطَابٌ، أَوْ يَكُونُ.
________________________________________
فَالْأَوَّلُ نَحْوَ ذَا وَذَانِ وَذَيْنِ وَأُولَاءِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُفْرَدٍ فَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ التَّنْبِيهُ لَا غَيْرُ فَنَحْوُ هَذَا وَهَذَانِ، وَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ الْخِطَابُ فَنَحْوُ ذَاكَ وَذَانِكَ، وَإِنِ اجْتَمَعَا مَعَهُ فَنَحْوُ هَذَاكَ وَهَاتِيكَ.
ثُمَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ أُصُولٍ نَفْيًا لِلْإِجْحَافِ عَنْهُ مَعَ قُوَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ.
إِلَّا فِيمَا شَذَّ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَدٌ وَدَمٌ وَأَبٌ وَأَخٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْحَرْفُ الثَّالِثُ.
وَمَا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُضْمَرَةِ مُتَّصِلًا كَانَ مَنْ حَرْفٍ وَاحِدٍ كَالتَّاءِ مَنْ فَعَلْتَ.
وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا فَلَا يَكُونُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ حَرْفَيْنِ، يُبْتَدَأُ بِأَحَدِهِمَا وَيُوقَفُ عَلَى الْآخَرِ نَحْوُ: هُوَ وَهِيَ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَقَلِّ مِنْ حَرْفَيْنِ أَيْضًا نَحْوُ: ذَا وَذِي وَنَحْوُهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَوْ لَا بِعَيْنِهِ.
فَالْأَوَّلُ هُوَ ” الْمَعْرِفَةُ ” كَأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَالْمُضْمَرَاتِ، وَالْمُبْهَمَاتِ كَأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ، وَالْمَوْصُولَاتِ، وَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْرِيفِ، وَمَا أُضِيفَ إِلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ.
وَالثَّانِي هُوَ ” النَّكِرَةُ ” كَإِنْسَانٍ وَفَرَسٍ.
وَمَا أُلْحِقَ بِآخِرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ مَكْسُورُ مَا قَبْلَهَا، فَهُوَ الْمَنْسُوبُ كَالْهَاشِمِيِّ وَالْمَكِّيِّ وَنَحْوِهِ.
[الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ]
الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ
الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ. (1) أَمَّا ” الْحَقِيقَةُ ” فَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ هُوَ الثَّابِتُ اللَّازِمُ وَهُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، وَمِنْهُ يُقَالُ حَقَّ الشَّيْءُ حَقَّهُ، وَيُقَالُ حَقِيقَةُ الشَّيْءِ أَيْ ذَاتُهُ الثَّابِتَةُ اللَّازِمَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَيْ وَجَبَتْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ) أَيْ وَاجِبٌ عَلَيَّ.
_________
(1) انْظُرْ كَلَامَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ عَلَى تَقْسِيمِ اللَّفْظِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَالرِّسَالَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَكَلَامَ ابْنِ الْقِيَمِ عَلَى الْمَجَازِ فِي الصَّوَاعِقِ، الْجُزْءُ الثَّانِي.
________________________________________
وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحَقِيقِيَّةَ قَدْ يُطْلِقُهَا الْأُصُولِيُّونَ عَلَى لُغَوِيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ، وَاللُّغَوِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى وَضْعِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ، فَلْنَعْرِفْهَا ثُمَّ نَعُودُ إِلَى بَاقِي الْأَقْسَامِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهَا حُدُودٌ وَاهِيَةٌ يُسْتَغْنَى عَنْ تَضْيِيعِ الزَّمَانِ بِذِكْرِهَا.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي اللُّغَةِ، كَالْأَسَدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْحَيَوَانِ الشُّجَاعِ الْعَرِيضِ الْأَعَالِي، وَالْإِنْسَانِ فِي الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ.
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ اللُّغَوِيَّةُ فَهِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ وَهِيَ قِسْمَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ قَدْ وُضِعَ لِمَعْنًى عَامٍّ ثُمَّ يُخَصَّصُ بِعُرْفِ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، كَاخْتِصَاصِ لَفْظِ الدَّابَّةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ عُرْفًا وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِكُلِّ مَا دَبَّ، وَذَلِكَ إِمَّا لِسُرْعَةِ دَبِيبِهِ أَوْ كَثْرَةِ مُشَاهَدَتِهِ أَوْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنًى ثُمَّ يَشْتَهِرُ فِي عُرْفِ اسْتِعْمَالِهِمْ بِالْمَجَازِ الْخَارِجِ عَنِ الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ غَيْرُهُ، كَاسْمِ الْغَائِطِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْمَوْضِعِ الْمُطْمَئِنِّ مِنَ الْأَرْضِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدِ اشْتَهَرَ فِي عُرْفِهِمْ بِالْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ مِنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ غَيْرُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شُهْرَةُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْغَائِطِ مِنَ الْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ مِنَ الْإِنْسَانِ لِكَثْرَةِ مُبَاشَرَتِهِ وَغَلَبَةِ التَّخَاطُبِ بِهِ مَعَ الِاسْتِنْكَافِ مَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْخَاصِّ بِهِ لِنُفْرَةِ الطِّبَاعِ عَنْهُ، فَكَنُّوا عَنْهُ بِلَازِمِهِ أَوْ لِمَعْنًى آخَرَ.
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ اسْتِعْمَالُ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ فِيمَا كَانَ مَوْضُوعًا لَهُ أَوَّلًا فِي الشَّرْعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ وَمُسَمَّاهُ لَا يَعْرِفُهُمَا أَهْلُ اللُّغَةِ أَوْ هُمَا مَعْرُوفَانِ لَهُمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا ذَلِكَ الِاسْمَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ عَرَفُوا الْمَعْنَى وَلَمْ يَعْرِفُوا الِاسْمَ، أَوْ عَرَفُوا الِاسْمَ وَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَاسْمِ الصَّلَاةِ
________________________________________
وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، لَكِنَّ رُبَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ بِالْأَسْمَاءِ الدِّينِيَّةِ.
وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحُدَّ الْحَقِيقَةَ عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ جَمِيعَ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ قُلْتَ: ” الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي الِاصْطِلَاحِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ ” فَإِنَّهُ جَامِعٌ مَانِعٌ.
وَأَمَّا الْمَجَازُ فَمَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَوَازِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ: جَازَ فُلَانٌ مِنْ جِهَةِ كَذَا إِلَى كَذَا.
وَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ بِانْتِقَالِ اللَّفْظِ مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ إِلَى غَيْرِهَا.
وَقَبْلَ النَّظَرِ فِي تَحْدِيدِهِ يَجِبُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَكُونُ لِصَرْفِ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَعَنِ الْعُرْفِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا، كَمَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مُنْقَسِمَةً إِلَى: وَضْعِيَّةٍ، وَعُرْفِيَّةٍ، وَشَرْعِيَّةٍ.
وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: مَنِ اعْتَقَدَ كَوْنَ الْمَجَازِ وَضْعِيًّا قَالَ فِي حَدِّ الْمَجَازِ فِي اللُّغَةِ الْوَضْعِيَّةِ: ” هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَوَاضَعُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي اللُّغَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ “، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ كَوْنَهُ وَضْعِيًّا أَبْقَى الْحَدَّ بِحَالِهِ وَأَبْدَلَ الْمُتَوَاضَعَ عَلَيْهِ بِالْمُسْتَعْمَلِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى حَدُّ التَّجَوُّزِ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ.
وَإِنْ أَرَدْتَ التَّحْدِيدَ عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ قُلْتَ: ” هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَوَاضَعُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ أَوِ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي الِاصْطِلَاحِ الَّذِي بِهِ الْمُخَاطَبَةُ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ ” وَنَعْنِي بِالتَّعَلُّقِ بَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ التَّجَوُّزِ مُشَابِهًا لِمَحَلِّ الْحَقِيقَةِ فِي شَكْلِهِ وَصُورَتِهِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمُصَوِّرِ عَلَى الْحَائِطِ، أَوْ فِي صِفَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَى الْإِنْسَانِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي صِفَةِ الشَّجَاعَةِ لَا فِي صِفَةِ الْبَخْرِ لِخَفَائِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ حَقِيقَةً كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُعْتَقِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَيْهِ فِي الْغَالِبِ كَتَسْمِيَةِ الْعَصِيرِ خَمْرًا، أَوْ أَنَّهُ مُجَاوِرٌ لَهُ فِي الْغَالِبِ كَقَوْلِهِمْ: جَرَى النَّهْرُ وَالْمِيزَابُ وَنَحْوُهُ.
________________________________________
وَجَمِيعُ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ (1) ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْحَدَّ بِاللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَجَازِ اللَّفْظِيِّ لَا مُطْلَقًا، وَبِقَوْلِنَا: ” الْمُتَوَاضَعُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ أَوِ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا ” تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْحَقِيقَةِ.
وَبِقَوْلِنَا: ” لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ ” لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ ابْتِدَاءَ وَضْعٍ آخَرَ، وَكَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا لَا مَجَازًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْحَدِّ غَيْرُ جَامِعٍ ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ التَّجَوُّزُ بِتَخْصِيصِ الِاسْمِ بِبَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ فِي اللُّغَةِ كَتَخْصِيصِ لَفْظِ الدَّابَّةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، فَإِنَّهُ مَجَازٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا ; لِدُخُولِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الْمَدْلُولِ الْأَصْلِيِّ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا خُرُوجُ التَّجَوُّزِ بِزِيَادَةِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَإِنَّهُ مَجَازٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي إِفَادَةِ شَيْءٍ أَصْلًا، وَيَخْرُجُ أَيْضًا مِنْهُ التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْأَسَدِ عَنِ الْإِنْسَانِ حَالَةَ قَصْدِ تَعْظِيمِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ تَعْظِيمُهُ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ أَسَدًا لَا بِمُجَرَّدِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ مَا إِذَا جُعِلَ عَلَمًا لَهُ وَمَدْلُولُهُ إِذْ ذَاكَ، لَا بِكَوْنِ غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَتَدَخُلُ (2) فِيهِ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ كَلَفْظِ الْغَائِطِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ أَوَّلًا،، وَالْحَقِيقَةُ (3) مِنْ حَيْثُ هِيَ حَقِيقَةٌ لَا تَكُونُ مَجَازًا.
قُلْنَا: أَمَّا الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُطْلَقِ مُخَالِفَةٌ لِحَقِيقَةِ الْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ هَمَّا كَذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ لَفْظُ الدَّابَّةِ حَقِيقَةً فِي مُطْلَقِ دَابَّةٍ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّابَّةِ الْمُقَيَّدَةِ عَلَى الْخُصُوصِ يَكُونُ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا.
وَأَمَّا الْكَافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَلَيْسَتْ مُسْتَعْمَلَةً لِلِاسْمِيَّةِ كَوَضْعِهَا فِي اللُّغَةِ وَلَا لِلتَّشْبِيهِ، وَإِلَّا كَانَ مَعْنَاهَا لَيْسَ لِمِثْلِهِ مِثْلٌ ” وَهُوَ مِثْلٌ لِمَثِيلِهِ ” فَكَانَ تَنَاقُضًا فَكَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً لَا فِيمَا لَهُ فِي اللُّغَةِ أَوَّلًا، فَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْحَدِّ.
_________
(1) هِيَ الْعَلَاقَاتُ الَّتِي بَيْنَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مِنْ تَشْبِيهٍ وَغَيْرِهِ.
(2) التَّرْدِيدُ بَأَوْ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمَجَازَ مَوْضُوعٌ أَوَّلًا.
(3) اعْتِرَاضٌ آخَرُ بِأَنَّ التَّعْرِيفَ غَيْرُ مَانِعٍ.
________________________________________
وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْأَسَدِ عَنِ الْإِنْسَانِ تَعْظِيمًا لَهُ، فَلَيْسَ لِتَقْدِيرِ مُسَمَّى الْأَسَدِ الْحَقِيقِيِّ فِيهِ بَلْ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي صِفَتِهِ مِنَ الشَّجَاعَةِ. وَالْحَقِيقَةُ (1) الْعُرْفِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ بِالنَّظَرِ إِلَى تَوَاضُعِ أَهْلِ الْعُرْفِ عَلَيْهَا فَلَا (2) تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مَجَازًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا وَلَا تَنَاقُضَ، وَإِذَا عُرِفَ (3) مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَمَهْمَا وَرَدَ لَفْظٌ فِي مَعْنًى وَتَرَدَّدَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ (4) فَقَدْ يُعْرَفُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِالنَّقْلِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقْلٌ فَقَدْ يُعْرَفُ كَوْنُهُ مَجَازًا بِصِحَّةِ نَفْيِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيُعْرَفُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً بِعَدَمِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ سُمِّيَ مِنَ النَّاسِ حِمَارًا لِبَلَادَتِهِ إِنَّهُ لَيْسَ بِحِمَارٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِمَا كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مَجَازًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَدْلُولَاتِ، فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَغَيْرُهُ هُوَ الْمَجَازُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَطَّرِدُ فِي الْمَجَازِ الْمَنْقُولِ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ، فَالْأَمْرُ فِيهِمَا بِالضِّدِّ مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ وَيَنْتَقِضُ أَيْضًا بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولَاتِهِ مَعَ عَدَمِ تَبَادُرِ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ.
قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَارِدَ إِذَا تَبَادَرَ مَدْلُولُهُ إِلَى الذِّهْنِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، فَإِنْ عُلِمَ كَوْنُهُ مَجَازًا فَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْغَالِبِ، وَإِدْرَاجُ النَّادِرِ تَحْتَ الْغَالِبِ أَوْلَى. وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَحَامِلِهِ فَقَدِ انْدَفَعَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا وَاحِدًا مِنْ مَدْلُولَاتِهِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ فَهُوَ
_________
(1) صَوَابُهُ: فَالْحَقِيقَةُ لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ.
(2) بَدَءَ الْجَوَابَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِالْمَنْعِ.
(3) الصَّوَابُ حَذْفُ الْفَاءِ فَإِنَّهُ خَبَرُ (حَقِيقَةً) “.
(4) أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى عَلَامَاتِ الْمَجَازِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنِ الْحَقِيقَةِ – انْظُرْ كِتَابَ ” الْإِيمَانِ ” جُزْءُ 7 مِنَ الْفَتَاوَى.
________________________________________
حَقِيقَةٌ فِي الْوَاحِدِ عَلَى الْبَدَلِ لَا فِي الْوَاحِدِ عَيْنًا، وَالَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ فَهُوَ مُتَبَادَرٌ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ عَلَى الْبَدَلِ، وَالَّذِي لَمْ يَتَبَادَرْ إِلَى الْفَهْمِ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ غَيْرُ حَقِيقَةٍ فِيهِ (1) ، وَفِيهِ دِقَّةٌ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ مُطَّرِدًا فِي مَدْلُولِهِ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ الْمَنْعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالشَّارِعُ مِنَ الِاطِّرَادِ، وَذَلِكَ كَتَسْمِيَةِ الرَّجُلِ الطَّوِيلِ نَخْلَةً إِذْ هُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي كُلِّ طَوِيلٍ.
فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ الِاطِّرَادِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّجَوُّزِ، فَإِنَّ اسْمَ السَّخِيِّ حَقِيقَةٌ فِي الْكَرِيمِ، وَالْفَاضِلُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَالِمِ، وَهَذَانِ الْمَدْلُولَانِ مَوْجُودَانِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُقَالُ لَهُ سَخِيٌّ وَلَا فَاضِلٌ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْقَارُورَةِ حَقِيقَةٌ فِي الزُّجَاجَةِ الْمَخْصُوصَةِ لِكَوْنِهَا مَقَرًّا لِلْمَائِعَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَرَّةِ وَالْكُوزِ، وَلَا يُسَمَّى قَارُورَةً وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الِاطِّرَادَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِجَوَازِ اطِّرَادِ بَعْضِ الْمَجَازَاتِ وَعَدَمِ الِاطِّرَادِ فِي بَعْضِهَا كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّعْمِيمُ.
قُلْنَا: أَمَّا الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ، فَقَدِ انْدَفَعَ بِقَوْلِنَا: (إِذَا لَمْ يُوجَدُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ وَلَا لُغَوِيٌّ) وَفِيمَا أَوْرَدَ مِنَ الصُّوَرِ قَدْ وُجِدَ الْمَنْعُ وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الِاسْمُ مُطَّرِدًا فِيهَا. وَأَمَّا الثَّانِي، فَإِنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ الِاطِّرَادَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ لِيَلْزَمَ مَا قِيلَ، بَلِ الْمُدَّعَى أَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ دَلِيلُ الْمَجَازِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ قَدِ اتُّفِقَ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ الْمُسَمَّى الْمَذْكُورِ، وَجَمْعُهُ مُخَالِفٌ لِجَمْعِ الْمُسَمَّى الْمَذْكُورِ، فَنَعْلَمُ أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ.
وَذَلِكَ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ.
وَعَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}
_________
(1) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْمُشْتَرَكِ وَقَعَ مِنْ مَصْدَرٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِمَعْنًى مِنْ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى الْبَدَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَبْحَثِ جَوَازِ الْمُشْتَرَكِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَضْعِ قَبَائِلَ، مَثَلًا كُلُّ قَبِيلَةٍ تَضَعُهُ لِمَعْنًى دُونَ عِلْمٍ بِوَضْعِ الْأُخْرَى، وَعَلَيْهِ لَا يَصِحُّ الْجَوَابُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ فِي مِثْلِ مَا ذُكِرَ لِوَاحِدٍ عَلَى الْبَدَلِ حَتَّى يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِ مَجَازًا فِي الْمَعْنَيَيْنِ، بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَالْإِيهَامُ طَارِئٌ بَعْدَ الْوَضْعِ يَزُولُ بِالْقَرِينَةِ.
________________________________________
فَإِنَّ جَمْعَهُ فِي جِهَةِ الْحَقِيقَةِ أَوَامِرُ، وَفِي الْفِعْلِ أُمُورٌ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّ الْمَجَازَ لَا يُجْمَعُ وَالْحَقِيقَةَ تُجْمَعُ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ ; إِذِ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْحِمَارِ عَنِ الْبَلِيدِ مَعَ صِحَّةِ تَثْنِيَتِهِ وَجَمْعِهِ حَيْثُ يُقَالُ: حِمَارَانِ وَحُمْرٌ.
فَإِنْ قِيلَ: اخْتِلَافُ الْجَمْعِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّجَوُّزِ فِي الْمُسَمَّى الْمَذْكُورِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِ، وَاخْتِلَافُ الْجَمْعِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْمُسَمَّى. (1) قُلْنَا: الْجَمْعُ إِنَّمَا هُوَ لِلِاسْمِ لَا لِلْمُسَمَّى، فَاخْتِلَافُهُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي اخْتِلَافِ الْجَمْعِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لِصِفَةٍ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُشْتَقَّ لِمَوْضُوعِهَا مِنْهَا اسْمٌ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ الْمَنْعِ مِنَ الِاشْتِقَاقِ، فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا، وَذَلِكَ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَقُّ لِمَنْ قَامَ بِهِ مِنْهُ اسْمُ الْآمِرِ، بِخِلَافِ اسْمِ الْقَارُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْكُوزِ وَالْجَرَّةِ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ مِنْ قَرَارِ الْمَائِعِ فِيهِ مَعَ كَوْنِ اسْمِ الْقَرَارِ فِيهِ حَقِيقَةً كَمَا اشْتُقَّ فِي الزُّجَاجَةِ الْمَخْصُوصَةِ لِوُرُودِ الْمَنْعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ. (2)
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِاسْمِ الرَّائِحَةِ الْقَائِمَةِ بِالْجِسْمِ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ مَعَ عَدَمِ الِاشْتِقَاقِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلْجِسْمِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الرَّائِحَةُ مُتَرَوِّحٌ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مُضَافًا إِلَى شَيْءٍ حَقِيقَةً وَهُوَ مُتَعَذِّرُ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فَإِنْ قِيلَ: لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا فِي الْغَيْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا، وَتَعَذُّرُ حَمْلِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى بَعْضِ مَحَامِلِهِ لَا يُوجِبُ جَعْلَهُ مَجَازًا فِي الْبَاقِي.
قُلْنَا: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِالِاشْتِرَاكِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالْمَجَازُ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ إِلَّا أَنَّ الْمَحْذُورَ فِيهِ أَدْنَى مِنْ مَحْذُورِ الِاشْتِرَاكِ عَلَى مَا يَأْتِي
_________
(1) الْجَمْعُ لِلِاسْمِ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مُسَمَّاهُ، فَكَانَ لِاخْتِلَافِ الْمُسَمَّى أَثَرُهُ فِي اخْتِلَافِ الْجَمْعِ، وَلَوِ اعْتُبِرَ الِاسْمُ دُونَ مَعْنَاهُ لَكَانَ مُهْمَلًا لَا يُوضَعُ فِي التَّرَاكِيبِ لَا جَمْعًا وَلَا مُفْرَدًا.
(2) انْظُرْ ص122 ج 7 مِنْ مَجْمُوعَةِ الْفَتَاوَى ” كِتَابِ الْإِيمَانِ “.
________________________________________
فَكَانَ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: مَهْمَا ثَبَتَ كَوْنُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي بَعْضِ الْمَعَانِي لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِيمَا عَدَاهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَعْنًى مُشْتَرَكٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولًا لِلَّفْظِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أُلِفَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَعْمَلُوا لَفْظًا بِإِزَاءِ مَعْنًى أَطْلَقُوهُ إِطْلَاقًا، وَإِذَا اسْتَعْمَلُوهُ بِإِزَاءِ غَيْرِهِ قَرَنُوا بِهِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيمَا أَطْلَقُوهُ مَجَازًا فِي الْغَيْرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ وَضْعَ الْكَلَامِ لِلْمَعْنَى إِنَّمَا كَانَ لِيُكْتَفَى بِهِ فِي الدَّلَالَةِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ لِكَوْنِهَا أَغْلَبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي مَعْنًى، وَلِذَلِكَ الْمَعْنَى مُتَعَلَّقٌ فَإِطْلَاقُهُ بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الْمُتَعَلَّقُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا فِيهِ، كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْإِيجَادِ فَإِنَّ لَهَا مَقْدُورًا، وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ فِي قَوْلِهِمْ: ” انْظُرْ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ ” لَا مَقْدُورَ لَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: التَّعَلُّقُ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقِيًّا بَلْ مِنْ تَوَابِعِ الْمُسَمَّى، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ اخْتِلَافِ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ الِاسْمُ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي الْآخَرِ لِجَوَازِ الِاشْتِرَاكِ، فَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى مِمَّا يُتَوَقَّفُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِمُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُتَوَقِّفَ مَجَازٌ وَالْآخِرَ غَيْرُ مَجَازٍ.
وَتَشْتَرِكُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي امْتِنَاعِ اتِّصَافِ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ بِهِمَا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَالْمَجَازُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا. وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الِاسْمِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ مَوْضُوعًا لِشَيْءٍ قَبْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، وَأَسْمَاءُ الْأَعْلَامِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُسْتَعْمِلَهَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا فِيمَا وَضَعَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ لَهُ أَوَّلًا، وَلَا فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ وَضْعِهِمْ، فَلَا تَكُونُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.
________________________________________
وَعَلَى هَذَا فَالْأَلْفَاظُ الْمَوْضُوعَةُ أَوَّلًا فِي ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ فِي اللُّغَةِ لَا تُوصَفُ بِكَوْنِهَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَإِلَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ الْوَضْعِ وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ وَضْعٍ ابْتِدَائِيٍّ حَتَّى الْأَسْمَاءِ الْمُخْتَرَعَةِ ابْتِدَاءً لِأَرْبَابِ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ لِأَدَوَاتِهِمْ وَآلَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِاسْتِعْمَالِهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَبِهَذَا يُعْلَمُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ مَجَازٍ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا عَكْسَ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ غَايَةَ الْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَمَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ أَوَّلًا لَيْسَ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا عَلَى مَا عُرِفَ.
وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يُعْلَمُ أَنَّ تَسْمِيَةَ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا حَقِيقَةٌ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَمْرِ الْعُرْفِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ مَجَازٌ بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ مَنْقُولًا مِنَ الْوُجُوبِ وَالثُّبُوتِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْحَقِيقَةِ أَوَّلًا فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ.
وَتَشْتَرِكُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ أَيْضًا فِي أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَا عَدَا الْوَضْعَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا فِيهِ.