تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الْقِسْمَةُ الرَّابِعَةُ الِاسْمُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ يَصِحُّ

الْقِسْمَةُ الرَّابِعَةُ الِاسْمُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ يَصِحُّ

  • بواسطة

 

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)

 


[الْقِسْمَةُ الرَّابِعَةُ الِاسْمُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ يَصِحُّ]

 

[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى بَقَاءَ الصِّفَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا هَلْ يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً أَمْ لَا]

 

الْقِسْمَةُ الرَّابِعَةُ

الِاسْمُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ يَصِحُّ.

فَالْأَوَّلُ: اسْمُ الْعَلَمِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو.

وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ صِفَةً أَوْ هُوَ صِفَةٌ.

وَالْأَوَّلُ هُوَ اسْمُ الْجِنْسِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، أَوْ غَيْرَ عَيْنٍ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ.

وَالصِّفَةُ كَالْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ، وَهُوَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ، وَالْمُشْتَقُّ هُوَ مَا غُيِّرَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَانِي عَنْ شَكْلِهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فِي الْحُرُوفِ أَوِ الْحَرَكَاتِ أَوْ فِيهِمَا، وَجُعِلَ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَعَلَى مَوْضُوعٍ لَهُ غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَتَسْمِيَةِ الْجِسْمِ الَّذِي قَامَ بِهِ السَّوَادُ أَسْوَدَ، وَالْبَيَاضُ أَبْيَضَ وَنَحْوِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَقُّ إِلَّا كَذَلِكَ.

وَهَلْ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا بِمَا لَهُ الِاشْتِقَاقُ؟ وَهَلْ يَلْزَمُ الِاشْتِقَاقُ مِنَ الصِّفَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِمَا قَامَتْ بِهِ؟ فَذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَهُ أَصْحَابُنَا وَنَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ، حَيْثُ إِنَّهُمْ جَوَّزُوا اشْتِقَاقَ اسْمِ الْمُتَكَلِّمِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ كَلَامٍ مَخْلُوقٍ لَهُ غَيْرِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ، وَلَمْ يُوجِبُوا الِاشْتِقَاقَ مِنْهُ لِلْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ، وَقَدْ عَرَفْنَا مَأْخَذَ الْخِلَافِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَمَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْهُ فِي ” أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ ” فَلْيُلْتَمَسْ. (1) مَسَائِلُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى

فِي أَنَّ بَقَاءَ الصِّفَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا هَلْ يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً أَمْ لَا؟ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ، وَقَدْ فَصَلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَا هُوَ مُمْكِنُ الْحُصُولِ وَمَا لَيْسَ مُمْكِنًا، فَاشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي الْمُمْكِنِ دُونَ غَيْرِهِ.

_________

(1) يُلْتَمَسُ الصَّحِيحُ بِالرُّجُوعِ إِلَى كُتُبِ السَّلَفِ صِيَانَةً لِلْعَقِيدَةِ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيَّةُ مِنْ إِثْبَاتِ كَلَامٍ نَفْسِيٍّ قَدِيمٍ لِلَّهِ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ وَلَا. . . .

(1/54)

________________________________________

احْتَجَّ الشَّارِطُونَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِطْلَاقُ الضَّارِبِ عَلَى شَخْصٍ مَا حَقِيقَةً بَعْدَ انْقِضَائِهِ (1) صِفَةِ الضَّرْبِ مِنْهُ لَمَا صَحَّ نَفْيُهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِضَارِبٍ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صِحَّةُ سَلْبِ الضَّارِبِيَّةِ عَنْهُ فِي الْحَالِ، إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْهُ سَلْبُهَا عَنْهُ مُطْلَقًا ; إِذْ (2) لَوْ لَمْ يَكُنْ أَعَمَّ مِنَ الضَّارِبِيَّةِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ سَلْبِ الْأَخَصِّ سَلْبُ الْأَعَمِّ.

فَإِنْ قِيلَ: ” قَوْلُ الْقَائِلِ هَذَا ضَارِبٌ ” لَا يُفِيدُ سِوَى كَوْنِهِ ضَارِبًا فِي الْحَالِ، فَإِذَا سُلِّمَ صِحَّةُ سَلْبِهِ فِي الْحَالِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

قُلْنَا: هَذَا بِعَيْنِهِ إِعَادَةُ دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، بَلِ الضَّارِبُ هُوَ مَنْ حَصَلَ لَهُ الضَّرْبُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ حُصُولِ الضَّرْبِ لَهُ فِي الْحَالِ، فَالضَّارِبُ أَعَمُّ مِنَ الضَّارِبِ فِي الْحَالِ.

فَإِنْ قِيلَ: وَكَمَا أَنَّ حُصُولَ الضَّرْبِ أَعَمُّ مِنْ حُصُولِ الضَّرْبِ فِي الْحَالِ ; لِانْقِسَامِهِ إِلَى الْمَاضِي وَالْحَالِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا ; لِانْقِسَامِهِ فِي الْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ صَدَقَ اسْمُ الضَّارِبِ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، فَلْيَكُنِ اسْمَ الضَّارِبِ حَقِيقَةً قَبْلَ وُجُودِ الضَّرْبِ مِنْهُ، كَمَا كَانَ حَقِيقَةً بَعْدَ زَوَالِ الضَّرْبِ.

قُلْنَا: الضَّارِبُ حَقِيقَةً مَنْ حَصَلَ مِنْهُ الضَّرْبُ، وَهَذَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ فِي الْمَاضِي أَوِ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَنْ سَيُوجَدُ مِنْهُ الضَّرْبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَصَلَ مِنْهُ الضَّرْبُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ الضَّارِبِ حَقِيقَةً عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ، صِدْقُهُ حَقِيقَةً عَلَى مَنْ سَيُوجَدُ مِنْهُ الضَّرْبُ وَلَمْ يُوجَدْ.

وَاحْتَجَّ النَّافُونَ بِوُجُوهٍ:

_________

(1) الصَّوَابُ انْقِضَاءِ

(2) الصَّوَابُ أَنْ

(1/55)

________________________________________

الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: إِذَا كَانَ اسْمُ الْفَاعِلِ بِتَقْدِيرِ الْمَاضِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ، فَلَا يُقَالُ ضَارِبُ زَيْدًا أَمْسِ كَمَا يُقَالُ بِتَقْدِيرِ الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ يُقَالُ: ضَارِبٌ زَيْدٍ، أَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَ الْفَاعِلِ بِاعْتِبَارِ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الْفِعْلِ الْمَاضِي.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ وُجُودُ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الِاشْتِقَاقِ حَقِيقَةً لَمَا كَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخْبِرِ حَقِيقَةً أَصْلًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْكَلَامِ مِنْهُ وَالْخَبَرِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِمَجْمُوعِ حُرُوفِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَلَا وُجُودَ لِلْحُرُوفِ السَّابِقَةِ مَعَ الْحَرْفِ الْأَخِيرِ أَصْلًا، وَلَا خَفَاءَ بِامْتِنَاعِ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا حَقِيقَةً قَبْلَ وُجُودِ الْكَلَامِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً عِنْدَ آخَرِ جُزْءٍ مِنَ الْكَلَامِ وَالْخَبَرِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْكَلَامِ، وَالْخَبَرُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَّا كَانَ حَقِيقَةً أَصْلًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَإِلَّا لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمٍ إِذْ هُوَ لَازِمُ نَفْيِ الْحَقِيقَةِ، وَلَمَا حَنَثَ مَنْ حَلَفَ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَتَكَلَّمْ حَقِيقَةً وَإِنَّنِي لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا حَقِيقَةً إِذَا كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ أَوْ كَلَّمَهُ.

الثَّالِثُ: إِنَّ الضَّارِبَ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ الضَّرْبُ، وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ فِي الْمَاضِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مِنْهُ الضَّرْبُ فَكَانَ ضَارِبًا حَقِيقَةً.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: اسْمُ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِتَقْدِيرِ الْمُسْتَقْبَلِ عَمِلَ عَمَلَ الْفِعْلِ، فَقِيلَ: ضَارِبٌ زَيْدًا غَدًا وَلَيْسَ ذَلِكَ حَقِيقَةً بِالِاتِّفَاقِ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَغَيْرُ لَازِمٍ أَيْضًا ; إِذْ لِلْخِصْمِ أَنْ يَقُولَ: شَرْطُ كَوْنِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ وُجُودُ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَوُجُودُ آخَرِ جُزْءٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْكَلَامِ وَالْخَبَرِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْمَ الضَّارِبِ حَقِيقَةً عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ مُطْلَقًا، بَلْ مَنِ الضَّرْبُ حَاصِلٌ مِنْهُ حَالَةَ تَسْمِيَتِهِ ضَارِبًا، ثُمَّ يَلْزَمُ تَسْمِيَةُ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ كَفَرَةً ; لِمَا وُجِدَ مِنْهُمْ مَنِ الْكُفْرِ السَّابِقِ، وَالْقَائِمِ قَاعِدًا، وَالْقَاعِدِ قَائِمًا ; لِمَا وُجِدَ مِنْهُ مِنَ الْقُعُودِ وَالْقِيَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ اللِّسَانِ.

هَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَيْكَ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ.

(1/56)

________________________________________

 

[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ هَلْ ثَبَتَتْ قِيَاسًا أَمْ لَا]

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ

اخْتَلَفُوا فِي الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ: هَلْ ثَبَتَتْ قِيَاسًا أَمْ لَا؟ فَأَثْبَتَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنْكَرَهُ مُعْظَمُ أَصْحَابِنَا وَالْحَنَفِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى امْتِنَاعِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ وَأَسْمَاءِ الصِّفَاتِ.

أَمَّا أَسْمَاءُ الْأَعْلَامِ؛ فَلِكَوْنِهَا غَيْرَ مَوْضُوعَةٍ لِمَعَانٍ مُوجِبَةٍ لَهَا، وَالْقِيَاسُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْنًى جَامِعٍ: إِمَّا مُعَرِّفٌ وَإِمَّا دَاعٍ، وَإِذَا قِيلَ فِي حَقِّ الْأَشْخَاصِ فِي زَمَانِنَا: هَذَا سِيبَوَيْهِ وَهَذَا جَالِينُوسُ، فَلَيْسَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فِي التَّسْمِيَةِ، بَلْ مَعْنَاهُ: هَذَا حَافِظُ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَعِلْمِ جَالِينُوسَ بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ، كَمَا يُقَالُ: قَرَأْتُ سِيبَوَيْهِ وَالْمُرَادُ بِهِ كِتَابُهُ.

وَأَمَّا أَسْمَاءُ الصِّفَاتِ الْمَوْضُوعَةُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ كَالْعَالِمِ وَكَالْقَادِرِ، فَلِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الِاطِّرَادِ ; نَظَرًا إِلَى تَحَقُّقِ مَعْنَى الِاسْمِ، فَإِنَّ مُسَمَّى الْعَالِمِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، فَكَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَالِمِ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ لَا بِالْقِيَاسِ ; إِذْ لَيْسَ قِيَاسُ أَحَدِ الْمُسَمَّيَيْنِ (1) الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْمُسَمَّى عَلَى الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مُسْتَلْزِمَةً لِمَعَانٍ فِي مَحَالِّهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، وَذَلِكَ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى النَّبِيذِ بِوَاسِطَةِ مُشَارَكَتِهِ لِلْمُعْتَصَرِ مِنَ الْعِنَبِ فِي الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الْمُخَمِّرَةِ عَلَى الْعَقْلِ، وَكَإِطْلَاقِ اسْمِ السَّارِقِ عَلَى النَّبَّاشِ بِوَاسِطَةِ مُشَارَكَتِهِ لِلسَّارِقِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ فِي أَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، وَكَإِطْلَاقِ اسْمِ الزَّانِي عَلَى اللَّائِطِ بِوَاسِطَةِ مُشَارَكَتِهِ لِلزَّانِي فِي إِيلَاجِ الْفَرَجِ الْمُحَرَّمِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا قِيَاسَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُنْقَلُ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ وَضَعُوا اسْمَ الْخَمْرِ لِكُلِّ مُسْكِرٍ، أَوْ لِلْمُعْتَصَرِ مِنَ الْعِنَبِ خَاصَّةً، أَوْ لَمْ يُنْقَلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَاسْمُ الْخَمْرِ ثَابِتٌ لِلنَّبِيذِ بِالتَّوْقِيفِ لَا بِالْقِيَاسِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَالتَّعْدِيَةُ تَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ لُغَتِهِمْ.

_________

(1) أَيِ الْجُزْئَيْنِ

(1/57)

________________________________________

وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ الَّذِي بِهِ التَّعْدِيَةُ دَلِيلًا عَلَى التَّعْدِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا بِدَلِيلِ مَا صَرَّحَ بِذَلِكَ، وَإِذَا احْتَمَلَ، وَاحْتَمَلَ فَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَالتَّعْدِيَةُ تَكُونُ مُمْتَنِعَةً.

فَإِنْ قِيلَ: الْوَصْفُ الْجَامِعُ وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا، غَيْرَ أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهِ دَلِيلًا أَظْهَرَ، وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْمَ دَارَ مَعَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَالدَّوَرَانُ دَلِيلُ كَوْنِ وُجُودِ الْوَصْفِ أَمَارَةً عَلَى الِاسْمِ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ وُجُودُ الِاسْمِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا سَمَّتْ بِاسْمِ الْفَرَسِ، وَالْإِنْسَانِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِمْ، وَكَذَلِكَ وَصَفُوا الْفَاعِلَ فِي زَمَانِهِمْ بِأَنَّهُ رُفِعَ وَالْمَفْعُولَ نُصِبَ، وَإِنَّمَا وَصَفُوا بَعْضَ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالِاسْمُ مُطَّرِدٌ فِي زَمَانِنَا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ وَفَرَسٍ وَفَاعِلٍ وَمَفْعُولٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ.

الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ، ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ بَاطِلٌ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْأَقْسَامِ بِعَيْنِهِ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ صَحِيحٌ مُتَّبَعٌ، وَهُوَ أَيْضًا عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ سَمَّى النَّبِيذَ خَمْرًا وَأَوْجَبَ الْحَدَّ بِشُرْبِهِ وَأَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى اللَّائِطِ قِيَاسًا عَلَى الزِّنَى، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ قِيَاسًا عَلَى الْيَمِينِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَأَوَّلَ حَدِيثَ ( «الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ» ) بِحَمْلِهِ عَلَى الشَّرِيكِ فِي الْمَمَرِّ، وَقَالَ: الْعَرَبُ تُسَمِّي الزَّوْجَةَ جَارًا فَالشَّرِيكُ أَوْلَى.

قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ: أَنَّ دَوَرَانَ الِاسْمِ مَعَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وُجُودًا وَعَدَمًا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لِلِاسْمِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ دَاعِيًا إِلَيْهِ وَبَاعِثًا، بَلْ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَبِمَعْنَى كَوْنِهِ أَمَارَةً، وَكَمَا دَارَ مَعَ اسْمِ الْخَمْرِ مَعَ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ دَارَ مَعَ خُصُوصِ شَدَّةِ الْمُعْتَصَرِ مِنَ الْعِنَبِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النَّبِيذِ فَلَا قِيَاسَ،

(1/58)

________________________________________

ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقَضٌ بِتَسْمِيَةِ الْعَرَبِ لِلرَّجُلِ الطَّوِيلِ نَخْلَةً، وَالْفَرَسِ الْأَسْوَدِ أَدْهَمَ وَالْمُلَوَّنِ بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ أَبْلَقَ، وَالِاسْمُ فِيهِ دَائِرٌ مَعَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُسَمُّوا الْفَرَسَ وَالْجَمَلَ لِطُولِهِ نَخْلَةً، وَلَا الْإِنْسَانَ الْمُسْوَدَّ أَدْهَمَ، وَلَا الْمُتَلَوِّنَ مِنْ بَاقِي الْحَيَوَانَاتِ بِالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ أَبْلَقَ، وَكُلُّ مَا هُوَ جَوَابُهُمْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ جَوَابُنَا فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ.

وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَا وَقَعَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنَدُ التَّسْمِيَةِ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْقِيَاسَ، بَلِ الْعَرَبُ وَضَعَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ لِلْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ لَا أَنَّهَا وَضَعَتْهَا لِلْمُعَيَّنِ ثُمَّ طُرِدَ الْقِيَاسُ فِي الْبَاقِي.

وَجَوَابُ الثَّالِثِ: بِمَنْعِ الْعُمُومِ فِي كُلِّ اعْتِبَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي الْمُعْتَبَرِ (1) ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا النَّقْضُ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فَغَيْرُ مُتَّجِهٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اجْتِمَاعَ الْأُمَّةِ مِنَ السَّلَفِ عِنْدَنَا أَوْجَبَ الْإِلْحَاقَ عِنْدَ ظَنِّ الِاشْتِرَاكِ فِي عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعٌ لَمْ يَكُنْ قِيَاسٌ، وَلَا إِجْمَاعَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْأُمَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْإِلْحَاقِ، فَلَا قِيَاسَ.

وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّبِيذَ خَمْرًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى الْقِيَاسِ، بَلْ إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا) (2) ، وَهُوَ تَوْقِيفٌ لَا قِيَاسٌ، وَإِيجَابُهُ لِلْحَدِّ فِي اللِّوَاطِ وَفِي النَّبْشِ، لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِ اللِّوَاطِ زِنًى وَلَا لِكَوْنِ النَّبْشِ سَرِقَةً، بَلْ لِمُسَاوَاةِ اللِّوَاطِ لِلزِّنَى وَالنَّبْشِ لِلسَّرِقَةِ فِي الْمَفْسَدَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ.

وَأَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ، فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ يَمِينًا لَا بِالْقِيَاسِ بَلْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْيَمَنُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ) (3) فَكَانَ ذَلِكَ بِالتَّوْقِيفِ.

_________

(1) لِأَنَّ قَوْلَهُ ” فَاعْتَبِرُوا ” فِعْلٌ فِي الْإِثْبَاتِ، فَلَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يَا أُولِي الْأَلْبَابِ فَإِنَّهُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ.

(2) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: (وَإِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا) . وَفِي سَنَدِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، صَدُوقٌ لَيِّنُ الْحِفْظِ

(3) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: مُنْكَرٌ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ بِلَفْظِ: الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بِلَاقِعَ.

(1/59)

________________________________________

وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشَّافِعِيِّ لِلشَّرِيكِ جَارًا، إِنَّمَا كَانَ بِالتَّوْقِيفِ لَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الزَّوْجَةَ لِقَطْعِ الِاسْتِبْعَادِ فِي تَسْمِيَةِ الشَّرِيكِ جَارًا لِزِيَادَةِ قُرْبِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَارِ الْمُلَاصِقِ، فَقَالَ: الزَّوْجَةُ أَقْرَبُ مِنَ الشَّرِيكِ وَهِيَ جَارٌ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهَا، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا بِالْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَنَّ غَيْرَهُ مُخَالِفٌ لَهُ، وَالْحَقُّ مِنْ قَوْلَيْهِمَا أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *