كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةُ تَذْكِيرٍ وَلَا تَأْنِيثٍ هَلْ يَعُمُّ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ]
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ
إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةُ تَذْكِيرٍ وَلَا تَأْنِيثٍ سِوَى لَفْظِ الْجَمْعِ مِثْلُ (مَنْ) فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ هَلْ يَعُمُّ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ.
وَالْمُخْتَارُ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ دُخُولُ الْمُؤَنَّثِ فِيهِ.
وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِعَبْدِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَكْرِمْهُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُلَامُ بِإِخْرَاجِ الدَّاخِلِ مِنَ الْمُؤَنَّثَاتِ عَنِ الْإِكْرَامِ وَيُلَامُ السَّيِّدُ بِلَوْمِ الْعَبْدِ بِإِكْرَامِهِنَّ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي النَّذْرِ وَالْوَصِيَّةِ.
وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ مَا فُهِمَ مِنَ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِ لَا مَجَازًا.
فَإِنْ قِيلَ: التَّعْمِيمُ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ إِنَّمَا فُهِمَ مِنَ الْحَالِ، وَهِيَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ مُقَابَلَةِ الدَّاخِلِ إِلَى دَارِ الْإِنْسَانِ وَالْحُلُولِ فِي مَنْزِلِهِ بِالْإِكْرَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ لَا أَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً.
قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ بِمَا لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَهِنْهُ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: مَنْ قَالَ لَكَ: أَلِفٌ فَقُلْ لَهُ: (بَ) ، فَإِنَّهُ لَا قَرِينَةَ أَصْلًا، وَالْعُمُومُ مَفْهُومٌ مِنْهُ فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِ (1) .
(1) إِنَّمَا قَالَ: تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ ; لِأَنَّهُ اخْتَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِصِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْخُصُوصِ وَالتَّوَقُّفَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَبْنِي اخْتِيَارَهُ هُنَا عَلَى مَا رَدَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ؟ وَكَيْفَ يَحْتَجُّ لِاخْتِيَارِهِ الْعُمُومَ هُنَا بِمَا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَنِ احْتَجَّ بِهِ لِعُمُومِ (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ؟ أُرَى مَصْدَرَ ذَلِكَ الْحَيْرَةَ وَالْوَلَعَ بِالْجَدَلِ وَالتَّأْلِيفَ لِلتَّأْلِيفِ لَا عَنْ عَقِيدَةٍ أَوِ اقْتِنَاعٍ وَلَا لِإِثْبَاتِ حَقٍّ أَوْ إِقْنَاعٍ، قَارِنْ بَيْنَ اسْتِدْلَالِهِ وَمُنَاقَشَتِهِ الْأَدِلَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ لِيَتَبَيَّنَ لَكَ مَنْهَجُهُ الْعِلْمِيُّ
[الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ هل يدخل الْعَبْدِ تَحْتَ التَّكَالِيفِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ الْمُطْقَلَةِ كَلَفْظِ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ]
الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ
اخْتَلَفُوا فِي دُخُولِ الْعَبْدِ تَحْتَ التَّكَالِيفِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ الْمُطْقَلَةِ كَلَفْظِ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ إِلَّا بِقَرِينَةٍ وَدَلِيلٍ يَخُصُّهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِدُخُولِهِ فِي الْعُمُومَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ دُونَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ الدُّخُولُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ النَّاسِ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ لِكُلِّ مَنْ هُوَ مِنَ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْعَبْدُ مِنَ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةً فَكَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومَاتِ الْخِطَابِ بِوَضْعِهِ لُغَةً إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْهُ (1) .
فَإِنْ قِيلَ: الْعَبْدُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ حَسَبَ تَصَرُّفِهِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَإِذَا كَانَ مَالًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهَائِمِ، فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ خِطَابِ الشَّارِعِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ كَالْبَهَائِمِ إِلَّا أَنَّ أَفْعَالَهُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّكْلِيفُ وَيَحْصُلُ بِهَا الِامْتِثَالُ مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهِ، وَيَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى مَنَافِعِهِ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، فَلَا يَكُونُ الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِصَرْفِهَا إِلَى غَيْرِ مَنَافِعِ السَّيِّدِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ.
سَلَّمْنَا عَدَمَ التَّنَاقُضِ غَيْرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِخْرَاجِ الْعَبْدِ عَنْ مُطْلَقِ الْخِطَابِ الْعَامِّ بِالْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ بِصِحَّةِ التَّبَرُّعِ وَالْإِقْرَارِ بِالْحُقُوقِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ بِمُطْلَقِهِ لَكَانَ خُرُوجُهُ عَنْهَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ.
(1) اخْتِيَارُهُ هُنَا دُخُولَ الْعَبِيدِ فِي عُمُومِ الْخِطَابِ بِمُقْتَضَى الْوَضْعِ لُغَةً يَتَّفِقُ مَعَ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: إِنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا تَدُلُّ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَيَتَنَاقَضُ مَعَ قَوْلِهِ بِالْوَقْفِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَأَنَّ تِلْكَ الصِّيَغَ صَالِحَةٌ لِأَنْ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ، وَلَيْسَتْ مَوْضُوعَةً فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِإِفَادَتِهِ حَقِيقَةً، فَاللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الْعَثْرَةَ وَأَمِّنَّا مِنَ الْحَيْرَةِ وَلَا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ أَنْسَيْتَهُمْ أَنْفُسَهُمْ.
سَلَّمْنَا إِمْكَانَ دُخُولِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ الْخِطَابِ لُغَةً إِلَّا أَنَّ الرِّقَّ مُقْتَضٍ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ عُمُومَاتِ الْخِطَابِ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُكَلَّفٌ بِشَغْلِ جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، وَحَقُّ السَّيِّدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ – تَعَالَى – لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّيِّدَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ مَنْعِ الْعَبْدِ مِنَ التَّطَوُّعِ بِالنَّوَافِلِ مَعَ أَنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ، تَعَالَى، وَلَوْلَا أَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ مُرَجَّحٌ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنَّ حَقَّ اللَّهِ – تَعَالَى – مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِ حُقُوقِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِحُصُولِهَا، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالْمُضَايَقَةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِحُصُولِهِ وَيَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ مَالًا مَمْلُوكًا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ جِنْسِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى جِنْسِ الْبَهَائِمِ، وَإِلَّا لَمَا تَوَجَّهَ نَحْوَ التَّكْلِيفِ بِالْخِطَابِ الْخَاصِّ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ لِصَرْفِ مَنَافِعِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى فِي وَقْتِ تَضَايُقِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، بَلْ فِي غَيْرِهِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا تَنَاقُضَ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ الْعَبْدِ عَنْ كَوْنِ الْعُمُومَاتِ مُتَنَاوِلَةً لَهُ لُغَةً لِمَا بَيَّنَاهُ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَالتَّخْصِيصُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْعُمُومِ لُغَةً.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِرَفْعِ الْعُمُومِ لُغَةً مَعَ تَحَقُّقِهِ، وَصَارَ كَمَا فِي تَخْصِيصِ الْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ عَنِ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْجُمُعَةِ وَالْجِهَادِ.
وَعَنِ الرَّابِعِ: بِمَنْعِ تَعَلُّقِ حَقِّ السَّيِّدِ بِمَنَافِعِهِ الْمَصْرُوفَةِ إِلَى الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا عِنْدَ ضِيقِ أَوْقَاتِهَا كَمَا سَبَقَ، وَالرِّقُّ وَإِنِ اقْتَضَى ذَلِكَ لِمُنَاسَبَتِهِ وَاعْتِبَارِهِ، فَلَا يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ الدَّلَالَةِ النَّصِّيَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِقُوَّةِ دَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَى دَلَالَةِ مَا الْحُجَّةُ بِهِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَيْهَا.
وَالنُّصُوصُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَاوِلَةً لِلْعَبْدِ بِعُمُومِهَا إِلَّا أَنَّهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِلْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ بِخُصُوصِهَا.
وَالرِّقُّ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِحَقِّ السَّيِّدِ
بِخُصُوصِهِ إِلَّا أَنَّ اقْتِضَاءَهُ لِذَلِكَ الْحَقِّ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ بِعُمُومِهِ، فَيَتَقَابَلَانِ، وَيَسْلَمُ التَّرْجِيحُ بِالتَّنْصِيصِ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُمْ: حُقٌّ الْآدَمِيِّ مُرَجَّحٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ – تَعَالَى – لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا.
وَلِهَذَا فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ – تَعَالَى – مُرَجَّحٌ عَلَى حَقِّ السَّيِّدِ فِيمَا وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ بِالْخِطَابِ الْخَاصِّ بِهِ إِجْمَاعًا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُمْ فِي التَّرْجِيحِ الثَّانِي: إِنَّ السَّيِّدَ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَنْعِ الْعَبْدِ مِنَ التَّنَفُّلِ.
قُلْنَا: وَإِنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ تَرَجُّحَ جَانِبِ حَقِّ السَّيِّدِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ – تَعَالَى – فِي النَّوَافِلِ فَغَيْرُ مُوجِبٍ لِتَرَجُّحِهِ عَلَيْهِ فِي الْفَرَائِضِ (1) .
[الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ وُرُودُ الْخِطَابِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ يُدْخِلُ الرَّسُولَ فِي عُمُومِهِ]
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ
وُرُودُ الْخِطَابِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، (يَا عِبَادِيَ) يُدْخِلُ الرَّسُولَ فِي عُمُومِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ خِطَابٍ وَرَدَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَكُنِ الرَّسُولُ مَأْمُورًا فِي أَوَّلِهِ بِأَمْرِ الْأُمَّةِ بِهِ كَهَذِهِ الْآيَاتِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا فِي صَدْرِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ كَقَوْلِهِ – تَعَالَى -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، فَهُوَ غَيْرٌ دَاخِلٍ فِيهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْحَلِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ (2) .
حُجَّةُ مَنْ قَالَ: يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، حُجَّتَانِ.
الْأُولَى: أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ عَامَّةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ وَكُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ عَبْدٍ، وَالنَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سَيِّدُ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالنُّبُوَّةُ غَيْرُ مُخْرِجَةٍ لَهُ عَنْ إِطْلَاقِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُونُ مُخْرِجَةً لَهُ عَنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ.
(1) قَارِنْ بَيْنَ اسْتِدْلَالِهِ وَنِقَاشِهِ الْأَدِلَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ
(2) أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْرَفِيُّ الشَّافِعِيُّ مَاتَ سَنَةَ 330 هـ، وَالْحَلِيمِيُّ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَلِيمٍ الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْحَلِيمِيِّ نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ، وُلِدَ بِجُرْجَانَ سَنَةَ 338 هـ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ وَمَاتَ 403 هـ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَانَ إِذَا أَمَرَ الصَّحَابَةَ بِأَمْرٍ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ: مَا بَالُكَ لَمْ تَفْعَلْهُ؟ وَلَوْ لَمْ يَعْقِلُوا دُخُولَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لَمَا سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَفْسَخْ، فَقَالُوا لَهُ: ” أَمَرْتَنَا بِالْفَسْخِ وَلَمْ تَفْسَخْ» “، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مَا فَهِمُوهُ مِنْ دُخُولِهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، بَلْ عَدَلَ إِلَى الِاعْتِذَارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ” «إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيًا» ” وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ” «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» ” (1) .
فَإِنْ قِيلَ: يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – آمِرًا لِأُمَّتِهِ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ فَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِخِطَابٍ وَاحِدٍ آمِرًا وَمَأْمُورًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ آمِرًا لِنَفْسِهِ، وَأَمْرُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ الْأَعْلَى مِنَ الْأَدْنَى، وَالْوَاحِدُ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ نَفْسِهِ وَأَدْنَى مِنْهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ عَلَى الْخُصُوصِ مُمْتَنِعٌ، فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى الْعُمُومِ.
الثَّانِي مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِخِطَابٍ وَاحِدٍ مُبَلِّغًا وَمُبَلَّغًا إِلَيْهِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَدِ اخْتَصَّ بِأَحْكَامٍ لَمْ تُشَارِكْهُ فِيهَا الْأُمَّةُ كَوُجُوبِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى وَتَحْرِيمِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، وَأُبِيحَ لَهُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا مَهْرٍ وَلَا شُهُودٍ، وَالصَّفِيُّ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَنَحْوُهُ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّتِهِ، وَانْفِرَادِهِ عَنِ الْأُمَّةِ فِي الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الْخِطَابِ الْمُتَنَاوِلِ لَهُمْ.
(1) قَارِنْ بَيْنَ اخْتِيَارِهِ الْعُمُومَ هُنَا وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِ وَاخْتِيَارِهِ الْوَقْفَ وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِ، وَنِقَاشِهِ أَدِلَّةَ خُصُومِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ.
قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الرَّسُولِ آمِرًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُبَلِّغٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْآمِرِ وَالْمُبَلِّغِ لِلْأَمْرِ.
وَلِهَذَا أَعَادَ صِيَغَ الْأَوَامِرِ لَهُ بِالتَّبْلِيغِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} ، وَ {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} وَنَحْوِهِ.
وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُبَلِّغٌ لِلْأُمَّةِ بِمَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِهِ، وَلَيْسَ مُبَلِّغًا لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ الْخِطَابِ، بَلْ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَجَوَابُ الثَّالِثِ: أَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِخُرُوجِهِ عَنْ عُمُومَاتِ الْخِطَابِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ الْحَائِضَ وَالْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ وَالْمَرْأَةَ كُلَّ وَاحِدٍ قَدِ اخْتَصَّ بِأَحْكَامٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنِ الدُّخُولِ فِي عُمُومَاتِ الْخِطَابِ (1) ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.