كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
اخْتَلَفُوا فِي التَّابِعِيِّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ هَلْ يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ أَمْ لَا.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ بِإِجْمَاعِهِمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ.
فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ انْعِقَادِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ; فَلَا يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِ، وَإِنْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ انْعِقَادِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَمِنْ شَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، قَالَ لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَةَ إِجْمَاعِهِمْ أَوْ صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ لَكِنْ فِي عَصْرِهِمْ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ أَصْلًا، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَةَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُهُمْ دُونَ مُوَافَقَتِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بِقَوْلِهِمْ إِنَّ الصَّحَابَةَ سَوَّغَتْ لِلتَّابِعِينَ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمُ الِاجْتِهَادَ مَعَهُمْ فِي الْوَقَائِعِ الْحَادِثَةِ فِي عَصْرِهِمْ، كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَمَسْرُوقٍ، وَأَبِي وَائِلٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى إِنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَلَّيَا شُرَيْحًا الْقَضَاءَ وَلَمْ يَعْتَرِضَا عَلَيْهِ فِيمَا خَالَفَهُمَا فِيهِ وَحَكَمَ عَلَى عَلِيٍّ فِي خُصُومَةٍ عَرَضَتْ لَهُ عِنْدَهُ عَلَى خِلَافِ رَأْيِ عَلِيٍّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَرِيضَةٍ، فَقَالَ: اسْأَلُوا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي.
وَسُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: اسْأَلُوا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ نَذْرِ ذَبْحِ الْوَلَدِ، فَقَالَ: اسْأَلُوا مَسْرُوقًا، فَلَمَّا أَتَاهُ السَّائِلُ بِجَوَابِهِ اتَّبَعَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ قَالَ: تَذَاكَرْتُ أَنَا وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ، وَقُلْتُ أَنَا: عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي، فَسَوَّغَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي سَلَمَةَ أَنْ يُخَالِفَهُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ.
وَلَوْ كَانَ قَوْلُ التَّابِعِيِّ بَاطِلًا لَمَا سَاغَ لِلصَّحَابَةِ تَجْوِيزُهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَفِي هَذِهِ الْحُجَّةِ نَظَرٌ فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَ الِاجْتِهَادُ مُسَوَّغًا لِلتَّابِعِيِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الِاعْتِدَادِ بِقَوْلِهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ الِاعْتِدَادُ بِقَوْلِهِ مَعَ الِاتِّفَاقِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمُ اتِّفَاقٌ، وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ إِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ اتِّفَاقِهِمْ.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً إِنَّمَا هِيَ الْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَهَذَا الِاسْمُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَعَ خُرُوجِ التَّابِعِينَ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ إِجْمَاعُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ بَلْ إِجْمَاعُ بَعْضِهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
احْتَجَّ الْخُصُومُ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ وَالْآثَارِ.
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» “، وَقَوْلُهُ: ” «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» “، وَقَوْلُهُ: ” «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» “.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَهُمْ مَزِيَّةُ الصُّحْبَةِ وَشَهَادَةُ التَّنْزِيلِ وَسَمَاعُ التَّأْوِيلِ وَأَنَّهُمْ مَرَضِيٌّ عَنْهُمْ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ فِي حَقِّهِمْ: «لَوْ أَنْفَقَ غَيْرُهُمْ (1) مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ» ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ لَا مَعَ مُخَالِفِهِمْ.
وَأَمَّا الْآثَارُ فَمِنْهَا أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ نَقَضَ عَلَى شُرَيْحٍ حُكْمَهُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، لَمَّا جَعَلَ الْمَالَ كُلَّهُ لِلْأَخِ.
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مُجَارَاتَهُ لِلصَّحَابَةِ، وَكَلَامَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَزَجَرَتْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: ” فَرُّوجُ يَصِيحُ مَعَ الدِّيَكَةِ “.
وَالْجَوَابُ عَنِ النُّصُوصِ مَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ انْعِقَادِ إِجْمَاعِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ.
(1) رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ أَحَدُكُمْ، وَالْخِطَابُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ بَيَانًا لِحَقِّ مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَبَبُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ سَبَبَهُ خُصُومَةٌ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَبُّ خَالِدٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَعَنِ الْمَعْقُولِ قَوْلُهُمْ إِنَّ الصَّحَابَةَ لَهُمْ مَزِيَّةُ الصُّحْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ.
قُلْنَا: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْإِجْمَاعِ بِهِمْ لَمَا اعْتُبِرَ قَوْلُ الْأَنْصَارَ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَا قَوْلُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ قَوْلِ الْعَشَرَةِ، وَلَا قَوْلُ بَاقِي الْعَشَرَةِ مَعَ قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مَعَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَا قَوْلُ غَيْرِ الْأَهْلِ مَعَ الْأَهْلِ وَلَا الزَّوْجَاتِ مَعَ الزَّوْجَاتِ لِوُقُوعِ التَّفَاوُتِ وَالتَّفَاضُلِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ.
وَعَنِ الْآثَارِ، أَمَّا نَقْضُ عَلِيٍّ عَلَى شُرَيْحٍ حُكْمَهُ ; فَلَيْسَ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِ فِي مُخَاصَمَتِهِ بِخِلَافِ رَأْيِهِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَقَضَ حُكْمَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِرَاضِ كَمَا يُقَالُ: نَقَضَ فُلَانٌ كِتَابَ فُلَانٍ وَكَلَامَهُ إِذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَقَضَهُ بِنَصٍّ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَوْجَبَ نَقْضَ حُكْمِهِ.
وَأَمَّا إِنْكَارُ عَائِشَةَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ أَوْ بِطْرِيقِ التَّأْدِيبِ مَعَ الصَّحَابَةِ، أَوْ لِأَنَّهَا رَأَتْ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ.