كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ لها قوة النصوص]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالنَّظَّامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَدِ احْتَجَّ أَهْلُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَخَمْسُ آيَاتٍ: الْآيَةُ الْأُولَى، وَهِيَ أَقْوَاهَا وَبِهَا تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَ عَلَى مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لَمَا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ وَلَمَا حَسُنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّوَعُّدِ كَمَا لَا يَحْسُنُ التَّوَعُّدُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ الْمُبَاحِ.
فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ” مِنْ ” لِلْعُمُومِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي مَسَائِلِ الْعُمُومِ حَتَّى يَتَنَاوَلَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.
سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلْعُمُومِ، غَيْرَ أَنَّ التَّوَعُّدَ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا وَقَعَ مَشْرُوطًا بِمُشَاقَّةِ الرَّسُولِ، وَالْمَشْرُوطُ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ.
سَلَّمْنَا لُحُوقَ الذَّمِّ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى انْفِرَادِهِ لَكِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَدَمُ مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكُونُ (غَيْرَ) بِمَعْنَى إِلَّا، وَبَيْنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُتَابَعَةُ سَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكُونُ (غَيْرَ) هَاهُنَا صِفَةً لِسَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ (غَيْرَ) صِفَةً لِسَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَبِيلُ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْكُفْرُ.
وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ شَاقَقَ الرَّسُولَ وَكَفَرَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَوَعَّدًا بِالْعِقَابِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.
سَلَّمْنَا أَنَّ سَبِيلَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَعُّدِ عَلَى عَدَمِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ غَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَعُّدِ عَدَمُ التَّوَعُّدِ عَلَى اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَفْهُومِهِ.
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ، لَكِنْ فِي عَدَمِ التَّوَعُّدِ عَلَى مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِمْ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَدَمُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ سَبِيلَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْإِجْمَاعِ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ حُجَّةٌ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ، لَكِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ عَالِمٍ وَجَاهِلٍ، وَالْجُهَّالُ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي الْإِجْمَاعِ الْمُتَّبَعِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ فَالْآيَةُ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَيْهِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي أَيِّ عَصْرٍ اتَّفَقَ، لَكِنَّ لَفْظَ (السَّبِيلِ) مُفْرَدٌ لَا عُمُومَ فِيهِ فَلَا يَقْتَضِي اتِّبَاعَ كُلِّ سَبِيلٍ سَلَّمْنَا عُمُومَهُ، لَكِنَّهُ مِمَّا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ كُلِّ سَبِيلٍ وَإِلَّا لَوَجَبَ مُتَابَعَةُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا فَعَلُوهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ ; لِأَنَّهُمْ فَعَلُوهُ وَلَا يَجِبُ لِحُكْمِهِمْ عَلَيْهِ بِالْإِبَاحَةِ.
وَلَوَجَبَ اتِّبَاعُهُمْ فِي إِجْمَاعِهِمْ قَبْلَ الِاتِّفَاقِ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَاتِّبَاعُهُمْ فِي امْتِنَاعِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ مَحْضٌ (1) .
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مُتَابَعَةَ سَبِيلِهِمْ فِي مُتَابَعَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَرْكِ مُشَاقَّتِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَاعْتِقَادَ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ فِي الِاجْتِهَادِ دُونَ التَّقْلِيدِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، كَيْفَ وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ ; لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ بِاللَّفْظِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَكَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِمَا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِاسْتِحَالَةِ الِاحْتِجَاجِ بِالْإِجْمَاعِ فِي زَمَانِهِ
(1) يُقَالُ: لَا تُنَاقُضَ لِاخْتِلَافِ الْحَالِ، فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةٍ كَانَ قَبْلَ الِاتِّفَاقِ عَلَى حُكْمٍ فِيهَا، وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا كَانَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى حُكْمِهَا فَاخْتَلَفَ الْحَالُ فِي الْإِجْمَاعَيْنِ، وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى الْجَوَازِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْحُكْمِ، وَاتِّبَاعُهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ الثَّانِي عَلَى تَحْرِيمِ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْحُكْمِ، فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَلَا بَيْنَ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهِمَا.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُتَابَعَتُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَابِقَةِ تَبَيُّنِ الْهُدَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} وَالْهُدَى مَذْكُورٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ هُدًى حَتَّى إِجْمَاعُهُمْ عَلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْهُدَى بِدَلِيلِهِ وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ جُمْلَةِ الْهُدَى فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ بَيَانِهِ بِدَلِيلِهِ، وَدَلِيلُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ هُدًى لَا يَكُونُ هُوَ نَفْسَ الْإِجْمَاعِ بَلْ هُوَ غَيْرُهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَظُهُورُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ كَافٍ فِي اتِّبَاعِهِ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ.
سَلَّمْنَا وُجُوبَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ ; لِأَنَّ سَبِيلَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، أَوِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ لِأَنَّ سَبِيلَهُمْ سَبِيلُهُ، وَسَبِيلُ الْمَعْصُومِ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، فَكَانَ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.
سَلَّمْنَا وُجُوبَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ وَلَكِنْ إِذَا عُلِمَ كَوْنُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ بَاطِنٌ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُمْ مُؤْمِنِينَ فَالِاتِّبَاعُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِفَوَاتِ شَرْطِهِ.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَلَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} اقْتَصَرَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} نَهَى كُلَّ الْأُمَّةِ عَنْ هَاتَيْنِ الْمَعْصِيَتَيْنِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَصَوُّرِهِمَا مِنْهُمْ، وَمَنْ تُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ وَلَا فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَرَّ مُعَاذًا لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْمَعْمُولِ بِهَا عَلَى إِهْمَالِهِ لِذِكْرِ الْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ الْإِجْمَاعُ دَلِيلًا لَمَا سَاغَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ خُلُوِّ الْعَصْرِ عَمَّنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ» “.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ: ” «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا» ” نَهَى الْكُلَّ عَنِ الْكُفْرِ، وَهُوَ دَلِيلُ جَوَازِ وُقُوعِهِ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: ” «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» “، وَقَوْلُهُ: ” «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّهَا أَوَّلُ مَا يُنْسَى» “، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ» “، وَقَوْلُهُ: ” «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ تَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ التَّمْرِ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ» “.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ دَلِيلًا عَلَيْهَا، كَالتَّوْحِيدِ وَسَائِرِ الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ.
وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُمْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ (مِنْ) لِلْعُمُومِ سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْعُمُومِ.
قَوْلُهُمْ: إِنِ التَّوَعُّدَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُشَاقَّةِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ التَّوَعُّدَ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا بِمُشَاقَّةِ الرَّسُولِ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا بِهِ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُشَاقَّةِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ خَطَأً لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صَوَابًا مُطْلَقًا، وَمَا لَا يَكُونُ صَوَابًا مُطْلَقًا لَا يَكُونُ جَائِزًا مُطْلَقًا وَلَيْسَ بِحَقٍّ ; لِأَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُشَاقَّةِ لَيْسَتْ خَطَأً.
فَقَوْلُهُ: لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صَوَابًا مُطْلَقًا، قُلْنَا: إِنْ لَمْ تَكُنْ صَوَابًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الصَّوَابِ خَطَأً أَوْ لَا يَكُونُ خَطَأً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ نَاقَضَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَمَا لَا يَكُونُ خَطَأً لَا يَلْزَمُ التَّوَعُّدُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ مُشَاقَّتِهِ لِلرَّسُولِ، وَمُشَاقَّةُ الرَّسُولِ لَيْسَتْ مَعْصِيَةً فَقَطْ وَإِنَّمَا هِيَ مَعْصِيَةٌ عَلَى سَبِيلِ الرَّدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَعَلَ بَعْضَ الْمَعَاصِي لَا يُقَالُ إِنَّهُ مُشَاقٌّ لِلرَّسُولِ.
وَمَنْ كَذَّبَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ بِالسَّمْعِ، وَمَنْ لَا يَصِحُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ.
فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْمُشَاقَّةِ لِلنَّبِيِّ تَكْذِيبُهُ، وَأَنَّ مَنْ كَذَّبَ النَّبِيَّ لَا يَعْلَمُ بِالسَّمْعِ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَقِيلَ فِي جَوَابِهِ أَيْضًا إِنَّ الْوَعِيدَ إِذَا عُلِّقَ عَلَى أَمْرَيْنِ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّوَعُّدَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جُمْلَةً وَإِفْرَادًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي لُحُوقَ الْمَأْثَمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ جُمْلَةً، وَبِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ الْإِثْمِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى لُزُومِ الْمَأْثَمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ بِخُصُوصِهِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ الْخَاصُّ عَلَى مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ مُقْتَضِيَةً لِتُضَاعُفِ الْعَذَابِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِتَقْدِيرِ الِانْفِرَادِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِذَلِكَ لَكِنَّ نَفْيَ الْمُتَضَاعِفِ بِقَوْلِهِ: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: ” إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا وَعُمَرَ أَوْ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، وَدَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ” فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ عَلَى أَمْرَيْنِ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ أَحَدِهِمَا لَكَانَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَا خِلَافَ فِي التَّوَعُّدِ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْمُشَاقَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَفْسَدَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ (1) أَوْ لَا لِمَفْسَدَةٍ.
لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي: فَإِنَّ مَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لَا تَوَعُّدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْمَفْسَدَةُ فِي اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِهَةِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ أَوْ لَا مِنْ جِهَةِ مُشَاقَّتِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَذِكْرُ الْمُشَاقَّةِ كَافٍ فِي التَّوَعُّدِ كَمَا قِيلَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَوْلِهِ: ” {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} “، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَزِمَ التَّوَعُّدُ لِتَحَقُّقِ الْمَفْسَدَةِ سَوَاءٌ وُجِدَتِ الْمُشَاقَّةُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ (2) .
قَوْلُهُمْ إِنَّ (غَيْرَ) مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى إِلَّا أَوْ بِمَعْنَى الصِّفَةِ، قُلْنَا: لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (غَيْرُ) هَاهُنَا صِفَةً ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ مُتَابِعَةِ سَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى إِبَاحَةِ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَقُولَ بِحَظْرِهِ أَوْ وُجُوبِهِ، وَالْمُخَالِفُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَحْرِيمَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَذَلِكَ يَعُمُّ تَحْرِيمَ كُلِّ سَبِيلٍ هُوَ غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُ سَبِيلُ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ حَالَةً، وَتَمَسَّكَ بِهَا وَكَانَ مَعْرُوفًا بِهَا يُقَالُ إِنَّهَا سَبِيلُهُ، سَوَاءٌ تَعَدَّدَتِ الْأَحْوَالُ أَوِ اتَّحَدَتْ.
(1) الصَّوَابُ: مُتَعَقِلَةٌ
(2) هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ بَيْنَ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ تَلَازُمًا، كَالتَّلَازُمِ بَيْنَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ، فَكُلُّ مَا كَانَ مُشَاقَّةً لِلرَّسُولِ، فَهُوَ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَا الْعَكْسُ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ لِرَسُولِهِ، وَكُلَّ طَاعَةٍ لِلَّهِ أَوْ لِقَضَائِهِ طَاعَةٌ لِرَسُولِهِ وَلِقَضَائِهِ، كَذَا الْعَكْسُ. قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النِّسَاءِ) ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الْأَحْزَابِ) ، وَقَالَ تَعَالَى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) الْآيَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدَ عَصَا اللَّهَ. . إِلَخْ. فَلَمْ يَكْتَفِ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ وَلَمْ يَنْفَكَّ عَنْهُ.
وَإِذَا قِيلَ فُلَانٌ سَلَكَ سَبِيلَ التُّجَّارِ فَهُمْ مِنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ أَفْعَالَهُمْ وَيَتَزَيَّا بِزِيِّهِمْ، وَيَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَيَجْرِي عَلَى عَادَاتِهِمْ.
وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ السَّبِيلِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَى اتِّبَاعِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ يَعُمُّ ذَلِكَ مَا كَانَ مُخَالِفًا لِطَرِيقِ الْأُمَّةِ وَسَبِيلِهِمْ.
كَيْفَ وَإِنَّا لَوْ لَمْ نَعْتَقِدْ ذَلِكَ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ (السَّبِيلِ) مُبْهَمًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ عَلَى مَا سَبَقَ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّوَعُّدِ عَلَى مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَفْهُومِهِ، قُلْنَا: إِذَا سَلَّمَ أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّبَاعُ كُلِّ سَبِيلٍ سِوَى سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا نُرِيدُ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً سِوَى هَذَا.
قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ) كُلُّ مَنْ آمَنَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَفْظُ (الْمُؤْمِنِينَ) حَقِيقَةً يَكُونُ لِمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْإِيمَانِ، وَالِاتِّصَافُ بِالْإِيمَانِ مَشْرُوطٌ بِالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ، وَمَنْ لَا حَيَاةَ لَهُ مِمَّنْ مَاتَ أَوْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَقِيقَةً، فَلَفْظُ (الْمُؤْمِنِينَ) حَقِيقَةً إِنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ دُونَ مَنْ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ.
وَهَذَا وَإِنْ مَنَعَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى مَنْ فِي عَصْرِهِمْ وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ الْخُصُومِ (1) .
الثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ الزَّجْرُ عَنْ مُخَالَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَثُّ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ عِنْدَ حَمْلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِذْ لَا زَجْرَ، وَلَا حَثَّ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُمْ: الْآيَةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ غَيْرَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْعَالِمِ، وَالْجَاهِلِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا (2) نُسَلِّمُ ذَلِكَ
(1) لَا يُسَلِّمُ الِاحْتِجَاجَ بِذَلِكَ مَنْ يَشْتَرِطُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الْخُصُومِ.
(2) الصَّوَابُ: لَا نُسَلِّمُ بِحَذْفِ الْوَاوِ ; إِذْ هُوَ جَوَابٌ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِرَاضِ
عَلَى مَا يَأْتِي (1) وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْآيَةَ حُجَّةٌ فِي اتِّبَاعِ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فَتَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً فِي الْبَاقِي.
قَوْلُهُمْ: لَفْظُ (السَّبِيلِ) مُفْرَدٌ لَا عُمُومَ فِيهِ، عَنْهُ جَوَابَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (2) .
الثَّانِي: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِلَفْظِهِ، أَوْ لَا يَكُونَ عَامًّا بِلَفْظِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا بِلَفْظِهِ فَهُوَ عَامٌّ بِمَعْنَاهُ وَإِيمَائِهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَّ سَبِيلٍ كَانَ مُنَاسِبٌ لِكَوْنِهِ مَصْلَحِيًّا، وَقَدْ رُتِّبَ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، فَكَانَ عِلَّةً لِوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ مَهْمَا تَحَقَّقَ.
قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ مُتَابَعَةِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا فَعَلُوهُ وَحَكَمُوا بِكَوْنِهِ مُبَاحًا، وَهُوَ تُنَاقُضٌ.
قُلْنَا: الْآيَةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ سَبِيلٍ لَهُمْ، فَفِعْلُهُمْ لِلْمُبَاحِ سَبِيلٌ، وَحُكْمُهُمْ بِجَوَازِ التَّرْكِ سَبِيلٌ.
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ فِي إِيجَابِ الْفِعْلِ اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِمْ لَهُ مُخَالَفَتُهَا فِي اتِّبَاعِهِمْ فِي اعْتِقَادِ جَوَازِ تَرْكِهِ (3) .
قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ مُتَابَعَةِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَتَحْرِيمِهِ (4) ، قُلْنَا: سَنُبَيِّنُ أَنَّهُ مَهْمَا انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى حُكْمٍ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ انْعِقَادُ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ.
قَوْلُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مُتَابَعَتَهُمْ فِي مُتَابَعَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَرْكِ مُشَاقَّتِهِ أَوِ اتِّبَاعِهِمْ فِي الْإِيمَانِ أَوْ فِي الِاجْتِهَادِ،
(1) أَيْ: فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ اخْتَارَ الْآمِدِيُّ دُخُولَ الْعَامِّيِّ، وَاعْتِبَارَهُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ.
(2) أَيْ: فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ (غَيْرَ) مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى إِلَّا أَوْ بِمَعْنَى الصِّفَةِ.
(3) مُقْتَضَى قَوْلِهِ: وَلَا يَلْزَمُ. إِلَى آخِرِهِ أَنَّ مَا ذَكَرَ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ مِنْ وَجْهٍ وَمُوَافِقٌ لَهَا مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ حُكْمَ الْمُجْمِعِينَ بِإِبَاحَةِ الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ حِينَمَا فَعَلُوهُ إِنَّمَا فَعَلُوهُ عَنْ وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُمْ فِي إِبَاحَتِهِمْ، وَفِي فِعْلِهِ إِنْ أَرَدْنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّخْيِيرُ وَالْإِبَاحَةُ، فَلَا مُخَالَفَةَ لِلْآيَةِ بِوَجْهٍ مَا وَلَا تَنَاقُضَ.
(4) تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ ص (201) .
قُلْنَا: اللَّفْظُ يَعُمُّ كُلَّ سَبِيلٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَمَا ذَكَرُوهُ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الِاتِّبَاعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا يُقْبَلُ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَابِقَةِ تَبَيُّنِ الْهُدَى إِلَى آخِرِهِ، فَجَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ تَبَيُّنَ الْهُدَى إِنَّمَا هُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْوَعِيدِ عَلَى الْمُشَاقَّةِ لَا فِي الْوَعِيدِ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشَاقَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَبَيُّنِ الْهُدَى وَمَعْرِفَتِهِ بِدَلِيلِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ لَا يُوصَفُ بِالْمُشَاقَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ تَبَيُّنَ الْأَحْكَامِ الْفُرُوعِيَّةِ لَيْسَ شَرْطًا فِي مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَبَيَّنَ صِدْقَ النَّبِيِّ، وَحَادَ عَنْهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِالْمُشَاقَّةِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْفُرُوعِ غَيْرَ مُتَبَيِّنٍ لَهَا.
وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ شَرْطًا فِي الْمُشَاقَّةِ فَلَا تَكُونُ مُشْتَرَطَةً فِي لُحُوقِ الْوَعِيدِ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا.
الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِلْحَاقِ الذَّمِّ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِهِمْ.
فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِتَبَيُّنِ كَوْنِهِ هُدًى، وَلَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُهُمْ فِي سَبِيلِهِمْ لِأَجْلِ أَنَّهُ سَبِيلٌ لَهُمْ بَلْ لِمُشَارَكَتِهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لِتَبَيُّنِ كَوْنِهِ هُدًى، لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ تَعْظِيمِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَتَمَيُّزِهِمْ بِذَلِكَ.
فَإِنَّ كُلَّ مَنْ ظَهَرَ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ وَاعْتِقَادِهِ، فَالْوَعِيدُ حَاصِلٌ بِمُخَالَفَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَذَلِكَ كَالْوَعِيدِ عَلَى عَدَمِ مُشَارَكَةِ الْيَهُودِ فِيمَا ظَهَرَ كَوْنُ مُعْتَقَدِهِمْ فِيهِ هُدًى كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَاعْتِقَادِ كَوْنِ مُوسَى رَسُولًا كَرِيمًا.
قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنَ (الْمُؤْمِنِينَ) الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ أَوْ مَنْ كَانَ فِيهِمُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ عَنْهُ جَوَابَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا حَقَّقْنَاهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فَتَخْصِيصُهَا بِالْأَئِمَّةِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (1) الَّذِينَ فِيهِمُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
(1) صَوَابُهُ: أَوْ.
كَيْفَ وَأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْوَعِيدِ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعِنْدَهُمُ التَّوَعُّدُ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْإِمَامِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
قَوْلُهُمْ: سَلَّمْنَا وُجُوبَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لَكِنْ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ الْحَثُّ عَلَى مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَالزَّجْرُ عَنْ مُخَالَفَتِهِ فَإِنْ كَانَ سَبِيلُهُمْ مَعْلُومًا فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَالتَّكْلِيفُ بِاتِّبَاعِ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا إِمَّا أَنْ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ أَوْ يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْآيَةِ الْأُولَى، فَلَيْسَ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً مُتَّبَعَةً بِالْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا (1) مَا يُنَافِي كَوْنَ الْكِتَابِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَأَصْلًا لَهُ، (2) وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِي كُلِّ مُتَنَازَعٍ فِيهِ، وَكَوْنُ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً مُتَّبَعَةً مِمَّا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ، وَقَدْ رَدَدْنَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ أَثْبَتْنَاهُ بِالْقُرْآنِ، وَهُمْ مُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ (3) .
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِمَا رَاجِعٌ إِلَى اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا نُهُوا عَنْهُ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَوَازُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ النَّهْيَ لِجُمْلَةِ الْأُمَّةِ عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَكِنْ غَايَةُ ذَلِكَ جَوَازُ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ عَقْلًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْجَوَازِ الْوُقُوعُ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ نُهِيَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} إِذْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ النَّهْيِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مَعْصُومًا مِنْ ذَلِكَ.
(1) صَوَابُهُ: ذَكَرْنَاهَا.
(2) إِذْ هُوَ حُجَّةٌ مُصَدَّقَةٌ لِمَا اسْتَنَدَتْ إِلَيْهِ، وَتَفَرَّعَتْ عَنْهُ مِنَ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ فَيَكُونُ مِنْ تَظَافُرِ الْأَدِلَّةِ.
(3) وَأَيْضًا سَيَأْتِي بَيَانُ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مَنْهِيٌّ عَنِ الزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي.
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ بَعْضُ الْمَعَاصِي نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ، فَكَانَ مَعْصُومًا عَنْهَا ضَرُورَةَ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا.
وَأَمَّا خَبَرُ مُعَاذٍ فَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْإِجْمَاعُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَكُنْ مُؤَخَّرًا لِبَيَانِهِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ» ” (1) لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى مَنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ هُمُ الْأَقَلُّونَ.
وَقَوْلُهُ: ” «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا» ” (2) ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا مَعَ الْكُلِّ فَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ فِي آيَاتِ الْمَنَاهِي لِلْأُمَّةِ.
وَقَوْلُهُ: ” «حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا» ” (3) الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ غَايَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ انْقِرَاضِ الْعُلَمَاءِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ امْتِنَاعَ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ مَعَ انْقِرَاضِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اجْتِمَاعِ مَنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ بَاقِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى خُلُوِّ آخِرِ الزَّمَانِ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَمَّنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَحَتَّى يَظْهَرَ الدَّجَّالُ» “.
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: ” «وَاشَوْقَاهُ إِلَى إِخْوَانِي، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، إِخْوَانِي قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَهْرَبُونَ بِدِينِهِمْ مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ وَيَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» “.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ.
(1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
(2) جُزْءٌ مِنْ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ مِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
(3) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَوَّلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ عُلَمَاءِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمِلَلِ أَيْضًا حُجَّةٌ قَبْلَ النَّسْخِ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي حَقِّهِمْ مِنَ الدَّلَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِهِمْ مَا وَرَدَ فِي عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَافْتَرَقَا.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْأَخِيرَةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِيهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيهِ، بَلْ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا غَيْرَ، غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَجُوزُ فِيهِ تَقْلِيدُ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى أَدِلَّةٍ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكُلُّ وَهِيَ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْعَالِمِ فِيهَا.
وَإِذَا جَازَ أَوْ وَجَبَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ كَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى (1) .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وَصَفَ الْأُمَّةَ بِكَوْنِهِمْ وَسَطًا، وَالْوَسَطُ هُوَ الْعَدْلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَاللُّغَةُ.
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أَعْدَلُهُمْ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» “.
وَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ … إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ (2) أَيْ عُدُولٌ.
(1) يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَا وَضَحَ مِنْ أَحْكَامِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مُطْلَقًا مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَلَوْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ فِي الْبَحْثِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّقْلِيدُ فِيهِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِمَا، وَلَوْ مُجْتَهِدًا بَعْدَ الْبَحْثِ حَسَبَ طَاقَتِهِ قَلَّدَ فِيهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ عِبَادَهُ إِلَّا وُسْعَهُمْ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ وَالْبَلَاغِ وَعَدَمِهِ، وَمِنْ جِهَةِ التَّفَاوُتِ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَظُرُوفِ الْحَيَاةِ.
(2) الْبَيْتُ لِزُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، انْظُرْ تَفْسِيرَ ابْنِ جَرِيرٍ لِلْآيَةِ، وَتَعْلِيقَ الْأُسْتَاذِ مَحْمُودِ مُحَمَّدِ شَاكِرٍ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ.
وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ عَدَّلَهُمْ وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ فِي قَبُولِ أَقْوَالِهِمْ كَمَا جُعِلَ الرَّسُولُ حُجَّةً عَلَيْنَا فِي قَبُولِ قَوْلِهِ عَلَيْنَا، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً سِوَى كَوْنِ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا وَصْفُهُمْ بِالْعَدَالَةِ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى النَّاسِ بِتَبْلِيغِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَيْهِمُ الرِّسَالَةَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَالَتَهُمْ وَقَبُولَ شَهَادَتِهِمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَالَةَ مَا يَشْهَدُونَ دُونَ حَالَةِ التَّحَمُّلِ فِي الدُّنْيَا.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} لَفْظُ عُمُومٍ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَانَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَلَا حُجَّةَ فِي الْمُجْمَلِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مُجْمَلَةً، وَلَكِنَّا قَدْ عَمِلْنَا بِهَا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ بِإِيجَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِمْ وَتَكْلِيفِهِمْ بِمَا كَلَّفَهُمْ بِهِ فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ فِي غَيْرِهِ لِتَوْفِيَةِ الْعَمَلِ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ.
سَلَّمْنَا قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَالَةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَهُوَ مُخَصَّصٌ بِالْإِجْمَاعِ بِالْفُسَّاقِ، وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، وَالْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، لَا يَبْقَى حُجَّةً عَلَى مَا سَيَأْتِي.
(لَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ، سَلَّمْنَا أَنَّهَا تَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَعِصْمَتِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ بَاطِنًا) (1) بَلْ ظَاهِرًا فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ مُطْلَقًا لَكِنْ فِيمَا يَشْهَدُونَ بِهِ لَا فِيمَا يَحْكُمُونَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ فِي شَيْءٍ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
سَلَّمْنَا قَبُولَ قَوْلِهِمْ مُطْلَقًا، غَيْرَ أَنَّ الْخِطَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ جَمِيعِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِمَّا مَعَ الْمَوْجُودِينَ فِي وَقْتِ الْخِطَابِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا حُجَّةَ فِي إِجْمَاعِ كُلِّ عَصْرٍ إِذْ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ.
(1) فِي الْعِبَارَةِ الَّتِي بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ: سَلَّمْنَا أَنَّهَا تَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَالَتِهِمْ، وَعِصْمَتِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ بَاطِنًا.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ حُجَّةً، وَإِجْمَاعُ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً بَعْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَقَاءِ كُلِّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ بَعْدَ النَّبِيِّ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَقَالَهُ كُلُّ وَاحِدٍ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ جِدًّا.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ وَصْفَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ بِالْعَدَالَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ.
وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِيهِمَا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ لَا غَيْرَ، لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ عُدُولٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلْ مَعْصُومُونَ عَنِ الْخَطَأِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ (1) ، وَفِيهِ إِبْطَالُ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ سَنَجْعَلُكُمْ عُدُولًا، لَا أَنْ يَقُولَ جَعَلْنَاكُمْ، وَإِنْ كَانَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَعَنِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ نَفْيًا لِلْإِجْمَالِ عَنِ الْكَلَامِ.
الثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِجَاجَ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بَلْ فِي وَصْفِهِمْ بِالْعَدَالَةِ، وَمَهْمَا كَانُوا عُدُولًا وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وَصْفِ جُمْلَةِ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ عَدَالَتُهُمْ فِيمَا يَقُولُونَهُ جُمْلَةً وَآحَادًا غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي بَعْضِ الْآحَادِ فَتَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً فِي عَدَالَتِهِمْ فِيمَا يَقُولُونَهُ جُمْلَةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(1) إِنْ أَرَادَ بِجَمِيعِ الْأُمَمِ أُمَمَ الْإِجَابَةِ، أَيْ: كُلُّ أُمَّةٍ آمَنَتْ بِرَسُولِهَا، فَالْحُكْمُ بِعَدَالَتِهَا وَعِصْمَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِجَمِيعِهَا أُمَمَ الدَّعْوَةِ أَيْ مِمَّا يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَدَعْوَى عَدَالَتِهِمْ وَعِصْمَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْخَطَأِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) ، وَقَالَ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
قَوْلُهُمْ: الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَا يَبْقَى حُجَّةً سَنُبْطِلُهُ فِيمَا يَأْتِي (1) .
وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ، فَجَوَابُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِكَوْنِهِمْ عُدُولًا وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حَقِيقَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ عَالِمًا بِالْخَفِيَّاتِ فَإِنَّ الْحَكِيمَ إِذَا عَلِمَ مِنْ حَالِ شَخْصٍ أَنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ عَدْلٌ.
وَجَوَابُ السَّادِسِ، أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ وَصْفُهُمْ بِالْعَدَالَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ مِمَّا يَرَوْنَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ يَجِبُ صِدْقُهُمْ فِيهِ وَإِلَّا لَمَا كَانُوا عُدُولًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِذَا كَانُوا صَادِقِينَ فِيهِ فَهُوَ صَوَابٌ لِكَوْنِهِ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ» ” (2) وَإِذَا كَانَ صَوَابًا كَانَ خِلَافُهُ خَطَأً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَجَوَابُ السَّابِعِ، أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى حَمْلِ لَفْظِ الْأُمَّةِ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَلَا عَلَى مَنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ أَقْوَالَهُمْ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهَا فِي زَمَنِهِ وَلَا وُجُودَ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَاتَ بَعْدَ الْخِطَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فَائِدَةٌ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ كَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ (3) .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ) وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ عَمَّتْ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَمُقْتَضَى صِدْقِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهْيُهُمْ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ، فَإِذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا أَوْ مُنْكَرًا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا وَإِلَّا لَكَانُوا نَاهِينَ عَنْهُ ضَرُورَةَ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا آمِرِينَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ
(1) سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ.
(2) هُوَ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
(3) اعْتَرَضَ الْإِسْنَوِيُّ فِي ” نِهَايَةِ السُّولِ فِي شَرْحِ مِنْهَاجِ الْأُصُولِ ” عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِآيَةِ ” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ. . . ” إِلَخْ. بِأَنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمُدَّعِي ; لِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تُنَافِي صُدُورَ الْبَاطِلِ نِسْيَانًا وَغَلَطًا. . . إِلَخْ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ.
مَعْرُوفًا، فَخِلَافُهُ يَكُونُ مُنْكَرًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِذَا نَهَوْا عَنْ شَيْءٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا، أَوْ مَعْرُوفًا لَا جَائِزًا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا، وَإِلَّا لَكَانُوا آمِرِينَ بِهِ ضَرُورَةَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعُمُومِ لَا نَاهِينَ عَنْهُ.
وَإِنْ كَانَ مُنْكَرًا فَخِلَافُهُ يَكُونُ مَعْرُوفًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً فِي الْأَمْرِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَلَا النَّهْيِ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ.
سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلْعُمُومِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: (كُنْتُمْ) يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْمَاضِي وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اتِّصَافُهُمْ بِذَلِكَ فِي الْحَالِ، بَلْ رُبَّمَا دَلَّ عَلَى عَدَمِ اتِّصَافِهِمْ بِذَلِكَ فِي الْحَالِ نَظَرًا إِلَى قَاعِدَةِ الْمَفْهُومِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا وُجِدَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَيَكُونُ حُجَّةً، أَوْ بَعْدَهَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
سَلَّمْنَا اتِّصَافَهُمْ بِذَلِكَ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِدَامَتِهِمْ لِذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَعَلَى هَذَا، فَمَا وُجِدَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ مِمَّا لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالَةِ كَوْنِهِ حُجَّةً أَوْ فِي غَيْرِهَا.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، لَكِنَّهُ مَعَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُمْ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ خِلَافَ ذَلِكَ ضَرُورَةً، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ بَعْضَ الْأُمَّةِ فَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا مَعْلُومٍ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مَا سَيَأْتِي فِي الْعُمُومَاتِ، كَيْفَ وَأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَمْيِيزِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ؟ فَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ أَمَرَتْ بِالْمَعْرُوفِ كَاتِّبَاعِ أَنْبِيَائِهِمْ وَشَرَائِعِهِمْ، وَنَهَتْ عَنِ الْمُنْكَرِ كَنَهْيِهِمْ عَنِ الْإِلْحَادِ وَتَكْذِيبِ أَنْبِيَائِهِمْ.
وَعَنِ الثَّانِي، إِنَّهُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ (كَانَ) هَاهُنَا زَائِدَةً أَوْ تَامَّةً أَوْ زَمَانِيَّةً.
فَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً كَمَا فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
فَكَيْفَ إِذَا مَرَرْتُ بِدَارِ قَوْمٍ … وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامًا (1) فَإِنَّهُ جَعَلَ (كِرَامًا) نَعْتًا لِلْجِيرَانِ وَأَلْغَى (كَانَ) فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى اتِّصَافِهِمْ بِذَلِكَ حَالًا، لَا فِي الْمَاضِي وَإِنْ أَفَادَتْ نَصْبَ {خَيْرَ أُمَّةٍ} كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} .
وَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ وَالْحُدُوثِ، وَيُكْتَفَى فِيهَا بِاسْمٍ وَاحِدٍ لَا خَبَرَ فِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} مَعْنَاهُ حَضَرَ أَوْ وَقَعَ ذُو عُسْرَةٍ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئُونِي … فَإِنَّ الشَّيْخَ يَهْدِمُهُ الشِّتَاءُ
فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أَيْ: وُجِدْتُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {خَيْرَ أُمَّةٍ} نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى اتِّصَافِهِمْ بِذَلِكَ فِي الْحَالِ لَا فِي الْمَاضِي.
وَإِنْ كَانَتْ زَمَانِيَّةً وَهِيَ النَّاقِصَةُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْمٍ وَخَبَرٍ، فَكَانَ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْمَاضِي فَقَوْلُهُ: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ كَذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ لِوُرُودِ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الَّذِي قَبْلَهُ (2) .
وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّ قَوْلَهُ: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ صَالِحٌ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا عَلَى الْعُمُومِ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ.
وَعَنِ الرَّابِعِ أَنَّهُ إِذَا سُلِّمَ كَوْنُ الْآيَةِ حُجَّةً فِي إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ كَافٍ (3) إِذْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ النِّزَاعِ.
(1) الصَّوَابُ: كِرَامٍ، بِالْجَرِّ صِفَةٌ لِجِيرَانٍ سَوَاءٌ أَكَانَتْ كَانَ نَاقِصَةً، فَتَكُونُ جُمْلَتُهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، أَمْ كَانَتْ تَامَّةً أَمْ زَائِدَةً، فَتَكُونُ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ فَاعِلِهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ.
(2) هَذَا الِاحْتِمَالُ هُوَ الظَّاهِرُ، فَكَانَ نَاقِصَةٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ شَأْنَ كُلِّ جَمَاعَةٍ فِي عَصْرِهَا الْأَمْرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ.
(3) أَيْ: فِي إِبْطَالِ مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا، لَكِنْ تَبْقَى الْآيَةُ دَلِيلًا لِلْمُسْتَدِلِّ عَلَى حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَقَطْ دُونَ إِجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَإِذَنْ لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ أَيْضًا مُطَابِقًا لِدَعْوَى الْمُسْتَدِلِّ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ.
وَعَنِ الْخَامِسِ أَنَّ الْخِطَابَ إِذَا كَانَ مَعَ الْأُمَّةِ كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً فِي مَا وُجِدَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ جُمْلَةً وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً فِي الْأَفْرَادِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ) وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ، وَمُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ تَفَرُّقٌ، فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ.
وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً سِوَى النَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ صِيغَةِ النَّهْيِ – وَإِنْ سَلَّمْنَاهَا – وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي النَّوَاهِي.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ عُمُومَ النَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلِ التَّفَرُّقُ فِي الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ إِذْ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْآيَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِعَبِيدِهِ: (ادْخُلُوا الْبَلَدَ أَجْمَعِينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا) فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي دُخُولِ الْبَلَدِ، وَمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَصْرِ اعْتِصَامٌ بِحَبْلِ اللَّهِ؛ فَلَا يَكُونُ التَّفَرُّقُ مَنْهِيًّا عَنْهُ.
سَلَّمْنَا أَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ فِي كُلِّ تَفَرُّقٍ، وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ.
فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَإِذَا كَانَتِ الظُّنُونُ وَالْآرَاءُ مُخْتَلِفَةً كَانَ التَّفَرُّقُ مَأْمُورًا بِهِ لَا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَالْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَا يَبْقَى حُجَّةً عَلَى مَا سَيَأْتِي.
سَلَّمْنَا صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، لَكِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَإِجْمَاعُ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ فِي زَمَانِهِ إِجْمَاعًا، وَلَا تَحَقُّقَ لِوُجُودِهِمْ بِجُمْلَتِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ حَتَّى يَكُونَ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَا سَيَأْتِي فِي النَّوَاهِي.
وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} أَمْرٌ بِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ، وَقَوْلَهُ: {وَلَا تَفَرَّقُوا} نَهْيٌ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ وَإِلَّا كَانَ النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ مُفِيدًا لِمَا أَفَادَهُ الْأَمْرُ بِالِاعْتِصَامِ بِهِ، فَكَانَ تَأْكِيدًا، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ التَّأْسِيسُ دُونَ التَّأْكِيدِ.
وَعَنِ الرَّابِعِ بَيَانُ كَوْنِ الْعَامِّ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ كَمَا يَأْتِي فِي الْعُمُومَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَيَبْقَى حُجَّةً فِي امْتِنَاعِ التَّفَرُّقِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ وَفِي امْتِنَاعِ مُخَالَفَةِ مَنْ وُجِدَ بَعْدَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ لَهُمْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَعَنِ الْخَامِسِ بِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِمْ وَفَهْمِهِمْ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي الْأَوَامِرِ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .
وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ شَرَطَ التَّنَازُعَ فِي وُجُوبِ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْمَشْرُوطُ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّنَازُعُ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى الْحُكْمِ كَافٍ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً سِوَى هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: سُقُوطُ وُجُوبِ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَافِيَانِ فِي الْحُكْمِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَفِيهِ تَجْوِيزُ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ.
كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا وُجِدَ التَّنَازُعُ مِمَّنْ تَأَخَّرَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لِإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ.
قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، فَلَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ دَلِيلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِيَصِحَّ مَا ذَكَرُوهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِنْبَاطُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا انْحِصَارَ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اكْتِفَاءِ مَنْ وُجِدَ بَعْدَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، أَوِ اكْتِفَاءِ مَنْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدَةِ بِإِجْمَاعِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَمُشْكِلٌ جِدًّا.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مُفِيدَةً لِلظَّنِّ فَغَيْرُ مُفِيدَةٍ لِلْقَطْعِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ فَاحْتِجَاجُهُ فِيهَا بِأَمْرٍ ظَنِّيٍّ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْمَطْلُوبِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ ظَنِّيَّةٌ.
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ وَهِيَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَاطِعَةً، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى أَجِلَّاءُ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَغَيْرِهِمْ، بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ مُتَّفِقَةِ الْمَعْنَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عِصْمَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ وَالضَّلَالَةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ» ، «أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الضَّلَالَةِ» ، «وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ بِالَّذِي يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» ، «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ» ، «وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ فَأَعْطَانِيهِ» “.
وَقَوْلِهِ: ” «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» (1) ، «يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَلَا يُبَالِي بِشُذُوذِ مَنْ شَذَّ» ، «وَمَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ لَتُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» ، «وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَذِّ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» ، «وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ» ، «وَمَنْ خَرَجَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ» (2) . «قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» ، «وَمَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» ، «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» (3) “.
وَقَوْلِهِ: ” «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي نَيِّفًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: هِيَ الْجَمَاعَةُ» “.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَلَمْ تَزَلْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ مَعْمُولًا بِهَا، وَلَمْ يُنْكِرْهَا مُنْكِرٌ وَلَا دَفَعَهَا دَافِعٌ.
(1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقُنَا فِي ص 214.
(2) الْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ أَهْلُ الْحَقِّ الْمُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا
(3) عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثًا، وَقَدْ رُوِيَ ضِمْنَ حَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسَيِّبِ بْنِ وَاضِحٍ السُّلَمِيِّ عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ أَبَدًا، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ “. وَالْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ كُلُّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ تَبْلُغُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ وَلَا تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا التَّوَاتُرَ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ (1) الْخَطَأِ وَالضَّلَالَةِ عَنِ الْأُمَّةِ عِصْمَةَ جَمِيعِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ لَا بِتَأْوِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمْ (2) عِصْمَتَهُمْ عَنِ الْخَطَأِ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِيمَا يُوَافِقُ النَّصَّ الْمُتَوَاتِرَ أَوْ دَلِيلَ الْعَقْلِ، دُونَ مَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْ كُلِّ خَطَأٍ وَضَلَالٍ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأُمَّةِ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ امْتِنَاعُ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ عَلَيْهِمْ.
سَلَّمْنَا انْتِفَاءَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ عَنِ الْإِجْمَاعِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، مَعَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفَرْعِيَّاتِ مُصِيبٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدِ الْمُصِيبِينَ اتِّبَاعُ الْمُصِيبِ الْآخَرِ.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَلَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَالْمَعْقُولِ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى (3) .
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ كَانَ خَبَرَ وَاحِدٍ يَجُوزُ تَطَرُّقُ الْكَذِبِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ مِنْ جُمْلَتِهَا قَصْدُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْظِيمَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعِصْمَتَهَا عَنِ الْخَطَأِ كَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ سَخَاءُ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ، وَفِقْهُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى عَائِشَةَ دُونَ بَاقِي نِسَائِهِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي آحَادُهَا آحَادٌ، غَيْرَ أَنَّهَا نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ التَّوَاتُرِ (4) .
(1) بِهِ: صَوَابُهُ: بِنَفْيِ.
(2) بِهِمْ، صَوَابُهُ: بِهِ، أَيْ بِنَفْيِ الْخَطَأِ. إِلَخْ.
(3) انْظُرِ الْمُعَارَضَةَ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ ص 202، 203.
(4) صَوَابُهُ: الْمُتَوَاتِرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَمْ تَزَلْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُتَمَسَّكًا بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهَا وَلَا نَكِيرٍ إِلَى زَمَانِ وُجُودِ الْمُخَالِفِينَ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِإِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ، وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ مَعَ تَكَرُّرِ الْأَزْمَانِ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَبِّهَ أَحَدٌ عَلَى فَسَادِهِ وَإِبْطَالِهِ وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فَلَا قَطْعَ.
قَوْلُكُمْ: إِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى الْإِجْمَاعِ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، بَلْ بِغَيْرِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى صِحَّةِ الْأَحَادِيثِ بِالْإِجْمَاعِ.
سَلَّمْنَا اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُ دَوْرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَحَادِيثِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ عَدَمِ النَّكِيرِ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا.
وَذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهَا لِبِنَاءِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ عَلَيْهَا لِإِحَالَةِ (1) الْعَادَةِ أَنْ لَا تُعَرِّفَ الصَّحَابَةُ لِلتَّابِعِينَ طَرِيقَ صِحَّتِهَا؛ قَطْعًا لِلشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ.
قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ فَلَوْ وُجِدَ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ نَكِيرٌ لَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَعَظُمَ الْخِلَافُ فِيهِ، كَاشْتِهَارِ خِلَافِهِمْ فِيمَا هُوَ دُونَهُ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، وَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَحَدِّ الشُّرْبِ، وَمَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتِ الْعَادَةُ تُحِيلُ عَدَمَ نَقْلِهِ، بَلْ كَانَ نَقْلُهُ أَوْلَى مِنْ نَقْلِ مَا خُولِفَ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، بَلْ أَوْلَى مِنْ نَقْلِ خِلَافِ النَّظَّامِ فِي ذَلِكَ مَعَ خَفَائِهِ وَقِلَّةِ الِاعْتِبَارِ بِقَوْلِهِ.
وَجَوَابُ الثَّانِي: مَا ظَهَرَ وَاشْتَهَرَ مِنْ تَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ لِمُخَالِفِ الْجَمَاعَةِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْهُمْ ظُهُورًا لَا رَيْبَ فِيهِ.
(1) صَوَابُهُ لَأَحَالَتْ، وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ جَوَابُ: لَوْ.
وَجَوَابُ الثَّالِثِ: أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْبَارِ لَمْ يَكُنْ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ بِالْعَادَةِ الْمُحِيلَةِ لِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا لَا صِحَّةَ لَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْأَحْكَامِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْعَادَةِ غَيْرُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْعَادَةِ عَلَى إِحَالَةِ دَعْوَى وُجُودِ مُعَارِضٍ لِلْقُرْآنِ وَانْدِرَاسِهِ، وَوُجُودِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ صَلَاةِ الضُّحَى وَصَوْمِ شَوَّالٍ وَنَحْوِهِ.
وَجَوَابُ الرَّابِعِ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ قَدْ عَلِمَتْ صِحَّةَ الْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ وَكَوْنَهَا مُفِيدَةً لِلْعِلْمِ، بِعِصْمَةِ الْأُمَّةِ لَا بِصَرِيحِ مَقَالٍ بَلْ بِقَرَائِنِ أَحْوَالٍ وَأَمَارَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى ذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى نَقْلِهَا، وَلَوْ نُقِلَتْ لَتَطَرَّقَ إِلَيْهَا التَّأْوِيلُ وَالِاحْتِمَالُ، وَاكْتَفَوْا بِمَا يَعْلَمُهُ التَّابِعُونَ مِنْ أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا لَا أَصْلَ لَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ (1) .
قَوْلُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَفَى عَنْهُمُ الضَّلَالَ وَالْخَطَأَ بِمَعْنَى الْكُفْرِ (2) .
قُلْنَا: هَذِهِ الْأَخْبَارُ نَعْلَمُ أَنَّهَا إِنَّمَا وَرَدَتْ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ، وَفِي حَمْلِهَا عَلَى نَفْيِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ خَاصَّةً إِبْطَالُ فَائِدَةِ اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ لِمُشَارَكَةِ بَعْضِ آحَادِ النَّاسِ لِلْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ أَرَادَ بِهَا الْعِصْمَةَ عَمَّا لَا يُعْصَمُ عَنْهُ الْآحَادُ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ بَاقِي التَّأْوِيلَاتِ فَبَاطِلٌ.
فَإِنَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ إِنَّمَا وَرَدَتْ لِإِيجَابِ مُتَابَعَةِ الْأُمَّةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَالزَّجْرِ عَنْ مُخَالَفَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ، بَلْ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَخْبَارِ؛ لَامْتَنَعَ إِيجَابُ مُتَابَعَتِهِمْ فِيهِ لَكِنَّهُ (3) غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَبَطَلَتْ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْأُمَّةِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ تَعْظِيمِهَا لِمُشَارَكَةِ آحَادِ النَّاسِ لَهُمْ فِي نَفْيِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ عَنْهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ.
(1) هَذَا آخِرُ الْأَجْوِبَةِ الْأَرْبَعَةِ عَنِ الْأَمْثِلَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ. . إِلَخْ.
(2) هَذَا مُلَخَّصُ السُّؤَالِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ كُلُّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ. . إِلَخْ.
(3) لَكِنَّهُ صَوَابُهُ لِكَوْنِهِ، وَهُوَ عِلَّةٌ لِامْتِنَاعِ إِيجَابِ الْمُتَابَعَةِ.
وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ: مَا سَبَقَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ انْتِقَاءُ الْخَطَأِ عَنِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قَطْعًا، فَمُخَالِفُهُ يَكُونُ مُخْطِئًا قَطْعًا، وَالْمُخْطِئُ قَطْعًا فِي أُمُورِ الدِّينِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ لَا يَخْرُجُ عَنِ التَّبْدِيعِ وَالتَّفْسِيقِ، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ سِوَى ذَلِكَ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْخَطَأِ عَنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ وَاجِبًا نَفْيًا لِلْخَطَأِ عَنْهُمْ وَعَنِ الْمُعَارَضَاتِ (1) النَّقْلِيَّةِ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ – وَهُمْ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ – إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى حُكْمِ قَضِيَّةٍ وَجَزَمُوا بِهِ جَزْمًا قَاطِعًا، فَالْعَادَةُ تُحِيلُ عَلَى مِثْلِهِمُ الْحُكْمَ الْجَزْمَ بِذَلِكَ وَالْقَطْعَ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مُسْتَنَدٌ قَاطِعٌ (2) بِحَيْثُ لَا يَتَنَبَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَى الْخَطَأِ فِي الْقَطْعِ بِمَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ.
وَلِهَذَا وَجَدْنَا أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ قَاطِعِينَ بِتَخْطِئَةِ مُخَالِفِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ لَاسْتَحَالَ فِي الْعَادَةِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْقَطْعِ بِتَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ وَلَا يَقِفُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ.
وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ لَمْ يَرَ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عِنْدَمَا إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُجْمِعِينَ يَنْقُصُ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِجْمَاعُ الْمُحْتَجُّ بِهِ خَصِيصًا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي إِجْمَاعِ كُلِّ مَنْ بَلَغَ عَدَدُهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
وَقَدِ احْتَجَّ الشِّيعَةُ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ (3) مَا مِنْ عَصْرٍ إِلَّا وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِمَامٍ مَعْصُومٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ فِي ذَلِكَ فِي ” أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ ” فَإِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى حُكْمِ حَادِثَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِيهِمُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ لِكَوْنِهِ سَيِّدَ الْعُلَمَاءِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الِاتِّفَاقُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِمَامُ الْمَعْصُومُ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا
(1) انْظُرِ الْجَوَابَ عَنِ الْمُعَارَضَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ فِي ص 209 – 210 – 211
(2) جُمْلَةُ وَلَيْسَ لَهُ مُسْتَنَدٌ قَاطِعٌ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تُحِيلُ.
(3) بِأَنَّ – صَوَابُهُ: بِأَنَّهُ.
مَقْطُوعًا بِهِ، وَمَا وَافَقَهُ مِنْ قَوْلِ بَاقِي الْأُمَّةِ أَيْضًا يَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْمَقْطُوعِ بِهِ، وَمُخَالِفُ الْقَاطِعِ مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى فَالْعَادَةُ لَا تُحِيلُ الْخَطَأَ عَلَى الْخَلْقِ الْكَثِيرِ بِظَنِّهِمْ مَا لَيْسَ قَاطِعًا قَاطِعًا.
وَلِهَذَا فَإِنَّ الْيَهُودَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةً تَخْرُجُ عَنْ حَدِّ التَّوَاتُرِ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْكَارِ رِسَالَتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِخَطَئِهِمْ فِي ظَنِّ مَا لَيْسَ قَاطِعًا قَاطِعًا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِاسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، أَوْ لَا يُقَالَ بِاسْتِحَالَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا حَقًّا لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ (1) .
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي إِبْطَالِ التَّمَسُّكِ هَاهُنَا بِالْعَادَةِ لَازَمٌ عَلَيْكُمْ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالسُّنَّةِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، فَإِنَّ حَاصِلَهُ آيِلٌ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْعَادَةِ، وَفِيهِ إِبْطَالُ مَا قَرَّرْتُمُوهُ.
قُلْنَا: الَّذِي تَمَسَّكْنَا بِهِ مِنَ الْعَادَةِ إِحَالَةُ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى إِسْنَادِ الْمَقْطُوعِ إِلَى الْأَخْبَارِ الَّتِي مُسْتَنَدُ الْعِلْمِ بِهَا وَبِمَدْلُولِهَا السَّمَاعُ الْمَحْسُوسُ أَوْ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ، وَالَّذِي لَا نُحِيلُهُ فِي الْعَادَةِ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ الْغَلَطُ بِظَنِّ مَا لَيْسَ مَقْطُوعًا مَقْطُوعًا بِهِ فِيمَا هُوَ نَظَرِيٌّ وَطُرُقُهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْسُوسٍ، وَلَا مُسْتَنَدُ الْعِلْمِ بِهِ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ فَافْتَرَقَ الْبَابَانِ.
(1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا فِي ص 197، وَاقْرَأْ مَا يَأْتِي مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالسِّيرَةِ لِتَعْلَمَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى إِنْكَارِ نُبُوُّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ عِنَادًا وَحَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا خَدَعُوا الْأُمِّيِّينَ مِنْهُمْ فَتَبِعُوهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) الْآيَاتِ – الْمَائِدَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) الْآيَاتِ – آلِ عِمْرَانَ، وَقَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) الْآيَاتِ، الْقَصَصِ، وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) الْأَحْقَافِ، وَقَالَ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) الْبَقَرَةِ. وَقَالَ: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الْآيَاتِ – آلِ عِمْرَانَ، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) الْآيَةَ – الْمَائِدَةِ.
وَأَمَّا حُجَّةُ الشِّيعَةِ فَمَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُودِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فِي كُلِ عَصْرٍ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ بِالِاعْتِرَاضَاتِ الْقَادِحَةِ وَالْإِشْكَالَاتِ الْمُشَكْلَةِ عَلَى جِهَةِ الْوَفَاءِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي مَوْضِعِهِ اللَّائِقِ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَعَلَيْكَ بِمُرَاجَعَتِهِ (1) .