كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ
إِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ أَوْ أَهْلُ أَيِّ عَصْرٍ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَهَلْ يَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ خِلَافِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمَنْعُ مِنْ جَوَازِ الْمَصِيرِ إِلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ؟
اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ قَطَعَ بِجَوَازِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْخِلَافِ الْقِيَاسَ وَالِاجْتِهَادَ لَا دَلِيلًا قَاطِعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَلَمْ يُجَوِّزِ انْعِقَادَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ عَلَى الْحُكْمِ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ (1) إِلَى دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ أَوْ قَطْعِيٍّ أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً قَاطِعَةً مَانِعَةً مِنْ مُخَالَفَتِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اسْتَقَرَّ خِلَافُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَهُوَ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَلَوْ تُصُوِّرَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ مِنْهُ الْمُحَالُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَقْرِيرِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (2) .
وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالِانْفِصَالِ فَهُوَ بِعَيْنِهِ مُتَوَجِّهٌ هَاهُنَا فَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِهِ وَنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَخْتَصُّ بِسُؤَالٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا اتَّفَقَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ أَوْ أَهْلُ أَيِّ عَصْرٍ كَانَ عَلَى حُكْمٍ وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَظْهَرَ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ مَا ظَهَرَ لِبَاقِي الْأُمَّةِ، وَمَعَ ظُهُورِ ذَلِكَ لَهُ إِنْ مَنَعْنَاهُ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى
(1) الصَّوَابُ: نَصْبُ مُسْتَنِدٌ ; لِكَوْنِهِ خَبَرَ كَانَ.
(2) لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُحَالُ لِمَا تَقَدَّمَ ص 275.
مُقْتَضَاهُ فَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنَ الْحُكْمِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ وَلِبَاقِي الْأُمَّةِ مَعَهُ وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَيَقْطَعُ بِبُطْلَانِهِ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَإِنْ لَمْ نَمْنَعْهُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ فَقَدْ حَصَلَ الْوِفَاقُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْخِلَافِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قُلْنَا: لَوْ ظَهَرَ لَهُ مَا ظَهَرَ لِلْأُمَّةِ فَنَحْنُ لَا نُحِيلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِاسْتِحَالَةِ ظُهُورِهِ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ وَهُوَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ تَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ وَلُزُومِ الْخَطَأِ فِي أَحَدِهِمَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ (1) .
وَلَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُمُ الرَّاجِعُونَ بِأَعْيَانِهِمْ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَالْمُخَالِفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ بَعْضَ الْأُمَّةِ (2) الْخَائِضِينَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اتَّفَقُوا عَلَيْهَا وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُجْمِعُونَ هُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِشْكَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْأُولَى.
وَعَلَى هَذَا نَقُولُ إِنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ وَبَقِيَ الْقِسْمُ الْآخَرُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ إِجْمَاعًا مَانِعًا مِنَ الْأَخْذِ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ، وَالْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِهِ مَا سَبَقَ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ.