[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ هَلْ يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ]

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)


[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ هَلْ يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
اخْتَلَفُوا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: هَلْ يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ أَوْ لَا؟
فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ مِنِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدِ فِيهِمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ (1) .
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ إِنَّمَا هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْوَاحِدِ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ وَلَا إِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّشْبِيهِ وَالْقِيَاسِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، وَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُ فِي إِثْبَاتِهِ عَلَى مَشْرُوطِهِ، فَكَانَ إِلْحَاقُ الشَّرْطِ بِالْمَشْرُوطِ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِهِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِغَيْرِهِ.
وَقَدِ اعْتُبِرَ الْعَدَدُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ دُونَ قَبُولِ الرِّوَايَةِ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِي شَرْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي مَشْرُوطِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّزْكِيَةُ وَالتَّعْدِيلُ شَهَادَةٌ، فَكَانَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِيهِمَا كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ.
قُلْنَا لَيْسَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بِأَنَّهَا إِخْبَارٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي قَبُولِهَا كَنَفْسِ الرِّوَايَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ.
قُلْنَا: بَلْ مَا يَقُولُهُ الْخَصْمُ أَوْلَى حَذَرًا مِنْ تَضْيِيعِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ.
كَيْفَ وَأَنَّ اعْتِبَارَهُ قَوْلَ الْوَاحِدِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاعْتِبَارَ ضَمِّ قَوْلِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ أَوْلَى مِمَّا يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَتُهُ (2) .


(1) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ
(2) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْخَامِسَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ فِي الْقَوْلِ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ هَلْ تَمَسَّكَ قَائِلُهُ بِالْإِجْمَاعِ أَوِ اسْتَنَدَ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ

[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ دُونَ ذِكْرِ سَبَبِهِمَا]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ دُونَ ذِكْرِ سَبَبِهِمَا فَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ فِيهِمَا، أَمَّا فِي الْجَرْحِ فَلِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يُجْرَحُ بِهِ، فَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَهُ جَارِحًا وَغَيْرُهُ لَا يَرَاهُ جَارِحًا، وَأَمَّا فِي الْعَدَالَةِ فَلِأَنَّ مُطْلَقَ التَّعْدِيلِ لَا يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلثِّقَةِ بِالْعَدَالَةِ لِجَرْيِ الْعَادَةِ بِتَسَارُعِ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ فِيهِمَا اكْتِفَاءً بِبَصِيرَةِ الْمُزَكِّي وَالْجَارِحِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبَى بَكْرٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ” لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ الْجَرْحِ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يُجْرَحُ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّ سَبَبَهَا وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ “.
وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ الْحَالَ وَاعْتَبَرَ ذِكْرَ سَبَبِ الْعَدَالَةِ دُونَ الْجَرْحِ، وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي وَالْجَارِحُ عَدْلًا بَصِيرًا بِمَا يَجْرَحُ بِهِ وَيَعْدِلُ، أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، أَوْ كَانَ عَدْلًا وَلَيْسَ بَصِيرًا، فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا بَصِيرًا وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِمُطْلَقِ جَرْحِهِ وَتَعْدِيلِهِ، إِذِ الْغَالِبُ مَعَ كَوْنِهِ عَدْلًا بَصِيرًا أَنَّهُ مَا أَخْبَرَ بِالْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ إِلَّا وَهُوَ صَادِقٌ فِي مَقَالِهِ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ إِظْهَارِ السَّبَبِ مَعَ ذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُجْرَحُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا إِلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ الْبَصِيرِ بِجِهَاتِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَنَّهُ أَيْضًا يَكُونُ عَارِفًا بِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ الْجَرْحُ إِلَّا فِي صُورَةٍ عُلِمَ الْوِفَاقُ عَلَيْهَا (1) وَإِلَّا كَانَ مُدَلِّسًا مُلَبِّسًا بِمَا يُوهِمُ الْجَرْحُ عَلَى مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ، وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَدَالَةِ وَالدِّينِ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ مَا أَطْلَقَ التَّعْدِيلَ إِلَّا بَعْدَ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِسَرِيرَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ، وَمَعْرِفَةِ اشْتِمَالِهِ عَلَى سَبَبِ الْعَدَالَةِ دُونَ الْبِنَاءِ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ.


(1) هَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ فَقَدْ وُجِدَ مَنْ أَطْلَقَ الْجَرْحَ كَشُعْبَةَ، فَلَمَّا اسْتُفْسِرَ فَسَّرَهُ بِمَا فِي الْجَرْحِ بِهِ خِلَافٌ، انْظُرْ كَلَامَ شُرَّاحِ أَلْفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّ لِلْأَبْيَاتِ الْآتِيَةِ:
وَلَمْ يَرَوْا قَبُولَ جَرْحٍ أَبْهَمَا – لِلْخُلْفِ فِي أَسْبَابِهِ وَرُبَّمَا اسْتُفْسِرَ الْجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ كَمَا – فَسَّرَهُ شُعْبَةُ بِالرَّكْضِ فَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الْأَثَرِ – كَشَيْخِي الصَّحِيحِ مَعَ أَهْلِ النَّظَرِ اهـ. وَلَيْسَ ذَلِكَ تَدْلِيسًا؛ لِأَنَّهُ جَرَحَ الرَّاوِيَ بِمَا هُوَ جَرْحٌ فِي نَظَرِهِ

[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إِذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ]

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
إِذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجَارِحُ قَدْ عَيَّنَ السَّبَبَ، أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ: فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ فَقَوْلُ الْجَارِحِ يَكُونُ مُقَدَّمًا لِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُعَدِّلُ، وَلَا نَفَاهُ لِامْتِنَاعِ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّفْيِ.
وَإِنْ عَيَّنَ السَّبَبَ بِأَنْ يَقُولَ تَقْدِيرًا: رَأَيْتُهُ، وَقَدْ قَتَلَ فُلَانًا، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ الْمُعَدِّلُ لِنَفْيِ ذَلِكَ، أَوْ يَتَعَرَّضَ لِنَفْيِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَقَوْلُ الْجَارِحِ يَكُونُ مُقَدَّمًا لِمَا سَبَقَ، وَإِنْ تَعَرَّضَ لِنَفْيِهِ بِأَنْ قَالَ: رَأَيْتُ فُلَانًا الْمُدَّعَى قَتَلَهُ حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَاهُنَا يَتَعَارَضَانِ، وَيَصِحُّ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَشِدَّةِ الْوَرَعِ وَالتَّحَفُّظِ، وَزِيَادَةِ الْبَصِيرَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تُرَجَّحُ بِهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ (1) .


(1) أَيْ فِي قَاعِدَةِ التَّرْجِيحِ

[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي طُرُقِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ]

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
فِي طُرُقِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ
أَمَّا طُرُقُ التَّعْدِيلِ فَمُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُصَرِّحَ الْمُزَكِّي بِالتَّعْدِيلِ قَوْلًا، أَوْ لَا يُصَرِّحُ بِهِ.
فَإِنْ صَرَّحَ بِهِ بِأَنْ يَقُولَ: ” هُوَ عَدْلٌ ” رِضًا، فَإِمَّا أَنْ يَذْكُرَ مَعَ ذَلِكَ السَّبَبَ بِأَنْ يَقُولَ (لِأَنِّي عَرَفْتُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا) أَوْ لَا يَذْكُرُ السَّبَبَ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَهُوَ تَعْدِيلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ مِنْهُ التَّعْدِيلُ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهَذَا الطَّرِيقُ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ وَلِنُقْصَانِ الْبَيَانِ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ (1) .
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْدِيلِ قَوْلًا، لَكِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ، أَوْ عَمِلَ بِرِوَايَتِهِ، أَوْ رَوَى عَنْهُ خَبَرًا.
فَإِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ فَهُوَ أَيْضًا تَعْدِيلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ الْحَاكِمُ فَاسِقًا بِشَهَادَةِ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ عِنْدَهُ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَعْلَى مِنَ التَّزْكِيَةِ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ لِتَفَاوُتِهِمَا فِي الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّزْكِيَةِ مَعَ ذِكْرِ السَّبَبِ، فَالْأَشْبَهُ التَّعَادُلُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِمَا.
وَالْأَوَّلُ وَإِنِ اخْتَصَّ بِذِكْرِ السَّبَبِ، فَهَذَا مُخْتَصٌّ بِإِلْزَامِ الْغَيْرِ بِقَبُولِ الشَّاهِدِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا إِنْ عَمِلَ بِرِوَايَتِهِ عَلَى وَجْهٍ عُلِمَ أَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِي الْعَمَلِ سِوَاهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ أَيْضًا تَعْدِيلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ عَمَلُهُ بِرِوَايَةِ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ فِسْقًا.
وَهَذَا الطَّرِيقُ، وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ مُسْتَنِدًا إِلَى ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا، كَمَا فِي التَّعْدِيلِ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ


(1) هَذَا فِيمَا إِذَا أَثْنَى عَلَى مَنْ زَالَتْ عَنْهُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ، أَمَّا إِذَا أَثْنَى عَلَى مُبْهَمٍ، كَأَنْ يَقُولُ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُتَوَقَّفُ فِي الْحُكْمِ بِعَدَالَتِهِ حَتَّى تَزُولَ عَنْهُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ، وَيُنْظَرُ فِي حَالِهِ فَقَدْ يَعْلَمُ فِيهِ جَرْحًا غَيْرُ مَنْ عَدَّلَهُ

السَّبَبِ، فَهُوَ رَاجِحٌ عَلَى التَّعْدِيلِ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ السَّبَبِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَالِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَمَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّزْكِيَةِ بِالْقَوْلِ مَعَ ذِكْرِ السَّبَبِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ أَعْلَى مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ.
وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ فِيهِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ كَمَا سَيَأْتِي تَعْرِيفُهُ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ وَالِاحْتِرَازُ فِيهَا أَتَمَّ وَأَوْفَى.
وَأَمَّا إِنْ رَوَى عَنْهُ، فَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ تَعْدِيلٌ أَوْ لَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ وَقَالَ: إِنْ عُرِفَ مِنْ قَوْلِ الْمُزَكِّي أَوْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنِ الْعَدْلِ، فَهُوَ تَعْدِيلٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالرِّوَايَةِ عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْ عَدَالَتِهِ لَتُوُقِّفَ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِعَدَالَتِهِ، أَنْ يَكُونَ مُلَبِّسًا مُدَلِّسًا فِي الدِّينِ كَمَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ أَوْجَبَتْ رِوَايَتُهُ عَنْهُ عَلَى الْغَيْرِ الْعَمَلَ بِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ قَالَ: (سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا) فَعَلَى السَّامِعِ بِالْكَشْفِ عَنْ حَالِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ إِنْ رَامَ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى رِوَايَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُقَصِّرًا، وَهَذَا الطَّرِيقُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الطُّرُقِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالتَّعْدِيلِ فَظَاهِرٌ، وَلَا سِيَّمَا إِنِ اقْتَرَنَ بِذِكْرِ السَّبَبِ لِلِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ.
وَلِهَذَا يَكُونُ مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَلِاخْتِصَاصِ الشَّهَادَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ بِالرِّوَايَةِ، فَلِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ الرِّوَايَةِ وَاخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالْعَمَلِ بِهَا.
وَأَمَّا طُرُقُ الْجَرْحِ، أَنْ يُصَرِّحَ بِكَوْنِهِ مَجْرُوحًا، وَيَذْكُرَ مَعَ ذَلِكَ سَبَبَ الْجَرْحِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ سَبَبَ الْجَرْحِ، فَهُوَ جَرْحٌ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لَكِنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ، لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَلِلِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ مِنَ الْجَرْحِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ وَالْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْجَرْحِ.
وَذَلِكَ إِمَّا لِمُعَارِضٍ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ غَيْرُ ضَابِطٍ أَوْ لِغَلَبَةِ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ، وَلَا الشَّهَادَةُ بِالزِّنَا، وَكُلُّ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُكْمِلْ نِصَابَ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهُ

لَمْ يَأْتِ بِصَرِيحِ الْقَذْفِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ مَجِيءَ الشَّهَادَةِ، وَلَا بِمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، كَاللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ وَشُرْبِ النَّبِيذِ وَنَحْوِهِ، وَلَا بِالتَّدْلِيسِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ مَنْ لَمْ يُعَاصِرِ الزُّهْرِيَّ مَثَلًا، وَلَكِنَّهُ رَوَى عَمَّنْ لَقِيَهُ قَوْلًا يُوهِمُ أَنَّهُ لَقِيَهُ (1) وَكَقَوْلِهِ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ وَرَاءَ النَّهْرِ، مُوهِمًا أَنَّهُ يُرِيدُ جَيْحَانَ، وَإِنَّمَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى نَهْرِ عِيسَى مَثَلًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمَعَارِيضِ الْمُغْنِيَةِ عَنِ الْكَذِبِ.

[الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ]

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ (2) .
وَقَالَ قَوْمٌ إِنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْعَدَالَةِ حُكْمُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي لُزُومِ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ عِنْدَ الرِّوَايَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عُدُولًا إِلَى حِينِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَبَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ فِي الْعَدَالَةِ عَنِ الرَّاوِي أَوِ الشَّاهِدِ مِنْهُمْ، إِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ.


(1) تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ أَنْ يَرْوِيَ الْمُحَدِّثُ عَمَّنْ لَقِيَهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ بِصِيغَةٍ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الِاتِّصَالِ، كَرِوَايَةِ مَنْ لَقِيَ الزُّهْرِيَّ حَدِيثًا عَنْهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ بِصِيغَةِ عَنْ، وَقَالَ لِيُوهِمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَكَانَ عَاصَرَهُ، وَلَمْ يَلْقَهُ فَمُرْسَلٌ خَفِيٌّ، وَمَنِ اكْتَفَى بِاشْتِرَاطِ الْمُعَاصَرَةِ فِي التَّدْلِيسِ جَعَلَ الْمُرْسَلَ الْخَفِيَّ نَوْعًا مِنْهُ، وَالصَّوَابُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ مَا فِي كَلَامِ الْآمِدِيِّ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ.
(2) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي تَعْرِيفِ الصَّحَابِيِّ وَطُرُقِ مَعْرِفَةِ صُحْبَتِهِ وَمَعْرِفَةِ حَالِهِ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي جَعَلَهَا فِي مَطْلَعِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْإِصَابَةِ فِي تَمْيِيزِ الصَّحَابَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا عَالِمًا مِنْهُمْ، فَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، لِخُرُوجِهِمْ عَنِ الْإِمَامِ الْحَقِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِرَدِّ رِوَايَةِ الْكُلِّ وَشَهَادَتِهِمْ ; لِأَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ فَاسِقٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُعَيَّنٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِقَبُولِ رِوَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَهَادَتِهِ إِذَا انْفَرَدَ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْعَدَالَةُ، وَقَدْ شَكَكْنَا فِي فِسْقِهِ، وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لِتَحَقُّقِ فِسْقِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ.
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَذَلِكَ بِمَا تَحَقَّقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَنَزَاهَتِهِمْ وَتَخْيِيرِهِمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ عُدُولًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وَهُوَ خِطَابٌ مَعَ الصَّحَابَةِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ” (1) وَالِاهْتِدَاءُ بِغَيْرِ عَدْلٍ مُحَالٌ.
وَقَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لِي أَصْحَابًا وَأَصْهَارًا وَأَنْصَارًا» ” (2) وَاخْتِيَارُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ لِمَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ.
وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ وَاشْتُهِرَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ مِنْ مُنَاصَرَتِهِمْ لِلرَّسُولِ وَالْهِجْرَةِ إِلَيْهِ، وَالْجِهَادِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ، وَإِقَامَةِ الْقَوَانِينِ، وَالتَّشَدُّدِ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ وَنَوَاهِيهِ، وَالْقِيَامِ بِحُدُودِهِ وَمَرَاسِيمِهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ حَتَّى قَامَ الدِّينُ وَاسْتَقَامَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْعَدَالَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْمَلَ كُلُّ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْفِتَنِ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنِ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ مَا صَارَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَوْفَقُ لِلدِّينِ وَأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَعَلَى هَذَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا أَوْ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَالْآخَرُ مُخْطِئٌ فِي اجْتِهَادِهِ.


(1) انْظُرْ مَا سَبَقَ تَعْلِيقًا ص 232 ج1.
(2) قَالَ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي تَذْكِرَةِ الْمَوْضُوعَاتِ: حَدِيثُ (إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ لِي أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا) فِيهِ ابْنُ عُبَيْدٍ، وَقَالَ: قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: وَالْحَدِيثُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ

وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، فَالشَّهَادَةُ وَالرِّوَايَةُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لَا تَكُونُ مَرْدُودَةً أَمَّا بِتَقْدِيرِ الْإِصَابَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا بِتَقْدِيرِ الْخَطَأِ مَعَ الِاجْتِهَادِ فَبِالْإِجْمَاعِ.
وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى مَا أَرَدْنَاهُ مِنْ بَيَانِ عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى بَيَانِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّحَابِيِّ.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ الخلاف فِي مُسَمَّى الصَّحَابِيِّ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
اخْتَلَفُوا فِي مُسَمَّى الصَّحَابِيِّ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ اخْتِصَاصَ الْمَصْحُوبِ، وَلَا رَوَى عَنْهُ، وَلَا طَالَتْ مُدَّةُ صُحْبَتِهِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَنْ رَأَى النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَاخْتَصَّ بِهِ اخْتِصَاصَ الْمَصْحُوبِ، وَطَالَتْ مُدَّةُ صُحْبَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ.
وَذَهَبَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى إِلَى أَنَّ هَذَا الِاسْمَ إِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَخَذَ عَنْهُ الْعِلْمَ.
وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَ آيِلًا إِلَى النِّزَاعِ فِي الْإِطْلَاقِ اللَّفْظِيِّ، فَالْأَشْبَهُ إِنَّمَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّاحِبَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّحْبَةِ، وَالصُّحْبَةُ تَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَمِنْهُ يُقَالُ صَحِبْتُهُ سَاعَةً، وَصَحِبْتُهُ يَوْمًا وَشَهْرًا، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ كَلَّمَنِي وَحَدَّثَنِي وَزَارَنِي، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُكَلِّمْهُ وَلَمْ يُحَدِّثْهُ وَلَمْ يَزُرْهُ سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَصْحَبُ فُلَانًا فِي السَّفَرِ، أَوْ لَيَصْحَبَنَّهُ، فَإِنَّهُ يَبَرُّ وَيَحْنَثُ بِصُحْبَتِهِ سَاعَةً.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: صَحِبْتُ فُلَانًا، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: صَحِبْتُهُ سَاعَةً أَوْ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَلْ أَخَذْتَ عَنْهُ الْعِلْمَ وَرَوَيْتَ عَنْهُ، أَوْ لَا، وَلَوْلَا أَنَّ الصُّحْبَةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَمْ تَكُنْ مُخْتَصَّةً بِحَالَةٍ مِنْهَا، لَمَا احْتِيجَ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ (1) .


(1) قَدْ يُقَالُ لَوْ كَانَتِ الصُّحْبَةُ شَامِلَةً لِجَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَمَا احْتِيجَ أَيْضًا إِلَى اسْتِفْهَامٍ

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الصَّاحِبَ فِي الْعُرْفِ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُكَاثِرِ الْمُلَازِمِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَصْحَابُ الْقَرْيَةِ، وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ وَأَصْحَابُ الرَّسُولِ، وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ، لِلْمُلَازِمِينَ لِذَلِكَ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ لِلْمُلَازِمِينَ لِدِرَاسَتِهِ وَمُلَازَمَتِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ لَمْ يَصْحَبْ فُلَانًا، لَكِنَّهُ وَفَدَ عَلَيْهِ أَوْ رَآهُ أَوْ عَامَلَهُ، وَالْأَصْلُ فِي النَّفْيِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ مِنْ أَخْذِ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ (1) وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ رَآهُمَا وَعَاشَرَهُمَا طَوِيلًا وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُمَا، أَنَّهُ صَاحِبٌ لَهُمَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْمَ الصَّاحِبِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمُكَاثِرِ الْمُلَازِمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ إِطْلَاقِ اسْمِ الصَّاحِبِ عَلَى الْمُلَازِمِ الْمُكَاثِرِ كَمَا فِي الصُّوَرِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا امْتِنَاعُ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ بِصِحَّةِ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَاثِرِ وَغَيْرِهِ حَقِيقَةً، نَظَرًا إِلَى مَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ، وَالِاشْتِرَاكُ عَنِ اللَّفْظِ وَصِحَّةِ النَّفْيِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الصَّاحِبَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَإِنْ كَانَ لِمَنْ قَلَّتْ صُحْبَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ لِمَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ، فَإِنْ أُرِيدَ نَفْيُ الصُّحْبَةِ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ فَحَقٌّ، وَإِنْ أُرِيدَ نَفْيُهَا بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فَلَا يَصِحُّ.
وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا قِيلَ مِنِ اشْتِرَاطِ أَخْذِ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ عَنْهُ أَيْضًا.
وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ مَنْ عَاصَرَ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَا صَحَابِيٌّ مَعَ إِسْلَامِهِ وَعَدَالَتِهِ، فَالظَّاهِرُ صِدْقُهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُصَدَّقَ فِي ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا بِدَعْوَى رُتْبَةٍ يُثْبِتُهَا لِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنَا عَدْلٌ، أَوْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِحَقٍّ.
هَذَا مَا أَرَدْنَاهُ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ.


(1) الْمُزَنِيُّ هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ مَاتَ سَنَةَ 264 هـ عَنْ 89 سَنَةً، وَأَبُو يُوسُفَ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيُّ الْكُوفِيُّ الْحَنَفِيُّ الْقَاضِي، مَاتَ سَنَةَ 182، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ مَاتَ سَنَةَ 189.

وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي ظُنَّ أَنَّهَا شُرُوطٌ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ.
فَشُرُوطٌ: مِنْهَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ الْخَبَرِ الْعَدَدُ، بَلْ يَكْفِي فِي الْقَبُولِ خَبَرُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ، خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُقْبَلُ إِلَّا أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ خَبَرُ عَدْلٍ آخَرَ، أَوْ مُوَافَقَةٌ ظَاهِرًا، وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَشِرًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَمَلَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْخَبَرُ فِي الزِّنَا إِلَّا مِنْ أَرْبَعَةٍ.
وَالْوَجْهُ فِي الِاحْتِجَاجِ وَالِانْفِصَالِ مَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَأَيْضًا فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الذُّكُورَةُ لِمَا اشْتُهِرَ مِنْ أَخْذِ الصَّحَابَةِ بِأَخْبَارِ النِّسَاءِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَلَا الْبَصَرُ، بَلْ يَجُوزُ قَبُولُ رِوَايَةِ الضَّرِيرِ إِذَا كَانَ حَافِظًا لِمَا يَسْمَعُهُ وَلَهُ آلَةُ أَدَائِهِ.
وَلِهَذَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ تَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ مَا تَسْمَعُهُ مِنْ صَوْتِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ شَخْصَهَا: وَلَا عَدَمُ الْقَرَابَةِ، بَلْ تَجُوزُ رِوَايَةُ الْوَلَدِ، وَبِالْعَكْسِ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا عَدَمُ الْعَدَاوَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّوَايَةِ عَامٌّ، فَلَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، حَتَّى تَكُونَ الْعَدَاوَةُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ، وَلَا الْحُرِّيَّةُ، بَلْ هَذِهِ الْأُمُورُ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا فِي الرَّاوِي أَنْ يَكُونَ مُكْثِرًا مِنْ سَمَاعِ الْأَحَادِيثِ مَشْهُورَ النَّسَبِ، لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَرْوِ سِوَى خَبَرٍ وَاحِدٍ وَعَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ مَنْ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ، إِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِمَعْنَى الْخَبَرِ.
وَسَوَاءٌ كَانَتْ رِوَايَتُهُ مُوَافِقَةً لِلْقِيَاسِ أَوْ مُخَالِفَةً خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، لِقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا» ” إِلَى قَوْلِهِ: ” «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» ” دَعَا لَهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى الرِّوَايَةِ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولَ الْقَوْلِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ سَمِعُوا أَخْبَارَ آحَادٍ لَمْ يَكُونُوا فُقَهَاءَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى خَبَرِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ الرَّاوِي إِذَا كَانَ عَدْلًا مُتَدَيِّنًا أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا مَا يَتَحَقَّقُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمِعَهُ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *