كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
اتَّفَقَتِ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَجَمِيعُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ.
وَقَدِ اعْتَمَدَ الْقَائِلُونَ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عَلَى مَسْلَكَيْنِ ضَعِيفَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ مُوَلِّدًا لِلْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنَ الْخَبَرِ الْأَخِيرِ أَوْ مِنْهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَضِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُحَالٌ وَإِلَّا لَتَوَلَّدَ مِنْهُ بِتَقْدِيرِ انْفِرَادِهِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْمُسَبِّبُ الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْ سَبَبَيْنِ، كَمَا لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا بَيْنَ خَالِقَيْنِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا عَنِ الْخَبَرِ الْأَخِيرِ مَشْرُوطًا بِتَقَدُّمِ مَا وُجِدَ مِنَ الْأَخْبَارِ قَبْلَهُ وَعَدِمَتْ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا عَنِ الْجَمِيعِ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا عَنِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْ كُلٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَخْبَارِ. وَهَذَا مِمَّا لَا مَدْفَعَ لَهُ.
نَعَمْ لَوْ قِيلَ أَنَّ تَوَلُّدَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَخْبَارِ مُمْتَنِعٌ ضَرُورَةَ أَنَّ مَا تَقَضَّى مِنَ الْأَخْبَارِ مَعْدُومٌ وَلَا تَوَلَّدَ عَنِ الْمَعْدُومِ كَانَ مُتَّجِهًا.
الْمَسْلَكُ الثَّانِي، أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدِ اسْتَقَرَّ مِنْ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالتَّوَلُّدِ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ طَالِبٌ لِجِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّدَ عَنْهُ شَيْءٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، كَالِاعْتِمَادَاتِ وَالْحَرَكَاتِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ شَيْءٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَالْقَوْلُ وَالْخَبَرُ لَيْسَ
لَهُ جِهَةٌ فَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّدَ عَنْهُ الْعِلْمُ لَتَوَلَّدَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَذَلِكَ (1) مِمَّا لَا اتِّجَاهَ لَهُ مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ مَذَاهِبِ الْخُصُومِ، أَنَّ إِرْعَابَ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ مِمَّا يُوَلِّدُ فِيهِ الْوَجَلَ الْمُوَلِّدَ لِلِاصْفِرَارِ بَعْدَ الِاحْمِرَارِ، وَأَنَّ تَهْجِينَهُ لَهُ مِمَّا يُوَلِّدُ فِيهِ الْخَجَلَ الْمُوَلِّدَ لِلِاحْمِرَارِ بَعْدَ الِاصْفِرَارِ، وَإِنْ كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَنِ الْقَوْلِ الْمُرْهِبِ وَالْمُهَجِّنِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا مَا حَقَّقْنَاهُ فِي أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ، مِنَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى امْتِنَاعِ مُوجِدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ، فَوُجُودُهُ لَيْسَ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِهِ وَنَقْلِهِ إِلَى هُنَا.
فَإِنْ قِيلَ: اخْتِيَارُكُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنَّمَا هُوَ الْوَقْفُ عَنِ الْجَزْمِ بِكَوْنِ الْحَاصِلِ عَنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ هَاهُنَا مِنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى يُوجِبُ كَوْنَهُ اضْطِرَارِيًّا لِلْعَبْدِ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَأَمْكَنَ حُصُولُهُ عَنْ خَبَرِ الْجَمَاعَةِ الْمَفْرُوضِينَ بِسَبَبِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَأَمْكَنَ أَنْ لَا يَحْصُلَ بِسَبَبِ عَدَمِ خَلْقِهِ.
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ وَاجِبَ الْحُصُولِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ بِالِاخْتِيَارِ مُبَاشَرَةً، بَلْ بِالتَّوَلُّدِ عَمَّا هُوَ مُبَاشَرٌ بِالْقُدْرَةِ.
قُلْنَا: أَمَّا التَّنَاقُضُ فَمُنْدَفِعٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْعِلْمَ مُكْتَسَبٌ لِلْعَبْدِ، أَوْ هُوَ حَاصِلٌ لَهُ ضَرُورِيًّا، فَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا (2) .
قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَأَمْكَنَ أَنْ يَحْصُلَ وَأَنْ لَا يَحْصُلَ.
قُلْنَا: ذَلِكَ مُمْكِنٌ عَقْلًا، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ بِخَلْقِهِ لِلْعِلْمِ عِنْدَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ، كَمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِالشِّبَعِ عِنْدَ أَكْلِ الْخُبْزِ، وَالرِّيِّ عِنْدَ شُرْبِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ.
(1) وَذَلِكَ. إِلَخْ. جَوَابٌ عَنِ الْمَسْلَكِ الثَّانِي وَبَيَانٌ لِضَعْفِهِ.
(2) أَيْ: أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَكْسُوبَةٌ لِلْعَبْدِ، فَخَلْقُهُ تَعَالَى إِيَّاهَا لَا يُنَافِي كَسْبَ الْعَبْدِ لَهَا.