كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَقْتَضِي نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} يَقْتَضِي نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا وَقَعَ التَّفَاوُتُ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَقَدْ وَفَّى بِالْعَمَلِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ.
حُجَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَالنَّفْيُ دَاخِلٌ عَلَى مُسَمَّى الْمُسَاوَاةِ، فَلَوْ وُجِدَتِ الْمُسَاوَاةُ مِنْ وَجْهٍ لَمَا كَانَ مُسَمَّى الْمُسَاوَاةِ مُنْتَفِيًا، وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى اللَّفْظُ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِوَاءُ يَنْقَسِمُ إِلَى الِاسْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِلَى الِاسْتِوَاءِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلِهَذَا يَصْدُقُ قَوْلُ الْقَائِلِ: اسْتَوَى زَيْدٌ وَعَمْرٌو عِنْدَ تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَالِاسْتِوَاءُ مُطْلَقًا أَعَمُّ مِنَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَمِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَالنَّفْيُ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى الِاسْتِوَاءِ الْأَعَمِّ فَلَا يَكُونُ مُشْعِرًا بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ الْخَاصَّيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ الِاسْتِوَاءُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَإِلَّا لَوَجَبَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِوَائِهِمَا فِي أَمْرٍ مَا، وَلَوْ فِي نَفْيِ مَا سِوَاهُمَا عَنْهُمَا.
وَلَوْ صَدَقَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُسَاوِي لِتَنَاقُضِهِمَا عُرْفًا.
وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ: هَذَا مُسَاوٍ لِهَذَا فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قَالَ: لَا يُسَاوِيهِ وَالْمُتَنَاقِضَانِ لَا يَصْدُقَانِ مَعًا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ عَلَى شَيْئَيْنِ أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ مِنَ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَكْفِي فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُوجَبِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ فَثَبَتَ أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمَا صَدَقَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ حَقِيقَةً عَلَى شَيْئَيْنِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا وَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَمْرٍ مَا كَمَا سَبَقَ.
وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ إِذِ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ دُونَ الْمَجَازِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذِكْرَ الْأَعَمِّ مَتَى لَا يَكُونُ مُشْعِرًا بِالْأَخَصِّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلَ: مَا رَأَيْتُ حَيَوَانًا وَكَانَ قَدْ رَأَى إِنْسَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ كَاذِبًا.
وَعَنِ الثَّانِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ التَّسَاوِي مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
قَوْلُهُمْ: لَوْ كَفَى ذَلِكَ لَوَجَبَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِمَا قُرِّرَ، مُسَلَّمٌ.
قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُسَاوِي، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا قُرِّرَ.
فَهُوَ مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَكْفِي فِي إِطْلَاقِ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ إِطْلَاقُ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ عَلَى كُلِّ شَيْئَيْنِ لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا وَقَدْ تَفَاوَتَا مِنْ وَجْهٍ ضَرُورَةً تُعَيِّنُهُمَا، وَلَوْ صَدَقَ ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ الْمُسَاوِي لِتَنَاقُضِهِمَا عُرْفًا.
وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ: هَذَا غَيْرُ مُسَاوٍ لِهَذَا فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قَالَ: إِنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ، وَالْمُتَنَاقِضَانِ لَا يَصْدُقَانِ مَعًا.
وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ عَلَى شَيْئَيْنِ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِوَائِهِمَا، وَلَوْ فِي نَفْيِ مَا سِوَاهُمَا عَنْهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي اعْتِبَارِ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ مِنْ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَكْفِي فِي إِثْبَاتِ الْمُسَاوَاةِ الْمُسَاوَاةُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ السَّالِبِ جُزْئِيٌّ مُوجَبٌ.
وَفِيهِ إِبْطَالُ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ بِالْمُسَاوَاةِ مِنْ وَجْهٍ.
وَإِذَا تَقَابَلَ الْأَمْرَانِ سُلِّمَ لَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا.
وَعَنِ الثَّالِثِ لَا نُسَلِّمُ صِدْقَ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ مُطْلَقًا عَلَى مَا وَقَعَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهٍ.
قَوْلُهُمُ: الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، قُلْنَا: إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ.
وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَفِي مَعْنَى نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} .
[الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ الْمُقْتَضَى وَهُوَ مَا أُضْمِرَ ضَرُورَةَ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ لَا عُمُومَ لَهُ]
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
الْمُقْتَضَى وَهُوَ مَا أُضْمِرَ ضَرُورَةَ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ لَا عُمُومَ لَهُ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ” فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ رَفْعِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ، وَيَتَعَذَّرُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْكَذِبِ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ، ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حُكْمٍ يُمْكِنُ نَفْيُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوِ الْأُخْرَوِيَّةِ، ضَرُورَةَ صِدْقِهِ فِي كَلَامِهِ.
وَإِذَا كَانَتْ أَحْكَامُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مُتَعَدِّدَةً فَيَمْتَنِعُ إِضْمَارُ الْجَمِيعِ إِذِ الْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِإِضْمَارِ الْبَعْضِ، فَوَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِهِ ضَرُورَةَ تَقْلِيلِ مُخَالِفَةِ الْأَصْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُ الرَّفْعِ دَالًّا عَلَى رَفْعِ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ” يَدُلُّ عَلَى رَفْعِهِمَا مُسْتَلْزِمًا لِرَفْعِ أَحْكَامِهَا (1) .
فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي نَفْيِ الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِهِ فِي نَفْيِ الْأَحْكَامِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا وَضْعًا، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ؟ وَلِهَذَا يُقَالُ: لَيْسَ لِلْبَلَدِ سُلْطَانٌ، وَلَيْسَ لَهُ نَاظِرٌ وَلَا مُدَبِّرٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الصِّفَاتِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ غَيْرَ أَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى رَفْعِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ.
فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ وَجَبَ إِضْمَارُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجْعَلُ وُجُودَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ كَعَدَمِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِإِضْمَارِ الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ أَوْ لَا بِإِضْمَارِ شَيْءٍ أَصْلًا.
وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الْإِضْمَارِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ إِضْمَارُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ، ضَرُورَةَ تَسَاوِي نِسْبَةِ اللَّفْظِ إِلَى الْكُلِّ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى إِضْمَارِ الْجَمِيعِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَحْكَامِ بِوَاسِطَةِ نَفْيِ حَقِيقَةِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مُنْتَفِيًا (2) فَلَا يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِ الْأَحْكَامِ.
(1) أَحْكَامِهَا – الصَّوَابُ أَحْكَامِهِمَا
(2) مُنْتَفِيًا – فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مَنْفِيًّا
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْأَصْلَ إِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ وَعَدَمُ الْعُرْفِ الطَّارِئِ، فَمَنِ ادَّعَاهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِالصُّوَرِ فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ حَمْلِهَا عَلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ السُّلْطَانُ مَوْجُودًا وَلَا عَالِمًا وَلَا قَادِرًا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَعَنِ الثَّالِثِ قَوْلُهُمْ: إِضْمَارُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ نَفْيِ الْحَقِيقَةِ.
قُلْنَا: إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْثِيرُ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِلْأَحْكَامِ، وَهُوَ وُجُودُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ.
قَوْلُهُمْ: لَيْسَ إِضْمَارُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ قُلْنَا بِإِضْمَارِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ بِإِضْمَارِ حُكْمٍ مَا، وَالتَّعْيِينُ إِلَى الشَّارِعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِجْمَالُ فِي مُرَادِ الشَّارِعِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
قُلْنَا: لَوْ قِيلَ بِإِضْمَارِ الْكُلِّ لَزَمَ مِنْهُ زِيَادَةُ الْإِضْمَارِ، وَتَكْثِيرُ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ كَمَا سَبَقَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأُصُولِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، أَوْ مُسَاوِيَةً لَهُ أَوْ مَرْجُوحَةً.
فَإِنْ كَانَتْ رَاجِحَةً لَزِمَ الْعَمَلُ بِهَا.
وَإِنْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً فَهُوَ كَافٍ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي نَفْيِ زِيَادَةِ الْإِضْمَارِ، وَهُمَا تَقْدِيرَانِ، وَمَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ رَاجِحًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَتِمُّ التَّمَسُّكُ بِهِ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ أَرْجَحُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ.
[الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَفْعُولَاتِهِ أَمْ لَا]
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ
الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا آكُلُ أَوْ إِنْ أَكَلْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَفْعُولَاتِهِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَأَثْبَتَهُ أَصْحَابُنَا وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَنَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ لَوْ نَوَى بِهِ مَأْكُولًا مُعَيَّنًا قُبِلَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ لَهُ وَقَبُولِ الْعَامِّ لِلتَّخْصِيصِ بِبَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ، وَلَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَخْصِيصُهُ بِهِ، لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مِنْ تَوَابِعِ الْعُمُومِ وَلَا عُمُومَ.
حُجَّةُ أَصْحَابِنَا، أَمَّا فِي طَرَفِ النَّفْيِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ، أَنَّ قَوْلَهُ أَكَلْتُ فِعْلٌ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَأْكُولِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ وَصِيغَتِهِ، فَإِذَا قَالَ: لَا أَكَلْتُ فَهُوَ نَافٍ لِحَقِيقَةِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكْلٌ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْكُولٍ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ نَافِيًا لِحَقِيقَةِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكْلٌ، وَهُوَ خِلَافُ دَلَالَةِ لَفْظِهِ.
وَإِذَا كَانَ لَفْظُهُ دَالًّا عَلَى نَفْيِ حَقِيقَةِ الْأَكْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْكُولٍ، فَقَدْ ثَبَتَ عُمُومُ لَفْظِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْكُولٍ، فَكَانَ قَابِلًا لِلتَّخْصِيصِ.
وَأَمَّا فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ الْأَكْلِ الْمُطْلَقِ يَسْتَدْعِي مَأْكُولًا مُطْلَقًا، لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ، وَالْمُطْلَقُ مَا كَانَ شَائِعًا فِي جِنْسِ الْمُقَيَّدَاتِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ، فَكَانَ صَالِحًا لِتَفْسِيرِهِ وَتَقْيِيدِهِ بِأَيٍّ مِنْهَا كَانَ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: اعْتِقْ رَقَبَةً صَحَّ تَقْيِيدُهَا بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ دَلَالَةٌ لَمَا صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْأَكْلِ لَا تَتِمُّ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ نَوَى بِلَفْظِهِ مَكَانًا مُعَيَّنًا أَوْ زَمَانًا مُعَيَّنًا، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَالْفَرْقُ حَاصِلٌ.
، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَكَلْتُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ إِلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْفِعْلِ فَلَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ
دَالًّا عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلُ تَخْصِيصُ لَفْظِهِ بِهِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ، لَا عَلَى غَيْرِ مَدْلُولَاتِهِ بِخِلَافِ الْمَأْكُولِ عَلَى مَا سَبَقَ (1) .
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالْأَكْلُ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ لَفْظِهِ كُلِّيٌّ مُطْلَقٌ، وَالْمُطْلَقُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْمُخَصَّصِ فَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِ.
قُلْنَا: الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْأَكْلِ الْكُلِّيِّ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ، وَإِلَّا لَمَا حَنِثَ بِالْأَكْلِ الْخَاصِّ إِذْ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَكْلًا مُقَيَّدًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَكَلَاتِ الْمُقَيَّدَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وُقُوعُهَا فِي الْأَعْيَانِ أَيًّا مِنْهَا كَانَ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُهُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِغَيْرِ الْمُقَيَّدِ صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ: اعْتِقْ رَقَبَةً، وَفَسَّرَهُ بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ كَمَا سَبَقَ.
[الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ الْفِعْلُ وَإِنِ انْقَسَمَ إِلَى أَقْسَامٍ وَجِهَاتٍ فَالْوَاقِعُ مِنْهُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْهَا]
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ
الْفِعْلُ وَإِنِ انْقَسَمَ إِلَى أَقْسَامٍ وَجِهَاتٍ فَالْوَاقِعُ مِنْهُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَلَا يَكُونُ عَامًّا لِجَمِيعِهَا بِحَيْثُ يُحْمَلُ وُقُوعُهُ عَلَى جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – أَنَّهُ صَلَّى دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، فَصَلَاتُهُ الْوَاقِعَةُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ نَفْلًا، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا فَرْضًا نَفْلًا، فَيَمْتَنِعُ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ فِي دَاخِلِ الْكَعْبَةِ جَمِيعًا، إِذْ لَا عُمُومَ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا، وَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ إِلَّا بِدَلِيلٍ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ» ، فَالشَّفَقُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، فَصَلَاتُهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ الْحُمْرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ الْبَيَاضِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِ فِعْلِ الصَّلَاةِ بَعْدَهُمَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يَرَى حَمْلَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَحَامِلِهِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ.
فَإِنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: صَلَّى بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: صَلَّى بَعْدَ الشَّفَقَيْنِ.
(1) الْجَوَابُ الْأَوَّلُ بِعَدَمِ تَسْلِيمِ الْمُلَازَمَةِ هُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي مِثْلِ هَذَا كَالْعُرْفِ وَبِسَاطِ الْيَمِينِ، وَلِحَدِيثِ: ” إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى “
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا قَوْلُ الرَّاوِي: «كَانَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ» ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَيُحْتَمَلُ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ فِيهِمَا، بَلْ فِي أَحَدِهِمَا.
وَالتَّعَيُّنُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الدَّلِيلِ.
وَأَمَّا وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُتَكَرِّرًا عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ سَفَرَ النُّسُكِ وَغَيْرِهِ، فَلَيْسَ أَيْضًا فِي نَفْسِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، بَلْ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَاسْتِفَادَةُ ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي: كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ: كَانَ فُلَانٌ يُكْرِمُ الضَّيْفَ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّكْرَارُ دُونَ الْقُصُورِ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ.
وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَاجِبًا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ جَائِزًا لَهُ لَا عُمُومَ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ فِي حَقِّهِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا لَوْ صَلَّى وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَعْمِيمِ سُجُودِ السَّهْوِ فِي كُلِّ سَهْوٍ، بِمَا رُوِيَ عَنْهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ سَهَا فِي الصَّلَاةِ فَسَجَدَ، وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى تَعْمِيمِ مَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: ” كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيِّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ” فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى طِهَارَةِ مَنِيِّ الْآدَمِيِّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْفَرْكِ فِي حَقِّ غَيْرِ النَّبِيِّ مَعَ حُكْمِهِ بِنَجَاسَتِهِ.
(1) أَفْعَالُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَإِنْ كَانَتْ فِي ذَاتِهَا لَا عُمُومَ لَهَا إِلَّا أَنَّ صُدُورَهَا عَنْهُ بِصِفَتِهِ رَسُولًا مُشَرِّعًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ لِأُمَّتِهِ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، وَقَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ كِتَابًا وَسُنَّةً وَإِجْمَاعًا، وَعَلَيْهِ لَا حَاجَةَ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ فِي كُلِّ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى مُسَاوَاةِ أُمَّتِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ
وَكَذَلِكَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَاغْتَسَلْنَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمٍ أَجَابَ بِمَا يَخُصُّهُ، وَأَحَالَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ لَمَّا سَأَلَتْهُ أَمُّ سَلَمَةَ عَنِ الِاغْتِسَالِ قَالَ: ” أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِي ” وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ قَالَ: ” «أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ» “، وَلَوْلَا أَنَّ لِلْفِعْلِ عُمُومًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
قُلْنَا: أَمَّا تَعْمِيمُ سُجُودِ السَّهْوِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ السَّهْوُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَتَّبَ السُّجُودَ عَلَى السَّهْوِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْعَلِيَّةِ كَمَا يَأْتِي ذِكْرُهُ لَا لِعُمُومِ الْفِعْلِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ: ” «زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ» ” وَفِي قَوْلِهِ: ” «رَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ فَرَضَخَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رَأْسَهُ» “.
وَأَمَّا الْعَمَلُ بِخَبَرِ عَائِشَةَ فِي فَرْكِ الْمَنِيِّ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ وَقُبْلَةِ الصَّائِمِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْقِيَاسِ لَا إِلَى عُمُومِ الْفِعْلِ لِتَعَذُّرِهِ كَمَا (1) سَبَقَ، (2) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1) كَمَا – لَعَلَّهُ لِمَا
(2) سَبَقَ أَيْضًا أَنَّ الْفِعْلَ فِي ذَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لَكِنْ قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّشْرِيعُ لِلْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قُدْوَتُهَا حَتَّى يَثْبُتَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ مِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ بِالْقِيَاسِ