كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ هل يعم كل غرر]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ
قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» ، وَقَوْلُهُ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِلْجَارِ» ، وَنَحْوُهُ، اخْتَلَفُوا فِي تَعْمِيمِهِ لِكُلِّ غَرَرٍ وَكُلِّ جَارٍ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ مُعَوَّلُ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ الرَّاوِي، وَلَعَلَّهُ رَأَى النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَدْ نَهَى عَنْ فِعْلٍ خَاصٍّ لَا عُمُومَ لَهُ فِيهِ غَرَرٌ، وَقَضَى لِجَارٍ مَخْصُوصٍ فَنَقَلَ صِيغَةَ الْعُمُومِ لِظَنِّهِ عُمُومَ الْحُكْمِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَ صِيغَةً ظَنَّهَا عَامَّةً، وَلَيْسَتْ عَامَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَ صِيغَةً عَامَّةً.
وَإِذَا تَعَارَضَتِ الِاحْتِمَالَاتُ لَمْ يَثْبُتِ الْعُمُومُ، وَالِاحْتِجَاجُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَحْكِيِّ لَا بِنَفْسِ الْحِكَايَةِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مُنْقَدِحَةً غَيْرَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الرَّاوِيَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ صِيغَةَ الْعُمُومِ إِلَّا وَقَدْ سَمِعَ صِيغَةً لَا يَشُكُّ فِي عُمُومِهَا، لِمَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ مِنَ الدَّاعِي الدِّينِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ إِيقَاعِ النَّاسِ فِي وَرْطَةِ الِالْتِبَاسِ، وَاتِّبَاعِ مَا لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ قَاطِعًا بِالْعُمُومِ، فَلَا يَكُونُ نَقْلُهُ لِلْعُمُومِ إِلَّا وَقَدْ ظَهَرَ لَهُ الْعُمُومُ وَالْغَالِبُ إِصَابَتُهُ فِيمَا ظَنَّهُ ظَاهِرًا، فَكَانَ صِدْقُهُ فِيمَا نَقَلَهُ غَالِبًا عَلَى الظَّنِّ، وَمَهْمَا ظُنَّ صِدْقُ الرَّاوِي فِيمَا نَقَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَجَبَ اتِّبَاعُهُ (1) .
(1) وَيُؤَيِّدُ الْحَمْلَ عَلَى الْعُمُومِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ حُكْمُ النَّهْيِ وَالْقَضَاءِ مَثَلًا مِنَ الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَعُمُومُ الْمَعْنَى وَالْحِكْمَةِ الَّتِي رَعَاهَا الشَّارِعُ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ إِذَا حَكَمَ النَّبِيُّ بِحُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ وَذَكَرَ عِلَّتَهُ أَنَّهُ يَعُمُّ مَنْ وُجِدَتْ فِي حَقِّهِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِحُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ، وَذَكَرَ عِلَّتَهُ أَنَّهُ يَعُمُّ مَنْ وُجِدَتْ فِي حَقِّهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ.
وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي حَقِّ أَعْرَابِيٍّ مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ: ” «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» ” وَكَقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي قَتْلَى أُحُدٍ: ” «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا» ” وَكَمَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: حَرَّمْتُ الْمُسْكِرَ لِكَوْنِهِ حُلْوًا، عَمَّ التَّحْرِيمُ كُلَّ حُلْوٍ.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِنِ ادَّعَى عُمُومَ الْحُكْمِ نَظَرًا إِلَى الصِّيغَةِ الْوَارِدَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، كَيْفَ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّنْصِيصُ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ الْحُكْمَ فِي كُلِّ مَحَلٍّ وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ، لَكَانَ لِلْوَكِيلِ إِذَا قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: أَعْتِقْ عَبْدِي سَالِمًا لِكَوْنِهِ أَسْوَدَ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّ عَبْدٍ أَسْوَدَ لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبِيدِي السُّودَانَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ (1) .
وَإِنْ قِيلَ بِالْعُمُومِ نَظَرًا إِلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّعْمِيمِ فِي الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ شَرْعًا مِثْلُهُ فِيمَا إِذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدِي سَالِمًا لِكَوْنِهِ أَسْوَدَ إِذِ الْوَكِيلُ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ لَا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ.
وَعَلَى هَذَا فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْعِلَّةِ مَعْرِفَةُ كَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْحُكْمِ عَامًّا لِغَيْرِ مَحَلِّ التَّنْصِيصِ.
وَمَا يَقُولُهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَّلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَعْرَابِيِّ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ مَوْتِهِ مُسْلِمًا مُخْلِصًا فِي عِبَادَتِهِ مَحْشُورًا مُلَبِّيًا وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ لَا بِمُجَرَّدِ إِحْرَامِهِ، وَفِي قَتْلَى أُحُدٍ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِمْ فِي الْجِهَادِ وَتَحَقُّقِ شَهَادَتِهِمْ، لَا بِمُجَرَّدِ الْجِهَادِ.
وَفِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ لِكَوْنِهِ حُلْوًا مُسْكِرًا، وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ.
وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مُنْقَدِحًا غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ مِنْ تَعْلِيلِهِ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ وَالْجِهَادِ، وَتَرْكُ مَا ظَهَرَ مِنَ التَّعْلِيلِ لِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ مُمْتَنِعٌ.
(1) انْظُرْ مَا قَالَهُ مُنْكِرُو الْقِيَاسِ فِي الْمُعَارَضَةِ السَّادِسَةِ بِالْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ أَبْوَابِ الْقِيَاسِ، وَقَارِنْ بَيْنَ كَلَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
اخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِهِ هَلْ لَهَا عُمُومٌ أَوْ لَا؟
وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: الْمَفْهُومُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، وَهُوَ مَا كَانَ حُكْمُ السُّكُوتِ عَنْهُ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ، وَإِلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ مَا كَانَ حُكْمُ السُّكُوتِ عَنْهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ كَمَا فِي تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ تَنْصِيصِهِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ لَهُمَا، فَحُكْمُ التَّحْرِيمِ وَإِنْ كَانَ شَامِلًا لِلصُّورَتَيْنِ، لَكِنْ مَعَ اخْتِلَافِ جِهَةِ الدَّلَالَةِ فَثُبُوتُهُ فِي صُورَةِ النُّطْقِ بِالْمَنْطُوقِ، وَفِي صُورَةِ السُّكُوتِ بِالْمَفْهُومِ فَلَا الْمَنْطُوقُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصُّورَتَيْنِ، وَلَا الْمَفْهُومُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي عُمُومِ الْمَفْهُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صُورَةِ السُّكُوتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَاصِلَ النِّزَاعِ فِيهِ آيِلٌ إِلَى اللَّفْظِ.
فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِكَوْنِهِ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِهِ فِي جَمِيعِهَا لَا بِالدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ.
وَمَنْ نَفَى الْعُمُومَ كَالْغَزَالِيِّ فَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ السُّكُوتِ إِذْ هُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ ثُبُوتِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُخَالِفُ فِيهِ الْقَائِلُ بِعُمُومِ الْمَفْهُومِ.
وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كَمَا فِي نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ مِنْ تَنْصِيصِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ، فَلَا شَكَّ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهِ غَيْرُ عَامٍّ بِمَنْطُوقِهِ لِلصُّورَتَيْنِ وَلَا بِمَفْهُومِهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي عُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ صُوَرِ السُّكُوتِ، وَحَاصِلُ النِّزَاعِ أَيْضًا فِيهِ آيِلٌ إِلَى اللَّفْظِ كَمَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ.
[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ الْعَطْفُ عَلَى الْعَامِّ هَلْ يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي الْمَعْطُوفِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ
الْعَطْفُ عَلَى الْعَامِّ هَلْ يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي الْمَعْطُوفِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمَنَعَ أَصْحَابُنَا مِنْ ذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ – رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَمِثَالُهُ اسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
” «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» “، وَهُوَ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ كَافِرٍ حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا.
فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا لِلذِّمِّيِّ لَكَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ” «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» ” ضَرُورَةَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ وَصَفْتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُعَاهِدُ إِنَّمَا هُوَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ دُونَ الذِّمِّيِّ.
احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْطُوفَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي إِفَادَةِ حُكْمِهِ، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى حُكْمِ الْمَعْطُوفِ بِصَرِيحِهِ، وَإِنَّمَا أُضْمِرَ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْطُوفِ، ضَرُورَةَ الْإِفَادَةِ وَحَذَرًا مِنَ التَّعْطِيلِ.
وَالْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَهُوَ التَّشْرِيكُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ دُونَ تَفْصِيلِهِ مِنْ صِفَةِ الْعُمُومِ وَغَيْرِهِ، تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنِ، وَقَوْلُهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} خَاصٌّ.
وَوَرَدَ عَطْفُ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَنْدُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ} ، فَإِنَّهُ لِلنَّدْبِ، وَقَوْلِهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} لِلْإِيجَابِ، وَوَرَدَ عَطْفُ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُبَاحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} ، فَإِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ، وَقَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ} لِلْإِيجَابِ.
وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الِاشْتِرَاكُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ وَتَفْصِيلِهِ لَكَانَ الْعَطْفُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ مُتَيَقَّنٌ، وَفِي صِفَتِهِ مُحْتَمَلٌ، فَجَعْلُ الْعَطْفِ أَصْلًا فِي الْمُتَيَقَّنِ دُونَ الْمُحْتَمَلِ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الْحُكْمِ، وَتَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُوجِبُ جَعْلَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْحُكْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا يَكُونُ حُكْمًا عَلَى الْآخَرِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْطُوفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيهِ لِتَحَقُّقِ الْإِفَادَةِ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِإِضْمَارِ كُلِّ مَا ثَبَتَ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِلْمَعْطُوفِ أَوْ بَعْضِهِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي لِأَنَّ الْإِضْمَارَ إِمَّا لِبَعْضٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ.
الْقَوْلُ بِالتَّعْيِينِ مُمْتَنِعٌ إِذْ هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ مِنْ نَفْسِ الْعَطْفِ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ لَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّعْيِينِ مُوجِبٌ لِلْإِبْهَامِ وَالْإِجْمَالِ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ جَعْلَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا فِيهِ الْعَطْفُ أَوْ فِي غَيْرِهِ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى أَصْلِ الْحُكْمِ مُعْتَبَرٌ فِي الْعَطْفِ إِذْ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَجَوَابُ الثَّانِي أَنْ نَقُولَ بِالتَّشْرِيكِ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ دُونَ صِفَتِهِ، وَهُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ إِبْهَامٍ وَلَا إِجْمَالٍ.