كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ بِخَبَرٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ هَلْ يُعْلَمُ كَوْنَهُ صَادِقًا فِيهِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، هَلْ يُعْلَمُ كَوْنَهُ صَادِقًا فِيهِ؟
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَاذِبًا لَأَنْكَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ مُقِرًّا لَهُ عَلَى الْكَذِبِ مَعَ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ سَامِعٍ لَهُ، بَلْ هُوَ ذَاهِلٌ عَنْهُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ السَّمَاعُ وَعَدَمُ الْغَفْلَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَعْلَمَ سَمَاعَهُ لَهُ وَعَدَمَ غَفْلَتِهِ عَنْهُ، فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَكُونَ فَاهِمًا لِمَا يَقُولُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ فَهْمُهُ لَهُ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فَاهِمًا لَهُ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُتَعَلِّقًا بِالدِّينِ، أَوِ الدُّنْيَا: فَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالدِّينِ، وَقُدِّرَ كَوْنُهُ كَاذِبًا فِيهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَيَّنَهُ لَهُ وَعَلِمَ أَنَّ إِنْكَارَهُ عَلَيْهِ وَبَيَانَهُ لَهُ ثَانِيًا غَيْرُ مُنْجِعٍ فِيهِ فَلَمْ يَرَ فِي
(1) فِيهِ أَنَّ الْعِلْمَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ كَالظَّنِّ، كَمَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 34 ج 2.
(2) لَا نُسَلِّمُ الْمُلَازَمَةَ، فَإِنَّ دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ بِلَا مُعْجِزَةٍ عَلَى خِلَافِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي إِرْسَالِهِ رُسُلَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 34 ج 2.
(3) غَايَتُهَا ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مَا يُفِيدُ بِمُجَرَّدِهِ الْعِلْمَ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي كُلِّ خَبَرٍ، وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ، لِتَفَاوُتِ الرُّوَاةِ فِي صِفَاتِ الْقَبُولِ وَتَفَاوُتِ السَّامِعِينَ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَبُعْدِ النَّظَرِ وَدِقَّتِهِ.
الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فَائِدَةً، وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي إِهْمَالِهِ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ كُلِّهِ، احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ كَذِبُهُ فِي ذَلِكَ صَغِيرَةً، وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتِفَاءُ الصَّغَائِرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ.
هَذَا، إِنْ كَانَ إِخْبَارُهُ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ إِخْبَارُهُ بِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ ظَنَّ عِلْمَهِ بِهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكَذِبِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْكَارِ لِمَانِعٍ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِنْكَارِهِ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ كُلِّهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الصَّغَائِرِ – الصَّغَائِرُ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ كَمَا عُلِمَ – وَعَلَى هَذَا فَعَدَمُ الْإِنْكَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا، وَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ ظَنًّا (1) .