الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ سَمْعًا لَا عَقْلًا

 

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)

 


[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ سَمْعًا لَا عَقْلًا]

 

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ

مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ سَمْعًا لَا عَقْلًا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ، احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى امْتِنَاعِ إِيجَابِ الْعَقْلِ لِذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْعَقْلُ مُوجِبًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُوجِبَ لِفَائِدَةٍ، وَإِلَّا كَانَ إِيجَابُهُ عَبَثًا وَهُوَ قَبِيحٌ، وَيَمْتَنِعُ عَوْدُ الْفَائِدَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِتَعَالِيهِ عَنْهَا وَإِنْ عَادَتْ إِلَى الْعَبْدِ، فَإِمَّا أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْأُخْرَى.

الْأَوَّلُ مُحَالٌ، فَإِنَّ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْخُصُومِ لَيْسَ هُوَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ الشُّكْرَ فَرْعُ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِتْعَابِ النَّفْسِ وَإِلْزَامِ الْمَشَقَّةِ لَهَا

_________

(1) صَوَابُهُ: الثَّانِي، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَالْقَبِيحِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَمِّ فَاعِلِهِ.

________________________________________

بِتَكْلِيفِهَا تَجَنُّبِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَفِعْلِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهُوَ فَرْعُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ (1) فَلَمْ يَبْقَ سِوَى التَّعَبِ وَالْعَنَاءِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ. (2) وَالثَّانِي مُحَالٌ ; لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِمَعْرِفَةِ الْفَائِدَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ دُونَ إِخْبَارِ الشَّارِعِ بِهَا وَلَا إِخْبَارَ (3) ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا مَعْنًى لِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا سِوَى تَرَجُّحِ فِعْلِهِ عَلَى تَرْكِهِ، وَبِالْعَقْلِ يَعْرِفُ التَّرْجِيحَ لَا أَنَّهُ مُرَجِّحٌ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا إِذِ الْمُوجِبُ هُوَ الْمُرَجِّحُ (4) ، وَإِذَا بَطَلَ الْإِيجَابُ الْعَقْلِيُّ تَعَيَّنَ الْإِيجَابُ الشَّرْعِيُّ ضَرُورَةَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى حَصْرِ الْوُجُوبِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، فَإِذَا بَطَلَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ تَعَيَّنَ الثَّانِي مِنْهُمَا.

فَإِنْ قِيلَ: شُكْرُ الْمُنْعِمِ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ضَرُورَةً فَمَا ذَكَرْتُمُوهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِبْطَالِ أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ فَلَا يُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ إِيجَابَ الْعَقْلِ لِلشُّكْرِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ. قَوْلُكُمْ: ” حَتَّى لَا يَكُونَ عَبَثًا قَبِيحًا ” فَهَذَا مِنْكُمْ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ إِنْكَارِ الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ، كَيْفَ وَإِنَّ تِلْكَ الْفَائِدَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةَ التَّحْصِيلِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةَ التَّحْصِيلِ اسْتَدْعَتْ فَائِدَةً أُخْرَى وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ.

_________

(1) الْحَقُّ أَنَّ فِي الْأَفْعَالِ صِفَاتٍ هِيَ مَنْشَأُ حُسْنِهَا أَوْ قُبْحِهَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْحِسُّ وَالْفِطْرَةُ وَالْعَقْلُ وَالشَّرْعُ. وَالْمُخَالِفُ يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ فِي تَعْلِيلِهِ الْأَحْكَامَ وَبَيَانِ حِكَمِهَا وَأَسْرَارِهَا، وَخَاصَّةً فِي الْقِيَاسِ، وَبَيَانِ مَيْزَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَالْمَمْنُوعُ اسْتِلْزَامُهَا لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِثْبَاتُهَا بِهِمَا دُونَ شَرْعٍ.

(2) بَلْ لَهَا فِي ذَلِكَ حَظٌّ وَهُوَ ابْتِغَاءُ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَمَثُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمُكَلَّفُ تَفْصِيلَ الْجَزَاءِ.

(3) يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ إِجْمَالًا أَنَّ هُنَالِكَ جَزَاءً.

(4) قَدْ يَلْتَزِمُ الْخَصْمُ ذَلِكَ وَيَدَّعِي أَنَّ الْحُكْمَ نُسِبَ إِلَى الْعَقْلِ لِمَعْرِفَتِهِ إِيَّاهُ وَإِدْرَاكِهِ لَهُ عَنْ طَرِيقِ سَبَبِهِ وَمُوجِبِهِ مِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ فِي الْفِعْلِ، فَلَا يَتَبَيَّنُ الْإِيجَابُ بِالشَّرْعِ، فَالْوَاجِبُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قِيَامِ الْعُذْرِ لِلْعِبَادِ، لَوْ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ رُسُلَهُ هُدَاةً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ

________________________________________

وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فَمَا يُوجِبُهُ الْعَقْلُ بِهَا (1) أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا.

وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةٍ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ فِي الشُّكْرِ نَفْسَ الشُّكْرِ لَا أَمْرًا خَارِجًا عَنْهُ، كَمَا أَنَّ تَحْصِيلَ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعَ الْمَفْسَدَةِ عَنِ النَّفْسِ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ فَائِدَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ كَوْنِ الشُّكْرِ شُكْرًا فَمَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ الْأَمْنَ مِنِ احْتِمَالِ الْعِقَابِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ ; إِذْ هُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَخْلُو الْعَاقِلُ عَنْ خُطُورِ هَذَا بِبَالِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ، وَإِنْ سُلِّمَ دَلَالَةُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى امْتِنَاعِ الْإِيجَابِ الْعَقْلِيِّ لَكِنَّهُ بِعَيْنِهِ دَالٌّ عَلَى امْتِنَاعِ الْإِيجَابِ الشَّرْعِيِّ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَاكَ (2) يَكُونُ مُشْتَرَكًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.

وَلَكِنْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِيجَابِ الْعَقْلِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ مُوجِبًا لَانْحَصَرَتْ مَدَارِكُ الْوُجُوبِ فِي الشَّرْعِ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ مِنْ إِفْحَامِ الرُّسُلِ وَإِبْطَالِ مَقْصُودِ الْبَعْثَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ إِذَا ادَّعَى وَتَحَدَّى بِالْمُعْجِزَةِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا لِظُهُورِ صِدْقِهِ، فَلِلْمَدْعُوِّ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنْظُرُ فِي مُعْجِزَتِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ وَاجِبًا عَلَيَّ شَرْعًا، وَوُجُوبُ النَّظَرِ شَرْعًا مُتَوَقِّفٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ.

وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ (3) بِمَا ذَكَرُوهُ عَقْلًا ; إِذْ هُوَ دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ وَإِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِالشُّكْرِ وَيَتَضَرَّرُ بِعَدَمِهِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ فَلَا. (4) قَوْلُهُمْ: لِمَ قُلْتُمْ بِرِعَايَةِ الْفَائِدَةِ؟ قُلْنَا: لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

قَوْلُهُمْ: هَذَا مِنْكُمْ لَا يَسْتَقِيمُ. قُلْنَا: إِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ لِلْخَصْمِ لِكَوْنِهِ قَائِلًا بِهِ، وَبِهِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ فِي إِبْطَالِ رِعَايَةِ الْفَائِدَةِ، كَيْفَ وَقَدْ أَمْكَنَ

_________

(1) بِهَا: الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ

(2) صَوَابُهُ: إِذْ ذَاكَ

(3) صَوَابُهُ: لَا نُسَلِّمُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ. . . إِلَخْ.

(4) قَدْ يُقَالُ: إِنِ الْفَائِدَةَ تَعُودُ إِلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ يَرْجُو بِشُكْرِهِ رِضَاءَ اللَّهِ عَنْهُ فِيهِمَا – إِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْجَزَاءَ تَفْصِيلًا فَقَدْ عَرَفَهُ فِي الْجُمْلَةِ – أَوِ الْفَخْرَ أَوْ إِرْضَاءَ النَّفْسِ.

________________________________________

أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ تَحْصِيلِ الْحِكْمَةِ لِحِكْمَةٍ هِيَ نَفْسُهَا كَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ عَنِ النَّفْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي فِعْلِ الشُّكْرِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ لَيْسَ هُوَ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ إِيجَادِهِ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْفَائِدَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ إِيجَادِهِ بَقِيَ التَّقْسِيمُ بِحَالِهِ.

قَوْلُهُمْ: مَا الْمَانِعُ أَنَّ الْفَائِدَةَ هِيَ الْأَمْنُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْعَاقِلِ عَنْ خُطُورِ مَا ذَكَرُوهُ مَنَ الِاحْتِمَالِ بِبَالِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ شَاهِدًا، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ ذَلِكَ، فَمَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِاحْتِمَالِ خُطُورِ الْعِقَابِ بِبَالِهِ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِتْعَابِهِ لِنَفْسِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا، مَعَ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ إِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَرْجِعُ إِلَيْهِ (1) وَلَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ هَذَا رَاجِحًا، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ مَنْ أَخَذَ فِي التَّقَرُّبِ وَالْخِدْمَةِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْعُظَمَاءِ بِتَحْرِيكِ أُنْمُلَتِهِ فِي كَسْرِ بَيْتِهِ، وَإِظْهَارِ شُكْرِهِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْبِلَادِ عَلَى إِعْطَائِهِ لُقْمَةً مَعَ اسْتِغْنَائِهِ وَاسْتِغْنَاءِ الْمَلِكِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ يُعَدُّ مُسْتَهْزِئًا بِذَلِكَ الْمَلِكِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ عَلَى صُنْعِهِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ شُكْرَ الشَّاكِرِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ تَحْرِيكِ الْأُنْمُلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِ الْمَلِكِ، وَأَنَّ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبِيدِ لِعَدَمِ تَنَاهِي مُلْكِهِ وَتَنَاهِي مُلْكِ غَيْرِهِ دُونَ تِلْكَ اللُّقْمَةِ، فَكَانَ الْمُتَعَاطِي لِخِدْمَةِ اللَّهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ بِهِ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، وَلَوْلَا وُرُودُ الشَّرْعِ بِطَلَبِ ذَلِكَ مِنَ الْعَبِيدِ وَحَثِّهِمْ عَلَيْهِ لَمَا وَقَعَ (2) الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ.

وَمَا يُقَالُ مِنْ حَالِ (3) الْمُشْتَغِلِ بِالشُّكْرِ وَالْخِدْمَةِ أَرْجَى حَالًا مِنَ الْمُعْرِضِ عَنْ ذَلِكَ عُرْفًا فَكَانَ أَوْلَى، فَهُوَ مُسَلَّمٌ فِي حَقِّ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْخِدْمَةِ وَالشُّكْرِ وَيَتَضَرَّرُ بِعَدَمِهِمَا، وَالْبَارِي تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَطَّرِدُ مَا ذَكَرُوهُ فِي حَقِّهِ. (4)

_________

(1) إِنَّمَا يَشْكُرُ رَبَّهُ دَفْعًا لِمَفْسَدَةٍ يَخْشَاهَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ جَلْبًا لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ.

(2) لَوْ قَالَ: لَمَا صَحَّ أَوْ لَمَا جَازَ. لَكَانَ أَنْسَبَ.

(3) الْأَوْلَى: مِنْ أَنَّ الْمُشْتَغِلَ. . . إِلَخْ.

(4) فَائِدَةُ الشُّكْرِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ عَوْدُهَا إِلَى اللَّهِ، فَيَتَأَتَّى عَوْدُهَا إِلَى الْعِبَادِ كَمَا تَقَدَّمَ.

________________________________________

قَوْلُهُمْ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَازِمٌ عَلَيْكُمْ فِي الْإِيجَابِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْفَائِدَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ الْعَاقِلُ بِمَعْرِفَتِهَا فَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهَا، كَيْفَ وَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنَّا أَنْ لَوِ اعْتَبَرْنَا الْحِكْمَةَ فِي الْإِيجَابِ الشَّرْعِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا. (1) وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ إِفْحَامِ الرُّسُلِ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: مَنْعُ تَوَقُّفِ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ عَلَى نَظَرِ الْمَدْعُوِّ فِي الْمُعْجِزَةِ، بَلْ مَهْمَا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ فِي نَفْسِهَا وَكَانَ صِدْقُ النَّبِيِّ فِيمَا ادَّعَاهُ مُمْكِنًا وَكَانَ الْمَدْعُوُّ عَاقِلًا مُتَمَكِّنًا مِنَ النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ وَثَبَتَ، وَالْمَدْعُوُّ مُفَرِّطٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ.

الثَّانِي: إِنَّ الدَّوْرَ لَازِمٌ عَلَى الْقَائِلِ بِالْإِيجَابِ الْعَقْلِيِّ ; لِأَنَّ الْعَقْلَ بِجَوْهَرِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ دُونَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَإِلَّا لَمَا خَلَا عَاقِلٌ عَنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلِلْمَدْعُوِّ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنْظُرُ فِي مُعْجِزَتِكَ حَتَّى أَعْرِفَ وُجُوبَ النَّظَرِ، وَلَا أَعْرِفُ وُجُوبَ النَّظَرِ حَتَّى أَنْظُرَ، وَهُوَ دَوْرٌ مُفْحِمٌ. وَالْجَوَابُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ وَاحِدًا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ.

[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لَا حُكْمَ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ

مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ وَأَهْلِ الْحَقِّ: أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ.

وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا الْأَفْعَالَ الْخَارِجَةَ عَنِ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ إِلَى مَا حَسَّنَهُ الْعَقْلُ، وَإِلَى مَا قَبَّحَهُ، وَإِلَى مَا لَمْ يَقْضِ الْعَقْلُ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ. فَمَا حَسَّنَهُ الْعَقْلُ: إِنِ اسْتَوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ سَمَّوْهُ مُبَاحًا، وَإِنْ تَرَجَّحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ فَإِنْ لَحِقَ الذَّمُّ بِتَرْكِهِ سَمَّوْهُ وَاجِبًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ كَالْإِيمَانِ أَوْ لِغَيْرِهِ كَالنَّظَرِ الْمُفْضِي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقِ الذَّمُّ بِتَرْكِهِ سَمَّوْهُ مَنْدُوبًا. وَمَا قَبَّحَهُ الْعَقْلُ: فَإِنِ الْتَحَقَ الذَّمُّ بِفِعْلِهِ سَمَّوْهُ

_________

(1) قَدْ ثَبَتَ لِلَّهِ كَمَالُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ بِدَلِيلِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ بِالنَّظَرِ مِنْ كَوْنِهِ وَشَرْعِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي فِعْلِهِ وَشَرْعِهِ، وَيَرْعَى مِنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةَ عِبَادِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً.

________________________________________

حَرَامًا وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ، وَمَا لَمْ يَقْضِ الْعَقْلُ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ حَظَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ.

احْتَجَّتِ الْأَشَاعِرَةُ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ:

أَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ أَمَّنَ مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَإِلَّا لَمَا أَمَّنَ مِنَ الْعَذَابِ بِتَقْدِيرِ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ ; إِذْ هُوَ لَازِمٌ لَهُمَا.

وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَمَفْهُومُهُ يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِجَاجِ (1) قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْمُوجِبِ وَالْمُحَرِّمِ.

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ: فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ إِمَّا بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعَقْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا شَرْعَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَالْعَقْلُ غَيْرُ مُوجِبٍ وَلَا مُحَرِّمٍ لِمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا حُكْمَ. (2) فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْعَذَابُ مِنْ لَوَازِمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ انْفِكَاكُهُ عَنْهُمَا بِنَاءً عَلَى عَفْوٍ أَوْ شَفَاعَةٍ، فَنَفْيُهُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُهُمَا.

سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَازِمٌ لَهُمَا لَكِنْ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَا قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ نَفْيُهُمَا مِنْ نَفْيِهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ.

سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَازِمٌ لَهُمَا، لَكِنَّهُ لَازِمٌ لِلْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَعَلَى هَذَا فَاللَّازِمُ مِنْ نَفْيِهِ قَبْلَ الشَّرْعِ نَفْيُ الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ شَرْعًا لَا عَقْلًا.

سَلَّمْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِبَاحَةِ وَالْوَقْفِ لِعَدَمِ مُلَازَمَةِ الْعَذَابِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.

_________

(1) أَيْ: يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ عُذْرِهِمْ وَقَبُولِهِ.

(2) تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ، وَلَكِنَّهُ أَدْرَكَ مُوجِبَ الْحُكْمِ وَالْمُقْتَضِيَ لَهُ.

________________________________________

وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى، وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَ الْمَفْهُومِ حُجَّةً فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى بِعَيْنِهِ وَارِدٌ هَاهُنَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ فَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ. كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ حُكْمٌ بِنَفْيِ الْحُكْمِ فَكَانَ مُتَنَاقِضًا.

وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ وُقُوعَ الْعَذَابِ بِالْفِعْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ فَلَازِمُهُ عَدَمُ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ دُونَهُ. وَهَذَا اللَّازِمُ مُنْتَفٍ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَلَا مَلْزُومَ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ السُّؤَالِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ.

وَالتَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ قَبْلُ لَا غَيْرُ، وَنَفْيُ مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ، وَبِهِ انْدَفَعَ السُّؤَالُ الرَّابِعُ. (1) وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا جَوَابُهُ، وَنَفْيُ الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ حُكْمًا غَيْرَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ لَيْسَ هُوَ الْحُكْمَ مُطْلَقًا لِيَلْزَمَ التَّنَاقُضُ، بَلْ نَفْيُ مَا أَثْبَتُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا تَنَاقُضَ.

وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْإِبَاحَةِ إِنْ فَسَّرُوهَا بِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَا نِزَاعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ بِإِزَائِهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ عَلَى أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ تَحَقُّقٍ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهَا، وَإِنْ فَسَّرُوهَا بِتَخْيِيرِ الْفَاعِلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّخْيِيرُ لِلْفَاعِلِ مِنْ نَفْسِهِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَسْمِيَةُ أَفْعَالِ اللَّهِ مُبَاحَةً لِتَحَقُّقٍ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِالْإِجْمَاعِ. . وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْمُخَيِّرُ إِمَّا الشَّرْعُ وَإِمَّا الْعَقْل بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا شَرْعَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَتَخْيِيرُ الْعَقْلِ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اسْتَوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ عَقْلًا، أَوْ فِيمَا لَمْ يَقْضِ الْعَقْلُ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، وَهُوَ فَرْعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ (2) ، وَإِنْ فَسَّرُوهُ بِأَمْرٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ.

_________

(1) هُوَ قَوْلُهُمْ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِبَاحَةِ وَالْوَقْفِ.

(2) تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا ثَابِتَانِ لِلْفِعْلِ، إِلَّا أَنَّ اسْتِلْزَامَهُمَا لِلْحُكْمِ مَمْنُوعٌ، بَلْ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا إِلَى الشَّرْعِ.

________________________________________

فَإِنْ قِيلَ: الْمُبَاحُ هُوَ الْمَأْذُونُ فِي فِعْلِهِ، وَقَدْ وَرَدَ دَلِيلُ الْإِذْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ تَرِدْ صُورَةُ الْإِذْنِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الطُّعُومَ فِي الْمَأْكُولَاتِ وَالذَّوْقَ فِينَا، وَأَقْدَرَنَا عَلَيْهَا، وَعَرَّفَنَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهَا نَافِعَةٌ لَنَا غَيْرُ مُضِرَّةٍ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهُوَ دَلِيلُ الْإِذْنِ مِنْهُ لَنَا فِي ذَلِكَ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ قَدَّمَ إِنْسَانٌ طَعَامًا بَيْنَ يَدَيْ إِنْسَانٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ يَقْضُونَ بِكَوْنِهِ قَدْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ.

الثَّانِي: أَنَّ خَلْقَهُ لِلطُّعُومِ فِي الْأَجْسَامِ مَعَ إِمْكَانٍ أَلَّا يَخْلُقَهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ نَفْيًا لِلْعَبَثِ عَنْهُ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْفَائِدَةُ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِتَعَالِيهِ عَنْهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ عَوْدِهَا إِلَى الْعَبْدِ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْإِضْرَارَ وَلَا مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِضْرَارِ وَالِانْتِفَاعِ ; إِذْ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَكَانَتْ فَائِدَتُهَا الِانْتِفَاعَ بِهَا وَهُوَ دَلِيلُ الْإِذْنِ فِي إِدْرَاكِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِجِهَةِ الِالْتِذَاذِ بِهَا وَتَقْوِيمِ الْبِنْيَةِ، أَوْ بِجِهَةِ تَجَنُّبِهَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ، أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَوَقُّفِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى إِدْرَاكِهَا وَاحْتِمَالِ وُجُودِ مَفْسَدَةٍ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الْإِذْنِ وَالْحُكْمِ بِالْإِبَاحَةِ، بِدَلِيلِ الِاسْتِضَاءَةِ بِسِرَاجِ الْغَيْرِ وَالِاسْتِظْلَالِ بِحَائِطِهِ.

وَقُلْنَا: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا (1) ، ثُمَّ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ فَإِبَاحَتُهُ شَرْعِيَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ. (2) وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ، إِنْ عَنَوْا بِهِ تَوَقُّفَ الْحُكْمِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وُروُدِ السَّمْعِ فَحَقٌّ، وَإِنْ عَنَوْا بِهِ الْإِحْجَامَ عَنِ الْحُكْمِ بِالْوُجُوبِ أَوِ الْحَظْرِ أَوِ الْإِبَاحَةِ لِتَعَارُضِ أَدِلَّتِهَا فَفَاسِدٌ لِمَا سَبَقَ.

_________

(1) رِعَايَةُ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَفِي شَرْعِهِ مِمَّا يُوجَبُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا.

(2) كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ بِالِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ، لَا بِالنَّصِّ الشَّرْعِيِّ، فَالتَّسْلِيمُ لَهُ تَسْلِيمٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *