كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَعْنَى الْعُمُومِ وهَلْ لَهُ فِي اللُّغَةِ صِيغَةٌ أَمْ لَا]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (1)
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ: هَلْ لَهُ فِي اللُّغَةِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ خَاصَّةٌ بِهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَتِ الْمُرْجِئَةُ (2) إِلَى أَنَّ الْعُمُومَ لَا صِيغَةَ لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الصِّيَغِ حَقِيقَةٌ فِي الْعُمُومِ مَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَفَ فِي الْجَمْعِ الْمُنْكَرِ وَالْمَعْرُوفِ وَاسْمِ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَمَا يَأْتِي تَعْرِيفُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي هَاشِمٍ (3) .
وَذَهَبَ أَرْبَابُ الْخُصُوصَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ حَقِيقَةٌ فِي الْخُصُوصِ وَمَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ (4) فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَالْآخَرُ: الْوَقْفُ وَهُوَ عَدَمُ الْحُكْمِ بِشَيْءٍ مِمَّا قِيلَ فِي الْحَقِيقَةِ (5) فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ أَوِ الِاشْتِرَاكِ، وَوَافَقَهُ عَلَى الْوَقْفِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ (6) .
وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.
(1) انْظُرْ ص2 – 3 مِنْ ج4 مِنْ بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ لِابْنِ الْقَيِّمِ طَبْعَ مُنِيرٍ
(2) الْإِرْجَاءُ: التَّأْخِيرُ، وَالْمُرْجِئَةُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ أَصْنَافٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ كَجَهْمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ كَالْكَرَامِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّصْدِيقُ وَعَمَلُ الْقَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَهُمْ مُرْجِئَةُ الْفُقَهَاءِ، وَسُمُّوا مُرْجِئَةً لِتَأْخِيرِهِمْ بَعْضَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ عَنِ الدُّخُولِ فِي مَفْهُومِهِ، وَهُنَاكَ طَوَائِفُ أُخْرَى مِنَ الْمُرْجِئَةِ، فَمَنْ أَرَادَ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِيهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى كِتَابِ الْإِيمَانِ لِابْنِ تَيْمِيَةَ وَكُتُبِ الْفِرَقِ
(3) أَبُو هَاشِمٍ: هُوَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْجُبَّائِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ
(4) أَيِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ
(5) فِي الْحَقِيقَةِ – لَعَلَّهُ مِنَ الْحَقِيقَةِ – لِيَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: مِمَّا قِيلَ
(6) هُوَ الْبَاقِلَّانِيُّ
وَمِنَ الْوَاقِفِيَّةِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَقَالَ بِالْوَقْفِ فِي الْإِخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي الْخُصُوصِ لِكَوْنِهِ مُرَادًا مِنَ اللَّفْظِ يَقِينًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْكُلُّ أَوِ الْبَعْضُ، وَالْوَقْفُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ (1) وَمِنْهَاجِ الْكَلَامِ، فَعَلَى مَا عُرِفَ فِي التَّوَقُّفِ فِي الْأَمْرِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، فَعَلَيْكَ بِنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ وَالِانْفِصَالِ عَنْهَا.
وَلْنَبْدَأْ مِنْ ذَلِكَ بِشُبَهِ أَرْبَابِ الْعُمُومِ وَهِيَ نَصِّيَّةٌ وَإِجْمَاعِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ.
أَمَّا النَّصِّيَّةُ فَمِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} تَمَسُّكًا مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَهْلَكَ) وَأَقَرَّهُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَأَجَابَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ إِضَافَةَ الْأَهْلِ إِلَى نُوحٍ لِلْعُمُومِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: ” لَأَخْصِمَنَّ مُحَمَّدًا ” ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ لَهُ: ” وَقَدْ عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَسِيحُ أَفَتَرَاهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ؟» (2) وَاسْتَدَلَّ بِعُمُومِ (مَا) وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ذَلِكَ، بَلْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى غَيْرَ مُنْكِرٍ لِقَوْلِهِ، بَلْ مُخَصِّصًا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (3)
، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ – قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فَهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الْعُمُومَ حَيْثُ ذَكَرَ لُوطًا، وَالْمَلَائِكَةُ أَقَرُّوهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَابُوهُ بِتَخْصِيصِ لُوطٍ وَأَهْلِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَاسْتِثْنَاءِ امْرَأَتِهِ مِنَ النَّاجِينَ.
(1) الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ عَلَى أَيِّ حَالٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتِحْكَامِ النِّزَاعِ فِيهَا وَفِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْعُمُومِ مِمَّا يَزِيدُ الْبَاحِثَ يَقِينًا بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ ظَنِّيٌّ
(2) ذَكَرَ الْآمِدِيُّ بَعْضَ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى مَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُجْمَلَةً وَتَصَرَّفَ فِي الْعِبَارَةِ، وَإِذَا أَرَدْتَهَا مُفَصَّلَةً فَارْجِعْ إِلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْبَغَوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ تَفْسِيرِهِمْ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِلَى مَا كَتَبَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَيْهَا فِي تَخْرِيجِهِ لِأَحَادِيثِ الْكَشَّافِ
(3) يَرَى ابْنُ جَرِيرٍ وَجَمَاعَةٌ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الْآيَاتُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَلَيْسَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) لِأَنَّ (مَا) لِغَيْرِ الْعَاقِلِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَصْنَامُ وَمَا فِي حُكْمِهَا
وَذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعِيَّةُ فَمِنْهَا احْتِجَاجُ عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ تُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» ” وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ احْتِجَاجَهُ بِذَلِكَ، بَلْ عَدَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى التَّعْلِيقِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «إِلَّا بِحَقِّهَا» “، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ لِلْعُمُومِ.
وَمِنْهَا احْتِجَاجُ فَاطِمَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي تَوْرِيثِهَا مِنْ أَبِيهَا فَدَكَ وَالْعَوَالِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ عَدَلَ أَبُو بَكْرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – إِلَى مَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِلَى دَلِيلِ التَّخْصِيصِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» ” وَمِنْهَا احْتِجَاجُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} ، وَاحْتِجَاجُ عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا صِحَّةَ مَا احْتَجَّ بِهِ.
وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ الْمُضَافَةَ، وَالْأُخْتَانِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَمِنْهَا أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الشَّاعِرِ (1) :
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ … وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
قَالَ لَهُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، وَلَوْلَا أَنَّ (كُلُّ) لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
(1) هُوَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ
وَمِنْهَا احْتِجَاجُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْأَنْصَارِ بِقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ” (1) وَوَافَقَهُ الْكُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُ (الْأَئِمَّةُ) عَامًّا لَمَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ.
وَمِنْهَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى إِجْرَاءِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} وَ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وَ {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} وَ {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وَ {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَ {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، وَقَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» “، ” «وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا» “، ” «وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ» ” إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ.
وَأَمَّا الشُّبَهُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَمِنْهَا أَنَّ الْعُمُومَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ وَالْحَاجَةُ مُشْتَدَّةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فِي التَّخَاطُبِ، وَذَلِكَ مِمَّا تُحِيلُ الْعَادَةُ مَعَ تَوَالِي الْأَعْصَارِ عَلَى أَهْلِ اللُّغَةِ إِهْمَالَهُ وَعَدَمَ تَوَاضُعِهِمْ عَلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَقَاصَرُ فِي دَعْوَى الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَسَائِرِ الْأَعْدَادِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَالتَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي وَالنِّدَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَهَا الْأَسْمَاءُ، وَرُبَّمَا وَضَعُوا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ.
أَمَّا (مَنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّةُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ جَاءَكَ؟ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْخُصُوصِ أَوِ الْعُمُومِ أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا أَوْ مَوْقُوفَةً، أَوْ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا حَقِيقَةً وَلَا تَجَوُّزًا، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ أَنْ يُجَابَ بِجُمْلَةِ الْعُقَلَاءِ، لِكَوْنِهِ جَوَابًا مَا سَأَلَ عَنْهُ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً أَوْ مَوْقُوفَةً، وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ الْجَوَابُ بِشَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ مُرَادِ السَّائِلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالْأَخِيرِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى إِبْطَالِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ.
(1) حَدِيثُ الْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ أُخْرَى مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: ” النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ “، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: ” لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ “، انْظُرْ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي رِوَايَاتِ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ
وَأَمَّا الشَّرْطِيَّةُ وَهِيَ عِنْدَمَا إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأُكْرِمَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا أَكْرَمَ كُلَّ دَاخِلٍ لَا يَحْسُنُ مِنَ السَّيِّدِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَخَلَّ بِإِكْرَامِ بَعْضِ الدَّاخِلِينَ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ لَوْمُهُ وَتَوْبِيخُهُ فِي الْعُرْفِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ، وَلَوْلَا أَنَّ (مَنْ) لِلْعُمُومِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِي جَمِيعِ الْحُرُوفِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِلشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ مِثْلَ مَا وَأَيُّ وَمَتَى وَأَيْنَ وَكَمْ وَكَيْفَ وَنَحْوِهِ وَمُؤَكِّدَاتُهَا مِثْلَ كُلٍّ وَجَمِيعٍ فَإِنَّهَا لِلْعُمُومِ.
وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِعَبْدِهِ: أَكْرِمْ كُلَّ مَنْ رَأَيْتَهُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ اللَّوْمُ بِإِكْرَامِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَلَا يَسْقُطُ بِتَقْدِيرِ إِخْلَالِهِ بِإِكْرَامِ الْبَعْضِ، وَإِنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إِلَّا الْفُسَّاقَ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْعُمُومِ كَمَا سَبَقَ (1) .
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: ” رَأَيْتُ كُلَّ مَنْ فِي الْبَلَدِ ” فَإِنَّهُ يُعَدُّ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ لِبَعْضِهِمْ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلَ: ” كُلُّ النَّاسِ عُلَمَاءٌ ” كَذَّبَهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: ” كُلُّ النَّاسِ لَيْسُوا عُلَمَاءً “.
وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اسْمُ (كُلُّ) لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُكَذِّبًا لِلْآخَرِ، لِجَوَازِ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا تَنَاوَلَهُ الْآخَرُ.
الرَّابِعُ: أَنَّا نُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ (كَلُّ) وَ (بَعْضُ) وَلَوْ كَانَ مُفِيدًا لِلْعُمُومِ لَمَا تَحَقَّقَ الْفَرْقُ، لِكَوْنِهِ مُسَاوِيًا فِي الْإِفَادَةِ لِلْبَعْضِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: كُلُّ النَّاسِ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَلَكِنَّهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ تَارَةً عَنِ الْبَعْضِ وَتَارَةً عَنِ الْعُمُومِ حَقِيقَةً لَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: كُلُّهُمْ بَيَانًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فِيمَا دَخَلَ عَلَيْهِ لَا تَأْكِيدًا لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ عَيْنًا بَاصِرَةً.
(1) أَيْ مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مُفِيدٌ لِلْعُمُومِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ
وَأَمَّا الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ (1) فَهُوَ لِلْعُمُومِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَثْرَةَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ تَزِيدُ عَلَى كَثْرَةِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ، وَلِهَذَا يُقَالُ رِجَالٌ مِنَ الرِّجَالِ وَلَا عَكْسَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلِاسْتِغْرَاقِ أَوْ لِلْعَدَدِ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي، لِأَنَّ (2) مَا مِنْ عَدَدٍ يُفْرَضُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا وَيَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّهُ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَطْلُوبُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ تَأْكِيدُهُ بِمَا هُوَ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالتَّأْكِيدُ إِنَّمَا يُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْمُؤَكَّدِ لَا أَمْرًا جَدِيدًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُؤَكَّدُ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ لَمَا كَانَ الْمُؤَكِّدُ مُفِيدًا لَهُ، أَوْ كَانَ مُفِيدًا لِأَمْرٍ جَدِيدٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَأَمَّا النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ كَقَوْلِهِ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، أَوْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ رَجُلٍ فَإِنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ يُعَدُّ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ رُؤْيَتِهِ لِرَجُلٍ مَا، وَأَنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إِلَّا زِيدٌ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ تَكْذِيبُهُ بِأَنَّكَ رَأَيْتَ رَجُلًا كَمَا وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} تَكْذِيبًا لِمَنْ قَالَ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا لِلْعُمُومِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ قَوْلُنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَوْحِيدًا، لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ كُلِّ إِلَهٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْإِضَافَةُ كَقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُ عَبِيدِي وَإِمَائِي فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ بِدَلِيلِ لُزُومِ الْعِتْقِ فِي الْكُلِّ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ أَيِّ الْعَبِيدِ شَاءَ وَأَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ الْإِمَاءِ مَنْ شَاءَ دُونَ رِضَى الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: الْعَبِيدُ الَّذِينَ هُمْ فِي يَدِي لِفُلَانٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الْجِنْسُ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَلَا عَهْدَ فَإِنَّهُ لِلْعُمُومِ لِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلَ: رَأَيْتُ إِنْسَانًا أَفَادَ رُؤْيَةَ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مُفِيدَةً لِلِاسْتِغْرَاقِ لَكَانَتْ مُعَطَّلَةً، لِتَعَذُّرِ حَمْلِهَا عَلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا دُونَهَا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
(1) أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ كَمَا تَقَدَّمَ
(2) لِأَنَّ – الصَّوَابُ لِأَنَّهُ
الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ نَعْتُهُ بِالْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ لِلْعُمُومِ، فَكَذَلِكَ الْمَنْعُوتُ بِهِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ – إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وَهُوَ دَلِيلُ الْعُمُومِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ يَقُولُ: إِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَقَائِلٌ بِالنَّفْيِ مُطْلَقًا.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ فِي الْجَمْعِ، فَالتَّفْرِقَةُ تَكُونُ قَوْلًا بِتَفْصِيلٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ (1) .
الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ عَائِدَةً إِلَى جَمِيعِهِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ عَوْدِهَا إِلَى الْبَعْضِ مِنْهُ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلْعُمُومِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ رِجَالٌ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ جَمْعٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، حَتَّى الْجَمْعُ الْمُسْتَغْرَقُ فَإِذَا حُمِلَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ كَانَ حَمْلًا لَهُ عَلَى جَمِيعِ حَقَائِقِهِ فَكَانَ أَوْلَى.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ الْبَعْضَ لِعَيْنِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُرَادُهُ مُبْهَمًا فَحَيْثُ لَمْ يُعَيِّنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَصِحُّ دُخُولُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْجِنْسِ فَكَانَ لِلْعُمُومِ.
وَمِنْ شُبَهِهِمْ أَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ تَأْكِيدِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، فَقَالُوا فِي الْخُصُوصِ: رَأَيْتُ زَيْدًا عَيْنَهُ نَفْسَهُ، وَلَا يَقُولُونَ كُلُّهُمْ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَجْمَعِينَ، وَقَالُوا فِي الْعُمُومِ: رَأَيْتُ الرِّجَالَ كُلَّهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَا يَقُولُونَ: رَأَيْتُ الرِّجَالَ عَيْنَهُ نَفْسَهُ، وَاخْتِلَافُ التَّأْكِيدِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُؤَكَّدِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ مُطَابِقٌ لِلْمُؤَكَّدِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْبَارِي تَعَالَى قَدْ كَلَّفَنَا أَحْكَامًا تَعُمُّ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تُفِيدُهُ لَمَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ التَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ مُحَالٌ.
(1) هَذَا الدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ إِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ سَابِقٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا شُبَهُ أَرْبَابِ الْخُصُوصِ، فَأَوَّلُهَا: أَنَّ تَنَاوُلَ اللَّفْظِ لِلْخُصُوصِ مُتَيَقَّنٌ، وَتَنَاوُلَهُ لِلْعُمُومِ مُحْتَمَلٌ، فَجَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْمُتَيَقَّنِ أَوْلَى.
وَثَانِيهُمَا: أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الصِّيَغِ فِي الْخُصُوصِ دُونَ الْعُمُومِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: جَمَعَ السُّلْطَانُ التُّجَّارَ وَالصُّنَّاعَ وَكُلَّ صَاحِبِ حِرْفَةٍ، وَأَنْفَقْتُ دَرَاهِمِي، وَصَرَمْتُ نَخِيلِي وَنَحْوُهُ. فَكَانَ جَعْلُهَا حَقِيقَةً فِيمَا اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ أَغْلَبُ، أَوْلَى.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ، وَمَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، وَمَتَى جَاءَكَ فَقِيرٌ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِ، وَمَتَى جَاءَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ ” وَأَيْنَ كَانَ، وَحَيْثُ حَلَّ، فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْسَارُ عَنْ إِرَادَةِ الْبَعْضِ وَيَحْسُنُ الِاسْتِفْسَارُ عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَكَانَ جَعْلُ هَذِهِ الصِّيَغِ حَقِيقَةً فِيمَا لَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْسَارُ عَنْهُ دُونَ مَا يَحْسُنُ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ ” رَأَيْتُ الرِّجَالَ ” لِلْعُمُومِ لَكَانَ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ كَانَ الْمُخْبِرُ كَاذِبًا، كَمَا لَوْ قَالَ: ” رَأَيْتُ عِشْرِينَ وَلَمْ يَرَ غَيْرَ عَشَرَةٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ لِلْخُصُوصِ، وَأُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ.
وَخَامِسُهَا: لَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ، لَكَانَ تَأْكِيدُهَا غَيْرَ مُفِيدٍ لِغَيْرِ مَا أَفَادَتْهُ، فَكَانَ عَبَثًا، وَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهَا نَقْضًا.
وَسَادِسُهَا: (وَيَخُصُّ مَنْ) مِنْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَمَا أُجْمِعَتْ لَأَنَّ الْجَمْعَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُفِيدَ مَا لَا يُفِيدُهُ الْمَجْمُوعُ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ كَثْرَةٌ، فَلَا يُجْمَعُ، وَقَدْ جُمِعَتْ فِي بَابِ حِكَايَةِ النَّكِرَاتِ عِنْدَ الِاسْتِفْهَامِ. فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: جَاءَنِي رِجَالٌ. قُلْتُ: مَنُونْ؟ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَتَوْا نَارِي، فَقُلْتُ: مَنُونُ أَنْتُمْ؟ … فَقَالُوا: الْجِنُّ. قُلْتُ عَمُوا ظَلَامَا (1) فَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ شَاذٌّ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ.
(1) 1 – ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ مُحْيِي الدِّينِ عَبْدُ الْحَمِيدِ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى أَوْضَحِ الْمَسَالِكِ: أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ لِشُمَيْرٍ – بِالْمُعْجَمَةِ وَقِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ – ابْنِ الْحَارِثِ الضَّبِّيِّ، وَفِي الْخُضَرِيِّ عَلَى ابْنِ عَقِيلٍ قَوْلٌ آخَرُ: بِأَنَّ الْقِصَّةَ أُكْذُوبَةٌ مِنْ أَكَاذِيبِ الْعَرَبِ، وَالْبَيْتُ شَاذٌّ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ وَهِيَ: كَوْنُهُ حِكَايَةً بِمَنْ وَصْلًا لِمُعَرَّفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ تَقْدِيرُهُ: قَالُوا أَتَيْنَا، وَتَحَرُّكُ النُّونِ الثَّانِيَةِ
وَأَمَّا شُبَهُ أَرْبَابِ الِاشْتِرَاكِ (1) : فَأَوَّلُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَالصِّيَغَ قَدْ تُطْلَقُ لِلْعُمُومِ تَارَةً وَلِلْخُصُوصِ تَارَةً، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَحَقِيقَةُ الْخُصُوصِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْعُمُومِ، فَكَانَ اللَّفْظُ الْمُتَّحِدُ الدَّالُّ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً مُشْتَرِكًا كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ وَنَحْوِهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَحْسُنُ عِنْدَ إِطْلَاقِ هَذِهِ الصِّيَغِ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ مُطْلَقِهَا أَنَّكَ أَرَدْتَ الْبَعْضَ أَوِ الْكُلَّ، وَحُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلُ الِاشْتِرَاكِ (2) ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ.
وَأَمَّا شُبَهُ مَنْ قَالَ بِالتَّعْمِيمِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي دُونَ الْأَخْبَارِ فَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّكَالِيفِ بِأَوَامِرَ عَامَّةٍ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ وَبِنَوَاهٍ عَامَّةٍ لَهُمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ التَّكْلِيفُ عَامًّا، أَوْ كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَكْلِيفٍ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يَجُوزُ وُرُودُهُ بِالْمَجْهُولِ، وَلَا بَيَانَ لَهُ أَصْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} ، {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرً} بِخِلَافِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وَرَدَ بِالْمُجْمَلِ كَقَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، وَقَوْلِهِ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ بَيَانٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ مُتَأَخِّرٍ أَوْ مُقَارَنٍ.
وَالْجَوَابُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ عَنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الشُّبَهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، فَعَلَيْكَ بِنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَرْبَابُ الْعُمُومِ مِنَ الْآيَاتِ، أَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ إِضَافَةَ الْأَهْلِ قَدْ تُطْلَقُ تَارَةً لِلْعُمُومِ وَتَارَةً لِلْخُصُوصِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جَمَعَ السُّلْطَانُ أَهْلَ الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْمَعِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالْمَرْضَى (3) .
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ (الْقَوْلُ)
(1) الِاشْتِرَاكُ – أَيِ اللَّفْظِيُّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ
(2) الِاشْتِرَاكُ – أَيِ اللَّفْظِيُّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ
(3) إِنَّمَا أُرِيدَ بِأَهْلِ الْبَلَدِ الْخُصُوصُ فِي هَذَا الْمِثَالِ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِعَدَمِ دَعْوَةِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَرْضَى، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ إِلَى مَجْلِسِ السُّلْطَانِ، وَقَضَاءُ الْعَادَةِ بِعَدَمِ حُضُورِهِمْ فِيهِ لِقِيَامِ الْعُذْرِ فِي الْمَرِيضِ، وَتَرَفُّعِ مَجْلِسِهِ عَنْ حُضُورِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إِرَادَةِ الْخُصُوصِ مِنْ صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَلَوْ قِيلَ: أَكْرَمَ السُّلْطَانُ أَهْلَ الْبَلَدِ لَدَخَلَ هَؤُلَاءِ فِي عُمُومِ الصِّيغَةِ وَشَمَلَهُمْ كَرَمُهُ إِمَّا مُبَاشَرَةً وَإِمَّا عَنْ طَرِيقِ أَوْلِيَاءِ أُمُورِهِمْ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ ابْنِهِ فَإِنَّهُ فَهِمَ مِنْ عُمُومِ الصِّيغَةِ نَجَاةَ ابْنِهِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ وَتَوَجَّهَ اللَّوْمُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى سِيَاقِ الْكَلَامِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَأَنَّ النَّجَاةَ مَعْقُودَةٌ بِالْإِيمَانِ دُونَ قَرَابَةِ النَّسَبِ، وَأَنَّ الْهَلَاكَ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ نَسَبًا
بِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ بِقَرِينَةٍ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَرِينَةٍ.
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ صِحَّةَ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَمْ لَا.
وَأَمَّا قِصَّةُ ابْنُ الزِّبَعْرَى فَلَا حُجَّةَ فِيهَا أَيْضًا، لِأَنَّ سُؤَالَهُ وَقَعَ فَاسِدًا حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ (مَا) عَامَّةٌ فِيمَنْ يَعْقِلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَلِهَذَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُنْكِرًا عَلَيْهِ: ” «مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ» (1) وَهِيَ وَإِنْ أُطْلِقَتْ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا – وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا – وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} فَلَيْسَ حَقِيقَةً، بَلْ مَجَازًا.
وَيَجِبُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ» ” وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْمَنْقُولِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَجَوَابُهَا بِمَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ (2) .
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَهِمَ الْعِصْمَةَ مِنَ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ، وَهِيَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّهَا مُنَاسِبَةٌ لِذَلِكَ، وَالْحُكْمُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهَا فِي كَلَامِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ ذَلِكَ إِيمَاءً إِلَيْهَا بِالتَّعْلِيلِ.
أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ عُمُومِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَا.
وَمُعَارَضَةُ أَبِي بَكْرٍ إِنَّمَا كَانَتْ لِمَا فَهِمَهُ عُمَرُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ لَا لِغَيْرِهِ (3) .
(1) لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انْظُرْ كَلَامَ ابْنِ حَجْرٍ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْكَافِي الشَّافِي فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ
(2) سَبْقَ أَيْضًا مُنَاقَشَتُهُ
(3) الظَّاهِرُ أَنَّ الْعُمُومَ مَفْهُومٌ مِنْ إِضَافَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ لِلضَّمِيرِ لَا مِنَ التَّعْلِيلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءً وَأَمْوَالًا لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ مَعَ وُجُودِ التَّعْلِيلِ
وَأَمَّا قِصَّةُ فَاطِمَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَالْكَلَامُ فِي اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} مَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ (1) ، وَهُوَ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنِ احْتِجَاجِ عُثْمَانَ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، ثُمَّ قَدْ أَمْكَنَ أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إِلَى مَا فُهِمَ مِنَ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَهِيَ الزَّوْجِيَّةُ لَا إِلَى عُمُومِ اللَّفْظِ.
وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُ عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} لَمْ يَكُنْ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، بَلْ بِمَا أَوْمَى إِلَيْهِ اللَّفْظُ مِنَ الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْجَمْعِ وَهِيَ الْأُخُوَّةُ فَإِنَّهَا مُنَاسِبَةٌ لِذَلِكَ، دَفْعًا لِلْإِضْرَارِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنَ الْمُزَاحَمَةِ عَلَى الزَّوْجِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِاللَّفْظِ بِمُجَرَّدِهِ أَنْ لَوْ كَانَ لِلْعُمُومِ (2) وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَإِنَّ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ الرَّافِعَةِ لِلْحَرَجِ فِي احْتِجَاجِ عُثْمَانَ، وَالْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْجَمْعِ فِي احْتِجَاجِ عَلِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وَأَمَّا تَكْذِيبُ عُثْمَانَ لِلشَّاعِرِ فِي قَوْلِهِ: (
وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلٌ
) فَإِنَّمَا كَانَ لِمَا فَهِمَهُ مِنْ حَالِ الشَّاعِرِ الدَّالَّةِ عَلَى قَصْدِ تَعْظِيمِ الرَّبِّ بِبَقَائِهِ، وَبُطْلَانِ كُلِّ مَا سِوَاهُ.
أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ مُجَرَّدِ قَوْلِهِ (كُلُّ) فَلَا (3) .
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ أَيْضًا وَأَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ إِلَّا مِنْ أَجْلِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ وَهُوَ الْحَدِيثُ، وَلَوْلَاهُ لَبَقِيَتِ الْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مَنْعُهَا مِنَ الْمِيرَاثِ
(2) الظَّاهِرُ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – فَهِمَا عُمُومَ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُمَا لَمَّا تَعَارَضَ عُمُومُهُمَا فِي بَادِئِ النَّظَرِ وَجَبَ عَلَى الْعُلَمَاءِ طَلَبُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَذَهَبَ عَلِيٌّ إِلَى تَخْصِيصِ آيَةِ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ.
(3) مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ (كُلُّ نَعِيمٍ) فِي الْبَيْتِ وَدَلَالَةَ جَمِيعِ الصِّيَغِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ عَلَى الْعُمُومِ إِنَّمَا كَانَتْ بِالْقَرَائِنِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَهِيَ دَعْوَى لَا يَعْجِزُ عَنْهُمَا أَحَدٌ، وَالْإِغْرَاقُ فِي ذَلِكَ مِمَّا يُشْكِلُ فِي وَضْعِ الْأَلْفَاظِ لِمَعَانِيهَا وَدَلَالَتِهَا عَلَيْهَا، وَيَبْعَثُ الْحَيْرَةَ فِي مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ كَلَامِهِمْ، بَلْ مَنْ سَلَكَ ذَلِكَ الْمَسْلَكَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَيْرَةِ عَنِ الْحَقِّ وَالْهَرَبِ مِنْ مُوَاجَهَةِ الْأَدِلَّةِ، وَالْتِزَامِ مَا تُوجِبُهُ مِنْهُ إِلَى الْإِجَابَةِ عَنْهَا، وَإِنْصَافِ مُنَاظِرِهِ مِنْ نَفْسِهِ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي بَكْرٍ بِقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ” إِنَّمَا فُهِمَ مِنْهُ التَّعْمِيمُ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِتَعْظِيمِ قُرَيْشٍ وَمَيْزَتِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ فِيهِمْ وَالِاسْتِغْرَاقِ لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ.
وَأَمَّا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى إِجْرَاءِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي كُلِّ سَارِقٍ وَزَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْعِلَلِ الْمُومَى إِلَيْهَا الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْمِيمِ، وَهِيَ السَّرِقَةُ وَالزِّنَى وَقَتْلُ الظَّالِمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُ تَعْمِيمِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مُسْتَنِدًا إِلَى عُمُومِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَلَا.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَ مِنَ الْأُولَى الْمَعْنَوِيَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعُمُومَ ظَاهِرٌ، وَأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى وَضْعِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ إِحَالَةَ الْإِخْلَالِ بِهِ عَلَى الْوَاضِعِينَ.
وَلِهَذَا قَدْ أَخَلُّوا بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَانِي الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى تَعْرِيفِهَا بِوَضْعِ اللَّفْظِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ كَالْفِعْلِ الْحَالِيِّ وَرَائِحَةِ الْمِسْكِ وَالْعُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ الْخَاصَّةِ بِمِحَالِّهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ أَخَلَّوْا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَائِحَةُ الْمِسْكِ وَرَائِحَةُ الْعُودِ وَطَعْمُ الْعَسَلِ وَطَعْمُ السُّكَّرِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْإِضَافَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَوْضَاعِ الْمُعَرَّفَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْبَارِي تَعَالَى قَدْ عَرَّفَ نَفْسَهُ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: {ذُو الْعَرْشِ} وَ {ذِي الطَّوْلِ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
قُلْنَا: وَعَلَى هَذَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَرَبَ أَخَلَّتْ بِمَا يَعْرِفُ الْعُمُومُ، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَجَازِيَّةَ وَالْمُشْتَرَكَةَ أَيْضًا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُعَرَّفَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ خَارِجَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَنْ كَوْنِهَا حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ مَجَازًا فِيهِ وَحَقِيقَةً (1) فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ فَتَكُونُ مُشْتَرَكَةً.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَمَا خَلَا الْعُمُومُ فِي وَضْعِهِمْ عَنْ مُعَرَّفٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جِهَةِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ هَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ وَخَفَاءُ جِهَةِ الدَّلَالَةِ وَالْوُقُوفِ فِي تَعْيِينِهَا لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الْوَضْعِ وَالتَّعْرِيفِ.
(1) وَحَقِيقَةً – فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ أَوْ حَقِيقَةً
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: وَقَوْلُهُمْ إِنَّ (مَنْ) إِذَا كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً لَا تَخْلُو عَنِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسَلَّمٌ.
وَلَكِنْ لِمَ قَالُوا بِوُجُوبِ تَعْيِينِ بَعْضِهَا مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى ذَلِكَ؟
قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ لِلْخُصُوصِ لَمَا حَسُنَ الْجَوَابُ بِكُلِّ الْعُقَلَاءِ.
قُلْنَا: وَلَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَمَا حَسُنَ الْجَوَابُ بِالْبَعْضِ الْخَاصِّ لِمَا قَرَّرُوهُ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ كَيْفَ وَإِنَّ الْجَوَابَ بِالْكُلِّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لِلْخُصُوصِ يَكُونُ جَوَابًا عَنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَزِيَادَةً؟ وَالْجَوَابُ بِالْخُصُوصِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعُمُومِ لَا يَكُونُ جَوَابًا عَنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ.
وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَوَابُ بِالْكُلِّ مُسْتَحْسَنًا.
ثُمَّ مَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً؟
قَوْلُهُمْ: لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ الْجَوَابُ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ.
قُلْنَا: إِذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً وَهِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ فَالِاسْتِفْهَامُ إِنَّمَا هُوَ عَنْ مَدْلُولِهَا، وَمَدْلُولُهَا عِنْدَ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ الْمَدْلُولَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، فَإِذَا أَجَابَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ أَجَابَ عَمَّا سُئِلَ عَنْهُ، فَلَا حَاجَةَ بِالْمَسْئُولِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ.
قَوْلُهُمْ: فِي الشَّرْطِيَّةِ إِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأُكْرِمُهُ الْعُمُومُ لِمَا قَرَّرُوهُ.
قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ مَفْهُومًا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ، بَلْ مِنْ قَرِينَةِ إِكْرَامِ الزَّائِرِ حَتَّى أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ لَا أَصْلًا، وَلَا تَحَقَّقَ لِمَا سِوَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ فَهْمَ الْعُمُومِ مِنْهُ وَلَا جَوَازَ التَّعْمِيمِ دُونَ الِاسْتِفْهَامِ أَوْ ظُهُورِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا بِالْوَقْفِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ الْعَبْدِ وَلَوْ كَانَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ قُدِّرَ، وَحُسْنُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّرْدِيدِ، وَلَوْلَا التَّرْدِيدُ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ مَا اسْتُثْنِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَثْنَى دَاخِلًا تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَا لَهُ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ (1) .
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} ، وَالظَّنُّ دَاخِلٌ تَحْتَ لَفْظِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
(1) الْأَصْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ وَدُخُولُ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَعَدَمُ دُخُولِهِ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَلَا يُعْدَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا … عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إِلَّا أُوَارِيٌّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا … وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ (1)
فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ إِنَّمَا نَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مِنَ الْجِنْسِ لَا فِي غَيْرِهِ.
قُلْنَا: وَإِذَا كَانَ مِنَ الْجِنْسِ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ دُخُولِ مَا اسْتُثْنِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ عَلَى صَلَاحِيَتِهِ لِلدُّخُولِ تَحْتَهُ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صِحَّةُ اسْتِثْنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْجِنْسِ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، وَهِيَ مَا يَتَنَاوَلُ الْعَشَرَةَ فَمَا دُونَهَا، وَهِيَ أَفْعَلَ نَحْوُ أَفْلَسَ، وَأَفْعَالٌ نَحْوُ أَصْنَامٌ، وَأَفْعِلَةٌ نَحْوٍ أَرْغِفَةٌ، وَفِعْلَةٍ نَحْوُ صِبْيَةٍ، مَعَ أَنَّ آحَادَ الْجِنْسِ غَيْرُ وَاجِبَةِ الدُّخُولِ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ جَمْعِ السَّلَامَةِ إِذَا لَمْ تَدْخُلْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ بِنَصِّ سِيبَوَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ إِنَّمَا نَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ مِنْهُ، وَاسْتِثْنَاءُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ لَا يَصِحُّ مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ.
قُلْنَا: فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِثْنَاءُ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ مِنَ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ غَيْرَ وَاجِبِ الدُّخُولِ تَحْتَ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ، بَلْ مُمْكِنُ الدُّخُولِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ لِإِخْرَاجِ مَا يَصِحُّ دُخُولُهُ لَا مَا يَجِبُ دُخُولُهُ لَصَحَّ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ رَجُلًا إِلَّا زَيْدًا، لِصَلَاحِيَّةِ دُخُولِهِ تَحْتَ لَفْظِ رَجُلٍ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدْخُلُ فِي الْأَعْدَادِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا دِرْهَمًا وَهُوَ وَاجِبُ الدُّخُولِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ كُلٍّ، وَالْجُزْءُ وَاجِبُ الدُّخُولِ فِي كُلِّهِ.
قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يَكُونُ إِلَّا مُعَيَّنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ضَرُورَةَ وُقُوعِ الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا عِنْدَ الْمُسْتَمِعِ، وَالْمُعَيَّنُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ إِجْمَاعًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَبَعِيدٌ عَنِ التَّحْقِيقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ وُجُوبَ دُخُولِ الْوَاحِدِ فِي الْعَشَرَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ دُخُولِهِ فِيهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ دُخُولُهُ فِيهَا، وَمَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَعَمُّ مِنَ الْوَاجِبِ وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ لِوُجُوبِ الدُّخُولِ، بَلْ لِصِحَّةِ الدُّخُولِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَيْضًا.
(1) الْبَيْتَانِ لِلنَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ مِنْ قَصِيدَةٍ مَطْلَعُهَا:
يَا دَارَ مِيَةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ … أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ
كَيْفَ وَإِنَّ اسْتِثْنَاءً وَاجِبَ الدُّخُولِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ مُمْكِنِ الدُّخُولِ؟ وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي إِبْطَالِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عُمُومِ (مَنْ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَجَزَائِيَّةٌ يَكُونُ بِعَيْنِهِ جَوَابًا عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي عُمُومِ (كُلٍّ) وَ (جَمِيعٍ) .
قَوْلُهُمُ الْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ كُلَّ مَنْ فِي الْبَلَدِ يُعَدُّ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ رُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ ذَلِكَ مُطْلَقًا.
فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلَ: جَمَعَ السُّلْطَانُ كُلَّ التُّجَّارِ وَكُلَّ الصُّنَّاعِ وَجَاءَ كُلُّ الْعَسْكَرِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ تَخَلُّفِ آحَادِ النَّاسِ.
وَالْعُرْفُ بِذَلِكَ شَائِعٌ ذَائِعٌ، وَلَيْسَ حَوَالَةُ ذَلِكَ عَلَى الْقَرِينَةِ أَوْلَى مِنْ حَوَالَةِ صُورَةِ التَّكْذِيبِ عَلَى الْقَرِينَةِ (1) .
قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ: إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: كُلُّ النَّاسِ عُلَمَاءٌ يُكَذِّبُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: كُلُّ النَّاسِ لَيْسَ عُلَمَاءً لَيْسَ كَذَلِكَ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ لَوْ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِالْغَالِبِ عِنْدَهُ كَانَ تَفْسِيرُهُ صَحِيحًا مَقْبُولًا.
وَمَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَكَاذُبَ (2) .
نَعَمْ إِنَّمَا يَصِحُّ التَّكَاذُبُ بِتَقْدِيرِ ظُهُورِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى إِرَادَةِ الْكُلِّ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْكَرُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ بِمُطْلَقِهِ.
قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ: إِنَّا نُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ (بَعْضٍ) وَ (كُلٍّ) مُسَلَّمٌ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضًا لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَكُلًّا صَالِحٌ لَهُ وَلِمَا دُونَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ظُهُورُ (كُلٍّ) فِي الْعُمُومِ (3) .
قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ: إِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (كُلُّهُمْ) بَيَانًا لَا تَأْكِيدًا.
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا فِي ص 208 ج 2
(2) إِنَّمَا حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ إِمَّا لِعُرْفٍ وَإِمَّا لِصِيَانَةِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ عَنِ التَّدَافُعِ وَالتَّنَاقُضِ، فَحُمِلَ كُلٌّ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ عَلَى بَعْضِ الْمَعْنَى جَمْعًا بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ
(3) كُلٌّ وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ غَيْرَ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَاطِعَةً فِيهِ وَلَا تَنْصَرِفُ إِلَى الْخُصُوصِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ
قُلْنَا: وَإِنْ بَيَّنَ بِهِ مُرَادَهُ مِنْ لَفْظِهِ لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ تَأْكِيدًا لِمَا أَرَادَهُ مِنَ الْعُمُومِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ صَالِحٌ لَهُ (1) .
قَوْلُهُمْ فِي الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ: إِنَّ كَثْرَةَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ تَزِيدُ عَلَى كَثْرَةِ الْمُنَكَّرِ، قُلْنَا: مَتَى إِذَا أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ أَوْ إِذَا لَمْ يُرَدْ بِهِ ذَلِكَ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ صَالِحًا لِلِاسْتِغْرَاقِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَيَّنًا لَهُ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: رَأَيْتُ رِجَالًا مِنَ الرِّجَالِ كَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً صَارِفَةً لِلْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَصِحُّ تَأْكِيدُهُ بِمَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، قُلْنَا: ذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمُؤَكَّدِ صَالِحًا لِلْعُمُومِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَ التَّأْكِيدِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُتَعَيَّنًا بِوَضْعِهِ لِلْعُمُومِ (2) .
قَوْلُهُمْ فِي تَعْمِيمِ النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ: لَوْ قَالَ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ رُؤْيَتِهِ لِرَجُلٍ مَا، قُلْنَا: إِنَّمَا عُدَّ كَاذِبًا بِذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ إِنَّمَا يَنْفِي حَقِيقَةَ رَجُلٍ فِي الدَّارِ، فَإِذَا وُجِدَ رَجُلٌ فِي الدَّارِ كَانَ كَاذِبًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومُ فِي طَرَفِ النَّفْيِ إِذْ هُوَ نَفْيُ مَا لَيْسَ بِعَامٍّ (3) .
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ سَبَقَ جَوَابُهُ (4) .
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَصِحُّ تَكْذِيبُهُ بِأَنَّكَ رَأَيْتَ رَجُلًا، قُلْنَا: سَبَقَ جَوَابُهُ أَيْضًا (5) .
(1) بَلْ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ تَوْكِيدًا، فَإِنَّ الْبَيَانَ يَكُونُ لِمُجْمَلِ مَا اسْتَوَى فِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ، وَالتَّوْكِيدُ يَكُونُ لِمَا وَضَحَ مِنْهَا
(2) مَتَى سُلِّمَ صِحَّةُ تَوْكِيدِهِ بِمَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ وَجَبَ أَنْ يُسَلَّمَ ظُهُورُهُ فِي الْعُمُومِ وَضْعًا وَدَلَالَةً لَا صَلَاحِيَتُهُ لَهُ فَقَطْ، وَإِلَّا سُمِّيَ التَّابِعُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ لَا تَوْكِيدًا
(3) مَا ذَكَرَهُ تَقْرِيرٌ لِإِفَادَةِ هَذِهِ الصِّيَغِ لِلْعُمُومِ وَبَيَانٌ لِطَرِيقِ إِفَادَتِهَا لَهُ، فَإِنَّ نَفْيَ حَقِيقَةِ رَجُلٍ فِي الدَّارِ بِوُجُودِهِ فِيهَا، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْعُمُومُ فِي طُرُقِ النَّفْيِ وَالتَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ إِذْ هُوَ نَفِيٌ لِمَا لَيْسَ بِعَامٍّ قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ، فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِمَا هُوَ عَامٌّ عُمُومًا بِدَلِيلٍ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ ظَاهِرًا أَوْ قَطْعًا بِخِلَافِ نَفْيِ مَا هُوَ عَامٌّ عُمُومًا شُمُولِيًّا، فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى السَّوَاءِ أَوِ الْخُصُوصُ أَسْرَعُ إِلَى الْفَهْمِ نَحْوُ: مَا كُلُّ الدَّرَاهِمِ أَخَذْتُ
(4) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِمَا تَعْلِيقًا
(5) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِمَا تَعْلِيقًا
قَوْلُهُمْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَوْحِيدًا، قُلْنَا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ فَلَا يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ الْعُمُومِ بِهَا.
وَعَلَى هَذَا فَمَهْمَا لَمْ يُرِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا الْعُمُومَ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ تَوْحِيدًا، وَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ كَانَ تَوْحِيدًا، لَكِنْ لَا يَكُونُ الْعُمُومُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ، بَلْ مِنْ قَرِينَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ الدَّالَّةِ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ أَيْضًا فِيمَا إِذَا قَالَ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ رَجُلٍ، وَقَوْلُ أَهْلِ الْأَدَبِ: إِنَّهَا لِلْعُمُومِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الصَّلَاحِيَّةِ دُونَ الْوُجُوبِ (1) .
قَوْلُهُمْ فِي الْإِضَافَةِ: إِذَا قَالَ: أَعْتَقْتُ عَبِيدِي وَإِمَائِي ثُمَّ مَاتَ جَازَ لِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَبِيدِ دُونَ رِضَى الْوَرَثَةِ.
قُلْنَا: وَلَوْ قَالَ: أَنْفَقْتُ دَرَاهِمِي، وَصَرَمْتُ نَخِيلِي، وَضَرَبْتُ عَبِيدِي، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ إِنْفَاقِ بَعْضِ دَرَاهِمِهِ وَعَدَمِ صَرْمِ بَعْضِ نَخِيلِهِ وَعَدَمِ ضَرْبِ بَعْضِ عَبِيدِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِلْعُمُومِ لَكَانَ كَاذِبًا، وَلَيْسَ صَرْفُ ذَلِكَ إِلَى الْقَرِينَةِ (2) أَوْلَى مِنْ صَرْفِ مَا ذَكَرُوهُ إِلَى الْقَرِينَةِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: الْعَبِيدُ الَّذِينَ فِي يَدِي لِفُلَانٍ.
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْمِيمِ اسْمِ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ فَائِدَةٍ، قُلْنَا: يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهَا تَعْرِيفُ الْمَعْهُودِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعْهُودٌ، فَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى السَّوِيَّةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ دُخُولِهَا (3) .
(1) هَذَا خِلَافُ مَا ظَهَرَ مِنَ الصِّيغَةِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْأَدَبِ فِيهَا
(2) الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ الْعُمُومُ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ بِقَرِينَةِ الْعُرْفِ، وَإِذَنْ لَا تَكُونُ كَاذِبَةً بِالْخُلْفِ، وَقَدْ عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ تَأْثِيرُ الْعُرْفِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ
(3) يُقَالُ إِنَّ الْكَلَامَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ، وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى إِرَادَةِ الْعَهْدِ، وَدَعْوَى أَنَّ الْفَائِدَةَ هِيَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى السَّوِيَّةِ تُنَاقِضُ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنْ وَضْعِ اللُّغَاتِ، وَهُوَ الْإِفْهَامُ لَا الْإِبْهَامُ وَإِيقَاعُ السَّامِعِ أَوِ الْقَارِئِ فِي شَكٍّ وَحَيْرَةٍ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى الْعُمُومِ ظَاهِرًا أَوْ نَصًّا، وَانْظُرْ مَا يَدُورُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْآمِدِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَى شُبَهِ الْقَائِلِينَ بِالْخُصُوصِ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنَ النَّقْلِ الشَّاذِّ الَّذِي لَا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مَجَازٌ.
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمْ يَطَّرِدْ فِي كُلِّ اسْمٍ فَرْدٍ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: جَاءَنِي الرَّجُلُ الْعُلَمَاءُ وَالرَّجُلُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ وَإِنْ أَمْكَنَ نَعْتُهُ بِالْجَمْعِ، فَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّمَا هُوَ جِنْسُ الدِّينَارِ وَجِنْسُ الدِّرْهَمِ لَا جُمْلَةُ الدَّنَانِيرِ وَجُمْلَةُ الدَّرَاهِمِ.
وَحَيْثُ كَانَ الْهَلَاكُ بِجِنْسِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ لِأَمْرٍ مُتَحَقِّقٍ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ جَازَ نَعْتُهُ بِالْجَمْعِ، نَظَرًا إِلَى اقْتِضَاءِ الْمَعْنَى لِلْجَمْعِ، لَا نَظَرًا إِلَى اقْتِضَاءِ لَفْظِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ.
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْآيَةِ فَهُوَ مَجَازٌ.
وَلِهَذَا لَمْ يَطَّرِدْ، فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ الرَّجُلَ إِلَّا الْعُلَمَاءَ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ.
ثُمَّ لَوْ كَانَ ذَلِكَ صَالِحًا لِلِاسْتِغْرَاقِ لَأَمْكَنَ مَعَ اتِّحَادِهِ أَنْ يُؤَكَّدَ (بِكُلٍّ) وَ (جَمِيعٍ) كَمَا فِي (مَنْ) فِي قَوْلِكَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: جَاءَنِي الرَّجُلُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (1) ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَدَفْعُهُ بِمَنْعِ الْحَصْرِ فِيمَا قِيلَ، بَلِ الْقَائِلُ ثَلَاثَةً، وَالثَّالِثُ هُوَ الْقَائِلُ بِالتَّفْصِيلِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي تَعْمِيمِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْهُ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: رِجَالٌ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ عَدَدٍ عَلَى خُصُوصِهِ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمْعِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ فَمُسَلَّمٌ.
، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى مَا هُوَ الْأَخَصُّ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.
وَعَلَى هَذَا فَقَدَ بَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ كَانَ حَمْلًا لَهُ عَلَى جَمِيعِ حَقَائِقِهِ، ضَرُورَةَ اتِّحَادِ مَدْلُولِهِ.
الثَّانِي: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ عَدَدٍ بِخُصُوصِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِ الْإِرَادَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْأَقَلِّ مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَيْقَنًا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ بَيَانُ إِرَادَةِ الْبَعْضِ عَيْنًا أَنْ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ.
(1) هَذَا لَا يَصِحُّ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ بِإِفَادَةِ اسْمِ الْجِنْسِ الْمَجْمُوعِ لِلْعُمُومِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ دُونَ الْمُفْرَدِ
وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَوْضُوعًا لِبَعْضٍ مُطْلَقٍ فَلَا.
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَقَدْ عُرِفَ جَوَابُهُ كَيْفَ وَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْمِيَتِهِ نَكِرَةً؟ وَلَوْ كَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَكَانَ مَعْرُوفًا كُلَّهُ، فَلَا يَكُونُ مُنَكَّرًا مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ تَأْكِيدِ الْوَاحِدِ وَالْعُمُومِ بِمَا ذَكَرُوهُ، إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) تَأْكِيدًا لِلْعُمُومِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِلَّفْظِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعُمُومُ وَغَيْرُ الْعُمُومِ (1) .
قَوْلُهُمْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ.
قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهَا دُونَ التَّكْلِيفِ بِالْمَحَالِّ مَعَ وُجُودِ صِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَ الْقَرِينَةِ.
وَأَمَّا شُبَهُ أَرْبَابِ الْخُصُوصِ قَوْلُهُمْ فِي الْأُولَى: إِنَّ الْخُصُوصَ مُتَيَقَّنٌ، قُلْنَا: ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا فِي الزِّيَادَةِ، فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ مُسْتَيْقَنَةٌ فِي الْعَشَرَةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ لَفْظَ الْعَشَرَةِ حَقِيقَةً فِي الثَّلَاثَةِ مَجَازًا فِي الزِّيَادَةِ.
، فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْعَشَرَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَيْضًا مُسْتَيْقَنَةٌ، قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهَا بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً، كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ مَعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ الْعُمُومَ، فَلَوْ حُمِلَ لَفْظُهُ عَلَى الْخُصُوصِ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ لَا يَمْتَنِعُ حُصُولُ مَقْصُودِهِ مِنْهُ بِتَقْدِيرِ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ، بَلِ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ وَزِيَادَةٌ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
قَوْلُهُمْ فِي الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الصِّيَغِ فِي الْخُصُوصِ لَا نُسَلِّمُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ، وَإِن سُلِّمَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الصِّيَغِ حَقِيقَةً فِي الْخُصُوصِ وَمَجَازًا فِي الْعُمُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْغَائِطِ وَالْعَذِرَةِ غَالِبٌ فِي الْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ
(1) تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ تَعْلِيقًا
مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فِيهِ وَحَقِيقَةً فِي الْمَوْضِعِ الْمُطَمْئِنِ مِنَ الْأَرْضِ وَفِنَاءِ الدَّارِ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الشُّجَاعِ حَقِيقَةً فِي الْحَيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ الِاسْتِخْدَامِ فِي الرَّجُلِ الْمِقْدَامِ.
قَوْلُهُمْ فِي الثَّالِثَةِ: إِنَّهُ لَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ إِرَادَةِ الْبَعْضِ بِخِلَافِ الْعُمُومِ.
قُلْنَا: حُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ إِرَادَةِ الْعُمُومِ لَا يُخْرِجُ الصِّيغَةَ عَنْ كَوْنِهَا حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: دَخَلَ السُّلْطَانُ الْبَلَدَ وَلَقِيتُ بَحْرًا وَنَاطَحْتُ جَبَلًا وَرَأَيْتُ حِمَارًا، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ اسْتِفْهَامُهُ: هَلْ أَرَدْتَ بِالسُّلْطَانِ نَفْسَهُ أَوْ عَسْكَرَهُ؟ وَهَلْ أَرَدْتَ بِالْجَبَلِ الْجَبَلَ الْحَقِيقِيَّ أَوِ الرَّجُلَ الْعَظِيمَ؟ وَهَلْ أَرْدَتْ بِالْحِمَارِ الْحِمَارَ الْحَقِيقِيَّ أَوِ الْبَلِيدَ؟ وَأَرَدْتَ بِالْبَحْرِ الْبَحْرَ الْحَقِيقِيَّ أَوْ رَجُلًا كَرِيمًا؟ وَعَدَمُ حُسْنِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْبَعْضِ لِتَيَقُّنِهِ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الصِّيغَةِ حَقِيقَةً فِيهِ (1) بِدَلِيلِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْعَشَرَةِ.
قَوْلُهُمْ فِي الرَّابِعَةِ: لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: رَأَيْتُ الرِّجَالَ لِلْعُمُومِ لَكَانَ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ الْخُصُوصِ، قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ كَاذِبًا مَعَ كَوْنِ لَفْظِهِ حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ صَالِحًا لِإِرَادَةِ الْبَعْضِ تَجَوُّزًا، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ أَسَدًا وَحِمَارًا أَوْ بَحْرًا، وَكَانَ قَدْ رَأَى إِنْسَانًا شُجَاعًا، وَإِنْسَانًا بَلِيدًا، وَإِنْسَانًا كَرِيمًا لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ رَأَيْتُ عَشَرَةَ رِجَالٍ وَلَمْ يَكُنْ خَمْسَةً، فَإِنَّ لَفْظَ الْعَشَرَةِ مِمَّا لَا يَصْلُحُ لِلْخَمْسَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا تَجَوُّزًا.
قَوْلُهُمْ فِي الْخَامِسَةِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّيَغُ لِلْعُمُومِ لَكَانَ تَأْكِيدُهَا عَبَثًا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ مُجَازَفَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَبْعَدَ عَنْ قَبُولِ التَّخْصِيصِ وَأَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ صِحَّةُ تَأْكِيدِ الْخَاصِّ (2) بِقَوْلِهِمْ: جَاءَ زَيْدٌ عَيْنُهُ نَفْسُهُ، وَتَأْكِيدِ عُقُودِ الْأَعْدَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ، وَمَا هُوَ الْجَوَابُ هَاهُنَا عَنِ التَّأْكِيدِ يَكُونُ جَوَابًا فِي الْعُمُومِ.
(1) أَيْ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الصِّيغَةِ حَقِيقَةً فِي الْمُتَيَقَّنِ مَجَازًا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ
(2) ” صِحَّةُ تَأْكِيدِ ” – فِيهِ سَقْطٌ لَا يَصِحُّ الْمَعْنَى دُونَ تَقْدِيرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ ” عَدَمُ صِحَّةِ تَأْكِيدِ “
قَوْلُهُمْ: وَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهَا نَقْضًا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَعْدَادِ الْمُقَيَّدَةِ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا خَمْسَةً، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْعَشَرَةِ صَرِيحٌ فِيهَا، وَجَوَابُهُ فِي الْأَعْدَادِ جَوَابُهُ فِي الْعُمُومِ.
قَوْلُهُمْ فِي السَّادِسَةِ: إِنَّ (مِنْ) لَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَمَا جُمِعَتْ، قُلْنَا: قَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِجَمْعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْحَاقُ زِيَادَةِ الْوَاوِ وَإِشْبَاعُ الْحَرَكَةِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا فَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ لَا عَمَلَ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ جَمْعِ (مَنْ) حَالَةَ الْوَصْلِ، وَإِنَّمَا تُجْمَعُ عِنْدَمَا إِذَا حُكَى بِهَا الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ حَالَةَ الْوَقْفِ.
وَإِذ ذَاكَ فَلَا تَكُونُ لِلْعُمُومِ.
وَأَمَّا شُبَهُ أَرْبَابِ الِاشْتِرَاكِ قَوْلُهُمْ فِي الْأُولَى: إِنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ قَدْ تُطْلَقُ تَارَةً لِلْعُمُومِ وَتَارَةً لِلْخُصُوصِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
قُلْنَا: الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ بِصِفَةِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ لَا بِصِفَةِ الِاشْتِرَاكِ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا افْتَقَرَ فِي فَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْلُولَاتِهِ إِلَى قَرِينَةٍ تُعَيِّنُهُ ضَرُورَةَ تَسَاوِي نِسْبَةِ اللَّفْظِ فِيهِ إِلَى الْكُلِّ، وَالْقَرِينَةُ قَدْ تَظْهَرُ، وَقَدْ تَخْفَى.
وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْإِخْلَالِ بِمَقْصُودِ الْوَضْعِ، وَهُوَ التَّفَاهُمُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي مَدْلُولٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إِلَى قَرِينَةٍ مُخِلَّةٍ بِالْفَهْمِ.
قَوْلُهُمْ فِي الثَّانِيَةِ: إِنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ.
قُلْنَا: ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ مَعَ كَوْنِ اللَّفْظِ مُتَّحِدَ الْمَدْلُولِ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: خَاصَمْتُ السُّلْطَانَ، فَيُقَالُ: أَخَصَمْتُهُ؟ مَعَ كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي شَيْءٍ وَمَجَازًا فِي غَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ تَمْثِيلُهُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: صَدَمْتُ جَبَلًا وَرَأَيْتُ بَحْرًا وَلَقِيتُ حِمَارًا، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ اسْتِفْهَامُهُ، إِنَّكَ أَرَدْتَ بِذَلِكَ الْمَدْلُولَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ أَوِ الْمَجَازِيَّةَ مِنَ الرَّجُلِ الْعَظِيمِ وَالْكَرِيمِ وَالْبَلِيدِ.
وَذَلِكَ لِفَائِدَةِ زِيَادَةِ الْأَمْنِ مِنَ الْمُجَازَفَةِ فِي الْكَلَامِ، وَزِيَادَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَتَأَكُّدِهِ بِمَا اللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِي دَفْعِ الْمُعَارِضِ كَمَا سَبَقَ فِي التَّأْكِيدِ.
وَأَمَّا طَرِيقُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ فَرَّقَ مِنَ الْوَاقِفِيَّةِ بَيْنَ الْأَوَامِرِ وَالْأَخْبَارِ، فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يَذْكُرُونَهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّوَقُّفِ فِي الْأَخْبَارِ فَهُوَ بِعَيْنِهِ مُصْطَرِدٌ فِي الْأَوَامِرِ.
قَوْلُهُمْ: أَوَّلًا إِنَّ الْأَمْرَ تَكْلِيفٌ.
قُلْنَا: وَمِنَ الْأَخْبَارِ الْعَامَّةِ مَا كُلِّفْنَا بِمَعْرِفَتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، وَ {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وَكَذَلِكَ عُمُومَاتُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّا مُكَلَّفُونَ بِمَعْرِفَتِهَا، لِأَنَّ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الِانْزِجَارُ عَنِ الْمَعَاصِي وَالِانْقِيَادُ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَمَعَ التَّسَاوِي فِي التَّكْلِيفِ فَلَا مَعْنًى لِلْوُقُوفِ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لِيُفْضِيَ إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ فَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (1) .
قَوْلُهُمْ: ثَانِيًا إِنَّ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا يَرِدُ بِالْمَجْهُولِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ بِخِلَافِ الْأَمْرِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِالْمَجْهُولِ (2) كَيْفَ وَإِنَّ هَذَا الْفَرْقَ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ فِيمَا كَانَ مِنَ الْأَخْبَارِ لَمْ نُكَلَّفْ بِمَعْرِفَتِهَا إِلَى وَضْعِ اللَّفْظِ الْعَامِّ بِإِزَائِهِ فَغَيْرُ مُطَّرِدٍ فِيمَا كُلِّفْنَا بِمَعْرِفَتِهِ كَمَا سَبَقَ، وَهُمْ غَيْرُ قَائِلِينَ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ خَبَرٍ وَخَبَرٍ.
(1) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَحْكُومِ فِيهِ
(2) لَا يَرِدُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا خَبَرٌ تَضَمَّنُ تَكْلِيفًا بِمَجْهُولٍ إِلَّا وَقَدْ سَبَقَهُ أَوْ لَحِقَهُ بَيَانٌ، وَإِلَّا كَانَ مُنَافِيًا لِلْحِكْمَةِ، وَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ