كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هل الْعِلْمَ الْحَاصِلَ عَنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيٌّ أو نَظَرِي]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ عَنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيٌّ.
وَقَالَ الْكَعْبِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالدَّقَّاقُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ إِنَّهُ ضَرُورِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حُصُولِهِ إِلَى الشُّعُورِ بِتَوَسُّطِ وَاسِطَةٍ مُفْضِيَةٍ إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْوَاسِطَةَ حَاضِرَةٌ فِي الذِّهْنِ، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنَى
(1) السُّوفِسْطَائِيَّةُ: قِيلَ إِنَّهَا ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْأُولَى عِنَادِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي تُنْكِرُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَتُكَذِّبُ حِسَّهَا وَعَقْلَهَا، وَتَرَى ذَلِكَ وَهْمًا وَخَيَالًا. الثَّانِيَةُ: اللَّا أَدْرِيَّةُ، وَهِيَ الَّتِي تَشُكُّ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَتَتَرَدَّدُ فِيهَا، وَتَقُولُ: لَا أَدْرِي، أَلَهَا وُجُودٌ أَوْ لَا؟ الثَّالِثَةُ: عِنْدِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي تَرَى أَنْ لَيْسَ لِلْأَشْيَاءِ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِهَا، بَلْ تَتْبَعُ إِدْرَاكَ مَنْ أَدْرَكَهَا وَعَقِيدَةَ مَنْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ، وَهَذِهِ مَذَاهِبُ بَاطِلَةٌ بِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَمَعْنَى السَّفْسَطَةِ الْحِكْمَةُ الْمُمَوَّهَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ وَهْمِيَّةً كَاذِبَةً أَوْ شَبِيهَةً بِالْحَقِّ وَلَيْسَتْ بِهِ، انْظُرْ نَقْدَ ذَلِكَ فِي ج 19 مِنْ فَتَاوَى ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
أَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَقَوْلِنَا: الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا، وَالْمَوْجُودُ لَا يَكُونُ مَعْدُومًا، فَإِنَّهُ (1) لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُصُولِ مُقَدِّمَتَيْنِ فِي النَّفْسِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ لَا يَجْمَعُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ جَامِعٌ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَاقِعَةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِلَفْظٍ مَنْظُومٍ، وَلَا إِلَى الشُّعُورِ بِتَوَسُّطِهِمَا وَإِفْضَائِهِمَا إِلَيْهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ، كَالشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ.
وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حُجَجِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
أَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِالضَّرُورَةِ، فَأَوَّلُهَا وَهِيَ الْأَقْوَى، أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ، لَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَالصِّبْيَانِ وَالْعَوَامِّ. وَهُوَ وَاقِعٌ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصِّبْيَانَ وَالْعَوَامَّ الَّذِينَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ لَيْسَ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْغَامِضَةِ، كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَوُجُودِ الصَّانِعِ وَنَحْوِهِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا مُقَدِّمَاتُهُ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ نَظَرِيَّةٌ، فَيَكُونُ خَفِيًّا، وَإِلَى مَا مُقَدِّمَاتُهُ الْمُفْضِيَةُ إِلَيْهِ ضَرُورِيَّةٌ غَيْرُ نَظَرِيَّةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مِنَ الْقَبِيلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْعِلْمُ بِمُخْبَرِهِمْ حَاصِلَةً بِالضَّرُورَةِ لِلصِّبْيَانِ وَالْعَوَامِّ، وَيَكُونُ (2) الْعِلْمُ بِالنَّتِيجَةِ اللَّازِمَةِ عَنْهَا ضَرُورِيًّا.
وَإِنَّمَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ الْمَذْكُورَةُ أَنْ لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُخْبَرِهِمْ مِنْ قَبِيلِ مَا مُقَدِّمَاتُهُ نَظَرِيَّةٌ لَا ضَرُورِيَّةٌ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى بَيَانِهِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ الْعِلْمَ بِوُجُودِ مَكَّةَ وَبَغْدَادَ وَالْبِلَادِ النَّائِيَةِ عِنْدَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ بِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ سَابِقَةَ فِكْرٍ وَلَا نَظَرٍ فِيمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْعُلُومِ
(1) فَإِنَّهُ – تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا، بِمَعْنَى أَنَّهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. . إِلَخْ.
(2) وَيَكُونُ – الصَّوَابُ وَلَا يَكُونُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ قِسْمَيِ النَّظَرِيِّ السَّابِقَيْنِ أَوَّلَ الِاعْتِرَاضِ، وَلِمَا سَيَجِيءُ فِي الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنْ حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِإِفَادَةِ الْمُتَوَاتِرِ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ.
الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ، وَلَا فِي تَرْتِيبِهَا الْمُفْضِي إِلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ نَظَرِيًّا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَتَرْتِيبِهَا، إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِتِلْكَ الْأُمُورِ حَاصِلًا بِالضَّرُورَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي إِبْطَالِ الْحُجَّةِ الْأُولَى.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ حَاصِلًا بِالضَّرُورَةِ فَلَا.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ لَا يَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ. وَهَذِهِ هِيَ أَمَارَةُ الضَّرُورَةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمَنْفِيُّ بِالشُّبْهَةِ: الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ نَظَرِيَّةٌ أَوِ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ ضَرُورِيَّةٌ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا، لَأَمْكَنَ الْإِضْرَابُ عَنْهُ، كَمَا فِي سَائِرِ النَّظَرِيَّاتِ، وَحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الَّذِي يُمْكِنُ الْإِضْرَابُ عَنْهُ مِنَ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ الْمُفْتَقِرُ إِلَى الْمُقَدِّمَاتِ النَّظَرِيَّةِ.
وَأَمَّا مَا لَزِمَهُ (1) مِنْ مُقَدِّمَاتِ حَاصِلَةٍ بِالضَّرُورَةِ؛ فَلَا.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا، لَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَحَيْثُ لَمْ يَقَعْ إِلَّا مِنْ مُعَانِدٍ كَمَا سَبَقَ كَانَ ضَرُورِيًّا كَالْعِلْمِ بِالْمُحَسَّاتِ وَنَحْوِهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: تَسْوِيغُ الْخِلَافِ عَقْلًا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ الَّتِي مُقَدِّمَاتُهَا نَظَرِيَّةٌ.
وَأَمَّا مُقَدِّمَاتُهَا ضَرُورِيَّةٌ؛ فَلَا، كَمَا فِي الْمُحَسَّاتِ.
وَأَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِالنَّظَرِ؛ فَأَوَّلُهَا وَهِيَ مَا اسْتَدَلَّ بِهَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَنْ قَالَ: الِاسْتِدْلَالُ تَرْتِيبُ عُلُومٍ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى عِلْمٍ آخَرَ، فَكُلَّمَا وَقَفَ وُجُودَهُ عَلَى تَرْتِيبٍ فَهُوَ نَظَرِيٌّ، وَالْعِلْمُ الْوَاقِعُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ كَذَلِكَ فَكَانَ نَظَرِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا نَعْلَمُ ذَلِكَ، إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُخْبِرَ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ رَأْيِهِ، بَلْ عَنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ، لَا لَبْسَ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا دَاعِيَ لَهُ إِلَى الْكَذِبِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذِبًا.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذِبًا تَعَيَّنَ كَوْنُهُ صِدْقًا.
وَمَهْمَا اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ نَعْلَمْ صِحَّةَ الْخَبَرِ، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا سِوَى ذَلِكَ.
(1) مَا لَزِمَهُ، وَالصَّوَابُ مَا لَزِمَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ النَّظَرَ عِبَارَةٌ عَمَّا ذُكِرَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لَا لِغَرَضٍ مَعَ كَوْنِهِ مَقْدُورًا لَهُمْ، فَإِنْ قَالَ بِأَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اتِّفَاقَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى الْكَذِبِ لَا لِغَرَضٍ وَمَقْصُودٍ.
قُلْنَا: وَالْعَادَةُ أَيْضًا تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الصِّدْقِ لَا لِغَرَضٍ وَمَقْصُودٍ، فَلِمَ قُلْتَ بِعَدَمِ الْغَرَضِ فِي الصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ غَرَضٌ، فَلَيْسَ الصِّدْقُ أَوْلَى مِنَ الْكَذِبِ.
فَإِنْ قُلْنَا: الْغَرَضُ فِي الصِّدْقِ كَوْنُهُ صِدْقًا، لِكَوْنِهِ حَسَنًا وَلَا كَذَلِكَ الْكَذِبُ لِكَوْنِهِ قَبِيحًا، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ.
فَإِنْ قَالَ: الْمُرَادُ إِنَّمَا هُوَ التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعُرْفِيُّ دُونَ الْعَقْلِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَعُدُّونَ الْكَذِبَ قَبِيحًا وَالصِّدْقَ حَسَنًا.
قُلْنَا: التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعُرْفِيُّ رَاجِعٌ إِلَى مُوَافَقَةِ الْغَرَضِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ الْكَذِبَ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذِبٌ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مُوَافِقٌ لِأَغْرَاضِهِمْ دُونَ الصِّدْقِ، فَكَانَ حَسَنًا، كَمَا فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الصِّدْقِ فِي بَعْضِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى الْكَذِبِ إِلَّا لِغَرَضٍ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ مِنْهُ؟ فَإِنَّا قَدْ نَجِدُ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ مُتَّفِقِينَ عَلَى وَضْعِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ لِحِكْمَةٍ عَائِدَةٍ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ كَأَهْلِ مَدِينَةٍ أَوْ جَيْشٍ عَظِيمٍ اتَّفَقُوا عَلَى وَضْعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ، إِمَّا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَنْهُمْ لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهَا إِلَّا بِهِ، وَإِمَّا لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِهِ.
وَهَذَا مِمَّا يَغْلِبُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَ الْأَخْبَارِ الْعَامَّةِ الشَّائِعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمُعْتَادِ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قَالَ بِأَنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا، إِلَّا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ دَوَامَهُ، وَتُوجِبُ انْكِشَافَهُ عَنْ قُرْبٍ مِنَ الزَّمَانِ.
قُلْنَا: فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْعَادَةِ فِي اسْتِحَالَةِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ دَائِمًا فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْعَادَةَ مُوجِبَةٌ لِصِدْقِ الْمُخْبِرِينَ، إِذَا كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا، وَحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ، وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الصِّدْقُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُقَالَ الْعَادَةُ تُوجِبُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الصِّدْقِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَخْرُجُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ عَنْ كَوْنِهِ نَظَرِيًّا.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مِنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بِامْتِنَاعِ الْكَذِبِ عَلَى الْمُخْبِرِينَ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كَافِيًا فِي كَوْنِ الْعِلْمِ مِنَ التَّوَاتُرِ نَظَرِيًّا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْمُقَدِّمَاتِ قَدْ عُلِمَ مَعَهُ أَنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَأَنَّهَا الْوَاسِطَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمِ الْوُجُودِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيًّا لَنَا لَكُنَّا عَالِمِينَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ حُصُولَ عِلْمٍ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ مُحَالٌ.
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ ضَرُورِيًّا، وَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ ضَرُورِيًّا لَا بُدَّ وَأَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْعِلْمِ بِالْمُخْبَرِ بِالضَّرُورَةِ وَالْعِلْمُ بِصِفَتِهِ؛ وَهِيَ الضَّرُورَةُ، غَيْرَ ضَرُورِيٍّ.
كَيْفَ وَأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا، لَعَلِمْنَاهُ عَلَى صِفَتِهِ نَظَرِيًّا عَلَى مَا قَرَّرُوهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيًّا، لَمَا اخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِيهِ، كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاخْتِلَافُ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ، وَإِلَّا كَانَ خِلَافُ السُّوفِسْطَائِيَّةِ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِالضَّرُورِيَّاتِ، مَانِعًا مِنْ كَوْنِهَا ضَرُورِيَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ هَاهُنَا، بَلْ وَلَكَانَ خِلَافُ السُّمَنِيَّةِ فِي حُصُولِ أَصْلِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مَانِعًا مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يَزِيدُ فِي الْقُوَّةِ عَلَى خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِ رَسُولِهِ، بَلْ هُوَ مُمَاثِلٌ أَوْ أَدْنَى، وَالْعِلْمُ بِخَبَرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ غَيْرُ حَاصِلٍ بِالضَّرُورَةِ، بَلْ بِالِاسْتِدْلَالِ فَمَا هُوَ مِثْلُهُ كَذَلِكَ، وَالْأَدْنَى أَوْلَى.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَاصِلُ مَا ذُكِرَ رَاجِعٌ إِلَى التَّمْثِيلِ، مُفِيدٌ لِلْيَقِينِ كَمَا عَرَفْنَاهُ فِي مَوَاضِعِهِ.
كَيْفَ وَإِنَّ الْعِلْمَ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِلْمٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ، فَكَذَلِكَ لَا تَفَاوُتَ
بَيْنَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى ضَرُورِيَّتِهَا، كَالْعِلْمِ بِأَنْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مِنَ الِاثْنَيْنِ وَنَحْوِهِ، وَبَيْنَ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِخَبَرِ اللَّهِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلْمٌ.
وَمَعَ ذَلِكَ مَا لَزِمَ مِنْ كَوْنِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ ضَرُورِيَّةً أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ ضَرُورِيًّا، وَلَا مِنْ كَوْنِ خَبَرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ، أَنْ تَكُونَ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ.
وَإِذَا عُرِفَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَتَقَاوُمُ الْكَلَامِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ إِنَّمَا هُوَ الْوَقْفُ عَنِ الْجَزْمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ.