كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ الْخِطَابُ الْوَارِدُ شِفَاهًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ هَلْ يَخُصُّ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ فقط]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ (2)
الْخِطَابُ الْوَارِدُ شِفَاهًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَالْأَوَامِرُ الْعَامَّةُ كَقَوْلِهِ – تَعَالَى -:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وَنَحْوِهِ هَلْ يَخُصُّ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ أَوْ هُوَ عَامٌّ لَهُمْ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُعْتَزِلَةُ إِلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَذَهَبَتِ الْحَنَابِلَةُ وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّالِفِينِ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى تَنَاوُلِ ذَلِكَ لِمَنْ وُجِدَ بَعْدَ عَصْرِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حُجَّةُ النَّافِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُخَاطَبَةَ شِفَاهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وَ (وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمُخَاطَبِ مَوْجُودًا أَهْلًا لِلْخِطَابِ إِنْسَانًا مُؤْمِنًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ الْخِطَابِ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَلَا يَكُونُ الْخِطَابُ مُتَنَاوِلًا لَهُ (3) .
(1) انْظُرْ جَوَابَهُ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّالِثِ مَعَ مَا سَبَقَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمَّتِهِ فِي الْأَحْوَالِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ أُمَّتِهِ مَعَهُ فِي الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِهِ
(2) انْظُرِ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ الْمَعْدُومِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْأَصْلِ الرَّابِعِ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ
(3) إِنَّمَا تَسْتَدْعِي الْمُخَاطَبَةُ شِفَاهًا بِمِثْلِ قَوْلِهِ – تَعَالَى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كَوْنَ الْمُخَاطَبِ مَوْجُودًا مُؤَهَّلًا وَقْتَ الْخِطَابِ إِذَا أُرِيدَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ شِفَاهًا، أَمَّا إِذَا أُرِيدَ مُجَرَّدُ تَنَاوُلِ الْخِطَابِ وَالْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشَافَهًا بِالْخِطَابِ فَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِهِ وَقْتَ الْخِطَابِ فَضْلًا عَنْ أَهْلِيَّتِهِ لَهُ، بَلْ يَكْفِي فِي تَنَاوُلِهِ لَهُ وَتَكْلِيفِهِ بِهِ أَنْ يَنْطَبِقَ عَلَيْهِ اللَّقَبُ الَّذِي نُودِيَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ لِلْخِطَابِ فِي زَمَنٍ مَا وَلَوْ بَعْدَ صُدُورِ الْخِطَابِ بِآلَافِ السِّنِينَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الْخِطَابُ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجٍ.
الثَّانِي: أَنَّ خِطَابَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ مُمْتَنِعٌ حَتَّى إِنَّ مَنْ شَافَهَهُ بِالْخِطَابِ اسْتُهْجِنَ كَلَامُهُ وَسُفِّهَ فِي رَأْيِهِ، مَعَ أَنَّ حَالَهُمَا لِوُجُودِهِمَا وَاتِّصَافَهُمَا بِصِفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَأَصْلِ الْفَهْمِ وَقَبُولَهُمَا لِلتَّأْدِيبِ بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ أَقْرَبُ إِلَى الْخِطَابِ لَهُمَا مِمَّنْ لَا وُجُودَ لَهُ (1) .
احْتَجَّ الْخُصُومُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ – تَعَالَى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
” «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» ” (2) ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خِطَابُهُ مُتَنَاوِلًا لِمَنْ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إِلَيْهِ وَلَا مُبَلِّغًا إِلَيْهِ شَرْعَ اللَّهِ، تَعَالَى، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ” (3) ، وَلَفْظُ (الْجَمَاعَةِ) يَسْتَغْرِقُ كُلَّ مَنْ بَعْدَهُ.
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ عَلَى مَنْ فِي زَمَانِهِ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِمْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ.
(1) هَذَا صَحِيحٌ إِذَا أُرِيدَ مُشَافَهَتُهُمَا بِالْخِطَابِ حَالَةَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ، أَمَّا إِذَا أُرِيدَ تَنَاوُلُ الْخِطَابِ لَهُمَا عِنْدَ أَهْلِيَّتِهِمَا لِلتَّكْلِيفِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ تَتَنَاوَلُهُمَا الْأَحْكَامُ عِنْدَ تَحَقُّقِ أَهْلِيَّتِهِمَا لِلتَّكْلِيفِ
(2) بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ. لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ فِي أَحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثُ: ” أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي “، وَمِنْهُ: ” وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ فِي قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً “.
(3) حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ ” وَفِي لَفْظٍ: ” كَحُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ “، قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْبَيْضَاوِيِّ: لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَسُئِلَ عَنْهُ الْمِزِّيُّ وَالذَّهَبِيُّ فَأَنْكَرَاهُ، انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ سُورَةَ الْمُمْتَحَنَةِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْعَجْلُونِيُّ فِي كَشْفِ الْخَفَا.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينِ وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا مَا زَالُوا يَحْتَجُّونَ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَنْ وُجِدَ بَعْدَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِالْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْلَا عُمُومُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لِمَنْ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ التَّمَسُّكُ بِهَا صَحِيحًا، وَكَانَ الِاسْتِرْوَاحُ إِلَيْهَا خَطَأً، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَانَ إِذَا أَرَادَ التَّخْصِيصَ بِبَعْضِ الْأُمَّةِ نَصَّ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ خِطَابِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِلْوَاحِدِ هَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلْبَاقِينَ؟ وَلَوْلَا أَنَّ الْخِطَابَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ يَكُونُ خِطَابًا لِلْكُلِّ لَمَا احْتَاجَ إِلَى التَّخْصِيصِ.
وَالْجَوَابُ عَلَى النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً أَنَّهَا إِنَّمَا تَلْزَمُ أَنْ لَوْ تَوَقَّفَ مَفْهُومُ الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثَةِ إِلَى كُلِّ النَّاسِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ لِلْكُلِّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ شِفَاهًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِتَعْرِيفِ الْبَعْضِ بِالْمُشَافَهَةِ وَتَعْرِيفِ الْبَعْضِ بِنَصْبِ الدَّلَائِلِ وَالْأَمَارَاتِ، وَقِيَاسِ بَعْضِ الْوَقَائِعِ عَلَى بَعْضٍ (1) .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ بِالْخِطَابِ شِفَاهًا لِقِلَّةِ النُّصُوصِ وَنُدْرَتِهَا وَكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ (2) ، وَمَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رَسُولًا وَلَا مُبَلِّغًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ بِالْخِطَابِ شِفَاهًا.
فَإِنْ قِيلَ: وَالدَّلَائِلُ الَّتِي يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَنْ وُجِدَ بَعْدَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ – غَيْرُ الْخِطَابِ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ، إِنَّمَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا حُجَّةً بِالدَّلَائِلِ الْخِطَابِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ الْمَوْجُودُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ بَعْدَهُ فَقَدْ تَعَذَّرَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَيْهِ.
(1) لَمْ يَدَّعِ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ الْمَعْدُومَ مُشَافَهٌ بِالْخِطَابِ إِنَّمَا ادَّعَى أَنَّ الْخِطَابَ مُتَنَاوِلٌ لَهُ عِنْدَ أَهْلِيَّتِهِ لِلتَّكْلِيفِ وَانْطِبَاقِ اللَّقَبِ الْمُنَادَى بِهِ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي إِثْبَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَا أُجِيبَ بِهِ مُلَاقِيًا لِلدَّلِيلِ.
(2) النُّصُوصُ وَإِنْ كَانَتْ مَحْصُورَةً، لَكِنَّهَا قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ بِنَفْسِهَا تَارَةً وَبِالْقَرَائِنِ وَالْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ تَارَةً أُخْرَى، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْكَمَ بِهَا فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْيَانِ الْوَقَائِعِ وَالْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةِ وَقْتَ الْخِطَابِ، وَبِذَلِكَ عَمَّتِ الشَّرِيعَةُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْدُومُ مُشَافَهًا بِهَا مِنْهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قُلْنَا: أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ كَوْنِهَا حُجَّةً بِالنَّقْلِ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ حَكَمَ بِكَوْنِهَا حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ عَنِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ” فَالْكَلَامُ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى مَنْ وُجِدَ بَعْدَهُ، وَهُوَ أَشْبَهُ حُجَجِ الْخُصُومِ، فَجَوَابُهُ أَنَّا بَيَّنَّا امْتِنَاعَ الْمُخَاطَبَةِ لِمَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بِمَا لَا مِرَاءَ فِيهِ (2) .
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ اسْتِنَادِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ إِلَى النُّصُوصِ مِنْ جِهَةِ مَعْقُولِهَا، لَا مِنْ جِهَةِ أَلْفَاظِهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْنَى فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ فِي مَسْأَلَةِ خِطَابِ النَّبِيِّ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْأُمَّةِ (3) .
(1) وَكَذَلِكَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ تَنَاوُلِهَا الْمَعْدُومَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَتَتَضَافَرُ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهَا
(2) إِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِمَا يُثْبِتُ أَنَّ الْمَعْدُومَ وَقْتَ الْخِطَابِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُشَافَهٌ بِهِ مِنْهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمَّا أَنَّ خِطَابَهُ وَشَرَائِعَهُ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ فَلَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ أَدِلَّتُهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَتَعَارَضُ الْأَدِلَّةُ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرَ.
(3) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا هُنَاكَ.
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ الْمُخَاطَبِ هَلْ يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ لُغَةً أَوْ لَا]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ (1)
اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ هَلْ يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ لُغَةً أَوْ لَا؟ وَالْمُخْتَارُ دُخُولُهُ، وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ الْأَكْثَرِينَ وَسَوَاءٌ كَانَ خِطَابُهُ الْعَامُّ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا.
أَمَّا فِي قَوْلِهِ – تَعَالَى -: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فَإِنَّ اللَّفْظَ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ شَيْءٍ مَعْلُومًا لِلَّهِ، تَعَالَى، وَذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ أَشْيَاءُ فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ.
وَالْأَمْرُ فَكَمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ فَأَكْرِمْهُ، فَإِنَّ خِطَابَهُ لُغَةً يَقْتَضِي إِكْرَامَ كُلِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى الْعَبْدِ.
فَإِذَا أَحْسَنَ السَّيِّدُ إِلَيْهِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْسِنِينَ إِلَى الْعَبْدِ، فَكَانَ إِكْرَامُهُ عَلَى الْعَبْدِ لَازِمًا بِمُقْتَضَى عُمُومِ خِطَابِ السَّيِّدِ.
وَكَذَلِكَ فِي النَّهْيِ كَمَا إِذَا قَالَ لَهُ: مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ فَلَا تُسِئْ إِلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْوُضُوحِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْإِطْنَابِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِ لِلنَّصِّ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ – تَعَالَى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ أَشْيَاءُ وَهُوَ غَيْرُ خَالِقٍ لَهَا، وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ خَبَرِهِ لَكَانَ خَالِقًا لَهَا، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِ بِدِرْهَمٍ، وَلَوْ دَخَلَ السَّيِّدُ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِينَ إِلَى الدَّارِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِدِرْهَمٍ.
وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ أَمْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ حَسَنًا.
قُلْنَا: أَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا بِالنَّظَرِ إِلَى عُمُومِ اللَّفْظِ تَقْتَضِي كَوْنَ الرَّبِّ – تَعَالَى – خَالِقًا لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُمْتَنِعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَقْلًا كَانَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ دُخُولِهِ فِي الْعُمُومِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَخُرُوجِهِ عَنْهُ بِالتَّخْصِيصِ (2) .
، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمِثَالِ، فَإِنَّهُ بِعُمُومِهِ مُقْتَضٍ لِلتَّصَدُّقِ عَلَى السَّيِّدِ عِنْدَ دُخُولِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ وَالدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ امْتَنَعَ ثُبُوتُ حُكْمِ الْعُمُومِ فِي حَقِّهِ، وَلَا مُنَافَاةَ كَمَا سَبَقَ.
(1) مَا اخْتَارَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ خَصْمِهِ فِي أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا، وَيَنْقُضُ مَا اخْتَارَهُ مِنَ التَّوَقُّفِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ وَيَقْضِي عَلَى أَدِلَّتِهِ وَمُنَاقَشَاتِهِ هُنَاكَ.
(2) وَأَيْضًا فَإِخْبَارُهُ – تَعَالَى – عَنْ نَفْسِهِ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ خَالِقٌ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: ” كُلِّ شَيْءٍ ” وَإِلَّا كَانَ مَخْلُوقًا لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ سَابِقًا عَلَى نَفْسِهِ، لِكَوْنِهِ خَالِقَهَا مُتَأَخِّرًا عَنْهَا لِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا لَهَا، وَسَبْقُ الشَّيْءِ نَفْسَهُ وَتَأْخِيرُهُ عَنْهَا فِي الْوُجُودِ مُحَالٌ، فَالْآيَةُ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْمَفْعُولِ.