الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ الإجماع السكوتي

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)


الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إِلَى حُكْمٍ، وَعَرَفَ بِهِ أَهْلُ عَصْرِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا؟
فَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْجُبَّائِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ.
لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ كَالْجُبَّائِيِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى نَفْيِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ دَاوُدَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ.
وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنْ حَاكِمٍ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ فُتْيَا كَانَ إِجْمَاعًا.
وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ لِكَوْنِهِ إِجْمَاعًا بِأَنَّ سُكُوتَ مَنْ سَكَتَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ بَعْدُ فِي حُكْمِ الْوَاقِعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اجْتَهَدَ لَكِنْ لَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُ إِلَى شَيْءٍ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى شَيْءٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُخَالِفًا لِلْقَوْلِ الَّذِي ظَهَرَ، لَكِنَّهُ لَمْ يُظْهِرْهُ إِمَّا لِلتَّرَوِّي وَالتَّفَكُّرِ فِي ارْتِيَادِ وَقْتٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِهِ، وَإِمَّا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ مُجْتَهِدٌ وَلَمْ يَرَ الْإِنْكَارَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ لِأَنَّهُ سَكَتَ خَشْيَةً وَمَهَابَةً وَخَوْفَ ثَوَرَانِ فِتْنَةٍ، كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَافَقَ عُمَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ وَأَظْهَرَ النَّكِيرَ بَعْدَهُ، وَقَالَ: هِبْتُهُ وَكَانَ رَجُلًا مَهِيبًا، وَإِمَّا لِظَنِّهِ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ كَفَاهُ مُؤْنَةَ الْإِنْكَارِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ.
وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً.

وَأَمَّا حُجَّةُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْحَاضِرَ مَجَالِسَ الْحُكَّامِ يَحْضُرُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ خِلَافِهِمْ لَهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ لِمَا فِي الْإِنْكَارِ مِنَ الِافْتِيَاتِ عَلَيْهِمْ ; وَلِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَقْطَعُ الْخِلَافَ وَيُسْقِطُ الِاعْتِرَاضَ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفْتِي، فَإِنَّ فَتْوَاهُ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَلَا مَانِعَةٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَفِي هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ نَظَرٌ:
أَمَّا الْأُولَى: فَمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَدِحَةً عَقْلًا، فَهِيَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ أَحْوَالِ أَرْبَابِ الدِّينِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
أَمَّا احْتِمَالُ عَدَمِ الِاجْتِهَادِ فِي الْوَاقِعَةِ فَبَعِيدٌ مِنَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِهْمَالِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا حَدَثَ مَعَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ وَإِلْزَامِهِمْ بِهِ وَامْتِنَاعِ تَقْلِيدِهِمْ لِغَيْرِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ؛ فَإِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَالظَّاهِرُ عَدَمَ ارْتِكَابِهَا مِنَ الْمُتَدَيِّنِ الْمُسْلِمِ.
وَأَمَّا احْتِمَالُ عَدَمِ تَأْدِيَةِ الِاجْتِهَادِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا مِنْ حُكْمٍ إِلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلَائِلُ وَأَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا هُوَ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَالظَّفْرُ بِهَا.
وَأَمَّا احْتِمَالُ تَأْخِيرِ الْإِنْكَارِ لِلتَّرَوِّي وَالتَّفَكُّرِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، غَيْرَ أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا مَضَتْ عَلَيْهِمْ أَزْمِنَةٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى انْقَرَضَ الْعُمْرُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَأَمَّا احْتِمَالُ السُّكُوتِ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْنَعُ مِنْ مُبَاحَثَتِهِ وَمُنَاظَرَتِهِ وَطَلَبِ الْكَشْفِ عَنْ مَأْخَذِهِ، لَا بِطَرِيقٍ كَالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ إِلَى زَمَنِنَا هَذَا بِمُنَاظَرَةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ; لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، كَمُنَاظَرَتِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَالْعَوْلِ، وِدِيَةِ الْجَنِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ.
وَأَمَّا احْتِمَالُ التَّقِيَّةِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّقِيَّةَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْمَخَافَةَ ظَاهِرًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ أَنَّ مَبَاحِثَ الْمُجْتَهِدِينَ غَيْرُ مُسْتَلْزِمَةٍ لِذَلِكَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ أَرْبَابِ الدِّينِ، أَنَّ مُبَاحَثَتَهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَا تُوجِبُ خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا حِقْدًا فِي صَدْرِهِ تُخَافُ عَاقِبَتُهُ، إِذْ هُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الدِّينِ.
الثَّانِي أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَامِلًا غَيْرَ مُخَوِّفٍ، فَلَا تَقِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ ذَا شَوْكَةٍ وَقُوَّةٍ كَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، فَمُحَابَاتُهُ فِي ذَلِكَ تَكُونُ غِشًّا فِي الدِّينِ، وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ يُعَدُّ نُصْحًا.
وَالْغَالِبُ إِنَّمَا هُوَ سُلُوكُ طَرِيقِ النُّصْحِ وَتَرْكِ الْغِشِّ مِنْ أَرْبَابِ الدِّينِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ فِي رَدِّهِ عَلَى عُمَرَ فِي عَزْمِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْجَلْدِ عَلَى أَحَدِ الشُّهُودِ عَلَى الْمُغِيرَةِ (1) بِقَوْلِهِ: ” إِنْ جَلَدْتَهُ، ارْجُمْ (2) صَاحِبَكَ “.
وَرَدُّ مُعَاذٍ عَلَيْهِ فِي عَزْمِهِ عَلَى جَلْدِ الْحَامِلِ بِقَوْلِهِ: إِنْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ عَلَى ظَهْرِهَا سَبِيلًا فَمَا جَعَلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلًا، حَتَّى قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا مُعَاذٌ لَهَلَكَ عُمَرُ.
وَمِنْ ذَلِكَ رَدُّ الْمَرْأَةِ عَلَى عُمَرَ لَمَّا نَهَى عَنِ الْمُغَالَاةِ فِي مُهُورِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهَا: أَيُعْطِينَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} ، وَيَمْنَعُنَا عُمَرُ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ: امْرَأَةٌ خَاصَمَتْ عُمَرَ فَخَصَمَتْهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ لَعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ تَجَدَّدَ لَهُ رَأْيٌ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: رَأْيُكُ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَأْيِكِ وَحْدَكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ.
وَأَمَّا حُجَّةُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّمَا تَصِحُّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السُّكُوتَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ رِضًا، وَعَلَى هَذَا فَالْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ ظَنِّيٌّ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ ظَاهِرٌ لَا قَطْعِيٌّ.


(1) لَمَّا جَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ حَدَّ الْقَذْفِ، قَالَ أَبُو بَكْرَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ: أَشْهَدُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ زَنَا، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يُعِيدَ حَدَّهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنْ جِلَدْتَهُ، فَارْجُمِ الْمُغِيرَةَ.
(2) ارْجُمْ – صَوَابُهُ: فَارْجُمْ.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *