كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ كَقَوْلِهِ: (إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا) (1) أَوْ صِفَةٍ كَقَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} هَلْ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ أَمْ لَا؟
فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَهُوَ هَاهُنَا أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ اخْتَلَفُوا هَاهُنَا: فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ.
وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْحِجَاجِ لَا بُدَّ مِنْ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَنَقُولُ: مَا عُلِّقَ بِهِ الْمَأْمُورُ مِنَ الشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ عِلَّةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَالزِّنَا، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، بَلِ الْحُكْمُ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ لَهُ فِيهِ، كَالْإِحْصَانِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ فِي الزِّنَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى تَكَرُّرِ الْفِعْلِ بِتَكَرُّرِهِ نَظَرًا إِلَى تَكَرُّرِ الْعِلَّةِ، وَوُقُوعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى التَّعَبُّدِ بِاتِّبَاعِ الْعِلَّةِ، مَهْمَا وُجِدَتْ، فَالتَّكْرَارُ مُسْتَنِدٌ إِلَى تَكْرَارِ الْعِلَّةِ، لَا إِلَى الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا تَكْرَارَ.
وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ بِحُجَجٍ وَاهِيَةٍ، لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، الْحُجَّةُ الْأُولَى أَنَّهُمْ قَالُوا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ لَا يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: ” إِنْ جَاءَ زَيْدٌ جَاءَ عَمْرٌو ” فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَكَرُّرُ مَجِيءِ عَمْرٍو فِي تَكَرُّرِ مَجِيءِ زَيْدٍ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ (2) .
(1) لَوْ مَثَّلَ بِأَمْثِلَةٍ مِنَ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ” إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمُ ” الْآيَةُ وَقَوْلُهُ: ” وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ” الْآيَةُ لَكَانَ أَوْلَى
(2) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْقِسْمَةِ الرَّابِعَةِ لِلْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ – ج 1
الثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ ” إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ” فَإِنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ ” إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا ” وَهُوَ أَيْضًا مِنْ جِنْسِ مَا تَقَدَّمَ، لِمَا فِيهِ مِنْ قِيَاسِ الْأَمْرِ عَلَى إِنْشَاءِ الطَّلَاقِ الَّذِي لَيْسَ بِأَمْرٍ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ إِلَّا عَلَى تَعْلِيقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صُورَةٍ، أَوْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُشْعِرُ بِالْأَعَمِّ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُشْعِرًا بِالْأَخَصِّ.
وَحَاصِلُ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى مَحْضِ الدَّعْوَى بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُضَافَ إِلَى الشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ اقْتِضَاءُ التَّكْرَارِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ، وَهُوَ عَيْنُ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْأَعَمِّ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ إِشْعَارِهِ بِالْأَخَصِّ.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ، أَنْ يُقَالَ لَوْ وَجَبَ التَّكْرَارُ لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهُ نَفْسُ الْأَمْرِ أَوِ الشَّرْطِ أَوْ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ لِمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا بِالثَّانِي لِأَنَّ الشَّرْطَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الْمَشْرُوطِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ، بَلْ إِنَّمَا تَأْثِيرُهُ فِي انْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَحَيْثُ قِيلَ بِمُلَازَمَةِ الْمَشْرُوطِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ ” إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ” إِنَّمَا كَانَ لِضَرُورَةِ وُجُودِ الْمُوجَبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ” أَنْتِ طَالِقٌ ” لَا لِنَفْسِ دُخُولِ الدَّارِ، وَإِلَّا كَانَ دُخُولُ الدَّارِ مُوجِبًا لِلطَّلَاقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالثَّالِثِ، لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ ” إِذَا دَخَلْتِ السُّوقَ فَاشْتَرِ لَحْمًا ” أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ لِلتَّكْرَارِ، أَوْ لَا مَعَ تَحَقُّقِهِ: لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ.
وَإِلَّا فَانْتِفَاءُ التَّكْرَارِ إِمَّا لِمُعَارِضٍ، أَوْ لَا لِمُعَارِضٍ، وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَتَعْطِيلِ الدَّلِيلِ عَنْ أَعْمَالِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الثَّانِي، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ مِنْ وُجُوهٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَامِرُ مُتَعَلِّقَةٌ بِشُرُوطٍ وَصِفَاتٍ وَهِيَ مُتَكَرِّرَةٌ بِتَكَرُّرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} الْآيَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} الْآيَةُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِلتَّكْرَارِ لَمَا كَانَ مُتَكَرِّرًا.
الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِهَا إِجْمَاعًا، وَالشَّرْطُ أَقْوَى مِنَ الْعِلَّةِ لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِفَائِهِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ، فَكَانَ اقْتِضَاؤُهُ لِلتَّكْرَارِ أَوْلَى.
الثَّالِثُ: أَنَّ نِسْبَةَ الْحُكْمِ إِلَى إِعْدَادِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْمَوْجُودِ الْأَوَّلِ مِنْهَا، دُونَ مَا بَعْدَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ مِنِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ ثَانِيًا وَثَالِثًا انْتِفَاؤُهُ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، أَوْ مِنْ وُجُودِهِ مَعَ الْأَوَّلِ الْوُجُودُ مَعَ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ ضَرُورَةَ التَّسْوِيَةِ. وَالْأَوَّلُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَطْلُوبُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ الشُّرُوطِ، بَلْ بِالْأَوَّلِ مِنْهَا فَيَلْزَمُ، أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ مَعَ الشَّرْطِ الثَّانِي، دُونَ الْأَوَّلِ، قَضَاءٌ، وَكَانَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّ النَّهْيَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مُفِيدٌ لِلتَّكْرَارِ، كَمَا إِذَا قَالَ ” إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا ” وَالْأَمْرُ ضِدُّ النَّهْيِ، فَكَانَ مُشَارِكًا لَهُ فِي حُكْمِهِ، ضَرُورَةَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ.
السَّادِسُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الْأَمْرِ عَلَى الشَّرْطِ الدَّائِمِ مُوجِبٌ لِدَوَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِدَوَامِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ (إِذَا وُجِدَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَصُمْهُ) فَإِنَّ الصَّوْمَ يَكُونُ دَائِمًا بِدَوَامِ الشَّهْرِ، وَتَعْلِيقُ الْأَمْرِ عَلَى الشَّرْطِ الْمُتَكَرِّرِ فِي مَعْنَاهُ فَكَانَ دَائِمًا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ غَيْرُ مُقْتَضٍ لِلتَّكْرَارِ، فَحَيْثُ قُضِيَ بِالتَّكْرَارِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ وَالصِّفَةُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمُكَرَّرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، أَوْ لَا يَكُونُ عِلَّةً لَهُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَالتَّكْرَارُ إِنَّمَا كَانَ لِتَكَرُّرِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مُتَكَرِّرًا لِدَلِيلٍ اقْتَضَاهُ غَيْرُ الْأَمْرِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ اقْتِضَائِهِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ كَمَا قَدْ يَتَكَرَّرُ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، فَقَدْ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْأَمْرِ بِالْحَجِّ، فَإِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ بِتَكَرُّرِهَا.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَكَرُّرِ الْحُكْمِ بِتَكَرُّرِ الْعِلَّةِ لِكَوْنِهَا مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ، تَكَرُّرُهُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ، كَمَا تَقَرَّرَ.
وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُلْزِمُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا بَلِ الْأَمْرُ مُقْتَضٍ لِلِامْتِثَالِ مَعَ اسْتِوَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِ، إِذَا عُلِمَ تَجَدُّدُ الشَّرْطِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ الْمَأْمُورِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ قَدِ اقْتَضَى تَعَلُّقَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الشُّرُوطِ كُلِّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ لَهُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ تَجَدُّدُ الشَّرْطِ، وَلَا بَقَاءُ الْمَأْمُورِ إِلَى حَالَةِ وُجُودِ الشَّرْطِ الثَّانِي، فَقَدْ تَعَيَّنَ اخْتِصَاصُ الْمَأْمُورِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ مَا سِوَاهُ.
وَعَلَى هَذَا، فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ أَيْضًا.
وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى قِيَاسِ الْأَمْرِ عَلَى النَّهْيِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ.
كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّهْيَ الْمُضَافَ إِلَى الشَّرْطِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، بَلْ مَا اقْتَضَاهُ النَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ دَوَامُ الْمَنْعِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ تَجَدَّدَ الشَّرْطُ ثَانِيًا، أَوْ لَمْ يَتَجَدَّدْ.
وَعَنِ السَّادِسِ: أَنَّ الشَّرْطَ الْمُسْتَشْهَدَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ دَوَامٌ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَالْحَكَمُ مَوْجُودٌ مَعَهُ، فَهُوَ وَاحِدٌ، وَالْمَشْرُوطُ بِهِ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ بِتَكَرُّرِهِ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ لُزُومِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ تَحَقُّقِ شَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَرُّرٍ، لُزُومُ التَّكَرُّرِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هَلْ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ: هَلْ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ؟ فَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِحَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى التَّكْرَارِ، إِلَى وُجُوبِ التَّعْجِيلِ.
وَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى التَّرَاخِي، وَجَوَازِ التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ.
وَأَمَّا الْوَاقِفَيَّةُ فَقَدْ تَوَقَّفُوا، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّوَقُّفُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُؤَخِّرِ هَلْ هُوَ مُمْتَثِلٌ أَوْ لَا؟ وَأَمَّا الْمُبَادِرُ فَإِنَّهُ مُمْتَثِلٌ قَطْعًا، لَكِنْ هَلْ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالتَّأْثِيمِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤَثِّمْهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْمُبَادِرِ أَيْضًا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ إِجْمَاعَ السَّلَفِ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَهْمَا فَعَلَ، كَانَ مُقَدِّمًا أَوْ مُؤَخِّرًا، كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي طَلَبِ الْفِعْلِ لَا غَيْرَ، فَمَهْمَا أَتَى بِالْفِعْلِ فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ، مُقَدِّمًا أَوْ مُؤَخِّرًا كَانَ آتِيًا بِمَدْلُولِ الْأَمْرِ، فَيَكُونُ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ، لِكَوْنِهِ آتِيًا بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَبَيَانُ أَنَّ مَدْلُولَ الْأَمْرِ طَلَبُ الْفِعْلِ لَا غَيْرَ وَجْهَانِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ دَلَالَتِهِ عَلَى أَمْرٍ خَارِجٍ، وَالزَّمَانُ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ ضَرُورَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَدْلُولِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ اللَّازِمَ مِنَ الشَّيْءِ أَعَمُّ مِنَ الدَّاخِلِ فِي مَعْنَاهُ وَلَا أَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا، كَمَا لَا تَتَعَيَّنُ الْآلَةُ فِي الضَّرْبِ، وَلَا الشَّخْصُ الْمَضْرُوبُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالضَّرْبِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ وَعَلَى التَّرَاخِي، وَيَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ بِوُجُودِ الْأَمْرِ فِي الصُّورَتَيْنِ.
وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَلَا مُشْتَرَكَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ سِوَى طَلَبُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا سِوَاهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَدْلُولَ الْأَمْرِ فِي الصُّورَتَيْنِ، دُونَ مَا بِهِ الِاقْتِرَانُ مِنَ الزَّمَانِ وَغَيْرِهِ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ.
فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي بَيَانِ امْتِنَاعِ خُرُوجِ الْوَقْتِ (1) عَنِ الدُّخُولِ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ. وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ ” اسْقِنِي مَاءً ” فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ تَعْجِيلُ السَّقْيِ حَتَّى أَنَّهُ يَحْسُنُ لَوْمُ الْعَبْدِ وَذَمِّهِ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ بِتَقْدِيرِ التَّأْخِيرِ. وَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْأَمْرِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَرِينَةِ.
الثَّانِي هُوَ أَنَّ مَدْلُولَ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ، لَا يَقَعُ إِلَّا فِي وَقْتٍ وَزَمَانٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِلْفِعْلِ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ كَالْمَكَانِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ ” أَنْتِ طَالِقٌ ” وَلِعَبْدِهِ ” أَنْتَ حُرٌّ ” فَإِنَّ مَدْلُولَ لَفْظِهِ يَقَعُ عَلَى الْفَوْرِ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ.
الثَّالِثُ أَنَّ الْأَمْرَ مُشَارِكٌ لِلنَّهْيِ فِي مُطْلَقِ الطَّلَبِ، وَالنَّهْيُ مُقْتَضٍ لِلِامْتِثَالِ عَلَى الْفَوْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُقْتَضٍ لِلِانْتِهَاءِ عَنْهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، فَكَانَ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لَهُ عَلَى الْفَوْرِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَاتَبَ إِبْلِيسَ وَوَبَّخَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلَا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ مُقْتَضِيًا لَهُ فِي الْحَالِ، لَمَا حَسُنَ تَوْبِيخُهُ عَلَيْهِ، وَلَكَانَ تِلْكَ عُذْرًا لِإِبْلِيسَ فِي تَأْخِيرِهِ.
سَلَّمْنَا عَدَمَ دَلَالَةِ الْأَمْرِ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ لَفْظًا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لَهُ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَصْلِ الْوُجُوبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِهِ عَلَى الْفَوْرِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضًى لِلْأَمْرِ، بَلْ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ مُقْتَضَاهُ فَكَانَ مُقْتَضَاهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْلَى لِأَصَالَتِهِ.
الثَّانِي أَنَّ إِجْمَاعَ السَّلَفِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْمُبَادِرَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ، وَلَا إِجْمَاعَ فِي الْمُؤَخِّرِ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالتَّعْجِيلِ أَحْوَطَ وَأَوْلَى.
(1) فِي بَيَانِ امْتِنَاعِ خُرُوجِ الْوَقْتِ – فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ فِي بَيَانِ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ السَّابِقَةَ دَلَّتْ عَلَى خُرُوجِهِ لَا عَلَى امْتِنَاعِ خُرُوجِهِ
الثَّالِثُ أَنَّ الْفِعْلَ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ جَازَ تَأْخِيرُهُ، إِمَّا أَنْ يَجُوزَ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ لَا إِلَى غَايَةٍ.
فَإِنْ جَازَ تَأْخِيرُهُ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْمَأْمُورِ، أَوْ لَا تَكُونُ مَعْلُومَةً لَهُ فَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَذْكُورَةً بِأَنْ يُقَالَ لَهُ (إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ) مَثَلًا أَوْ مَوْصُوفَةً.
الْأَوَّلُ خِلَافُ الْفَرْضِ، إِذِ الْفَرْضُ فِيمَا إِذَا كَانَ أَمْرًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ فِي الذِّكْرِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْوَقْتُ الْمَوْصُوفُ لَا يَخْرُجُ بِالْإِجْمَاعِ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَنْهُ لَفَاتَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهِيَ بِالْإِجْمَاعِ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنِ الْغَرَضِ الْمَرْجُوِّ وَعُلُوِّ السِّنِّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُضْطَرِبٌ مُخْتَلِفٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمُوتُ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ يَعِيشُ بَعْدَهُ فَلَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْغَايَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ عَنْهَا، كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا جَازَ التَّأْخِيرُ إِلَى غَايَةٍ.
وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا إِلَى غَايَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ بِبَدَلٍ، أَوْ لَا بِبَدَلٍ، فَإِنْ كَانَ بِبَدَلٍ، فَذَلِكَ الْبَدَلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ، لَا جَائِزَ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا وَإِمَّا لَمَا كَانَ بَدَلًا عَنِ الْوَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَوَجَبَ إِنْبَاهُ الْمَأْمُورِ حَالَةَ وُرُودِ الْأَمْرِ نَحْوَهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْبَدَلُ، كَمَا لَوْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَكَانَ نَائِمًا، الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِوُجُوبِ الْبَدَلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ دَلِيلٍ آخَرَ، وَيَمْتَنِعُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْبَدَلَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا، لَكَانَ قَائِمًا مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَمُحَصِّلًا لِمَقْصُودِهِ، وَإِمَّا لَمَا كَانَ بَدَلًا، لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ مَقْصُودِ الْأَصْلِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ سُقُوطُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ بِتَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ ضَرُورَةَ حُصُولِ مَقْصُودِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَدَلُ وَاجِبًا لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَجُوزَ تَأْخِيرُهُ عَنِ الْوَقْتِ الثَّانِي، مِنْ وُرُودِ الْأَمْرِ أَوْ لَا يَجُوزُ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي أَصْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَزِيدُ عَلَى نَفْسِ الْمُبْدَلِ، وَوَقْتُ الْمُبْدَلِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَذَلِكَ الْبَدَلُ، وَإِنْ جَازَ التَّأْخِيرُ أَبَدًا لَا بِبَدَلٍ، فَفِيهِ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
الرَّابِعُ: مِنَ الْوُجُوهِ الْأُوَلِ أَنَّ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَهُوَ سَبَبُ الثَّوَابِ فَوَجَبَ تَعْجِيلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أَمْرٌ بِالْمُسَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ وَهِيَ التَّعْجِيلُ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إِنَّمَا فُهِمَ التَّعْجِيلُ مِنْ أَمْرِ السَّيِّدِ بِسَقْيِ الْمَاءِ مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ بِحَاجَةِ السَّيِّدِ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَبُ سَقْيُ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَوْ يُظَنَّ أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ فِي الْحَالِ، لِمَا فُهِمَ مِنْ أَمْرِهِ التَّعْجِيلُ، وَلَا حَسُنَ ذَمُّ الْعَبْدِ بِالتَّأْخِيرِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَهْلُ الْعُرْفِ إِنَّمَا يَذُمُّونَ الْعَبْدَ بِمُخَالَفَةِ مُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَيَقُولُونَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ ” خَالَفَ أَمْرَ سَيِّدِهِ ” وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ هُوَ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْجِيلِ دُونَ غَيْرِهِ.
قُلْنَا: إِنَّمَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِالْقَرِينَةِ دُونَ الْمُطْلَقِ، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُقَيَّدٌ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ عِنْدَ مُطْلَقِ الْأَمْرِ بِصِحَّةِ عُذْرِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ: ” إِنَّمَا أَخَّرْتُ لِعَدَمِ عِلْمِي وَظَنِّي بِدَعْوَى حَاجَتِهِ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ ” وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
وَعَنِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ تَعَيُّنَ أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ ” أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتَ حُرٌّ ” يُفِيدُ صِحَّةَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ بِوَضْعِهِ لَهُ لُغَةً، بَلْ ذَلِكَ لِسَبَبٍ جَعَلَ الشَّرْعُ لَهُ عَلَامَةً عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَالِي، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَوْضُوعًا لِلْفَوْرِ.
الثَّانِي: أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ كَمَا سَبَقَ.
وَعَنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَعَنِ الْخَامِسِ أَنَّ تَوْبِيخَهُ لِإِبْلِيسَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِإِبَائِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} وَلِتَخَيُّرِهِ عَلَى آدَمَ بِقَوْلِهِ:
{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} وَلَا يُمْكِنُ إِضَافَةُ التَّوْبِيخِ إِلَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَمْرٌ ; لِأَنَّهُ مُنْقَسِمٌ إِلَى أَمْرِ إِيجَابٍ وَاسْتِحْبَابٍ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَا تَوْبِيخَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الِاسْتِحْبَابِ إِجْمَاعًا.
وَلَوْ كَانَ التَّوْبِيخُ عَلَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ، لَكَانَ أَمْرُ الِاسْتِحْبَابِ مُوَبَّخًا عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ التَّوْبِيخُ عَلَى أَمْرِ الْإِيجَابِ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى أَمْرِ إِيجَابٍ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَمْرِ إِيجَابٍ عَلَى التَّرَاخِي، كَمَا إِذَا قَالَ ” أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ مُتَرَاخِيًا ” وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ حَالًا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَبَّخَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ كَانَ مُطْلَقًا، بَلْ هُوَ مُقْتَرِنٌ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِحَمْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} رَتَّبَ السُّجُودَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِلسُّجُودِ عَقِبَهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ.
قَوْلُهُمْ لِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِلْفَوْرِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ قُلْنَا الْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ اعْتِقَادِ وُجُوبِ الْفِعْلِ، قُلْنَا وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَعْجِيلُ وُجُوبِ الْفِعْلِ (1) .
قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ وُجُوبِ الْفِعْلِ، قُلْنَا: مِنْ لَوَازِمِ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ، أَوْ مِنْ لَوَازِمِ وُجُوبِ الْفِعْلِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَوْجَبَ الْفِعْلَ مُصَرِّحًا بِتَأْخِيرِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ.
قَوْلُهُمْ: الْقَوْلُ بِالتَّعْجِيلِ أَحْوَطُ لِلْمُكَلَّفِ، قُلْنَا: الِاحْتِيَاطُ إِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِ الْمُكَلَّفِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ: فَإِنْ ظَنَّ الْفَوْرَ، وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَإِنْ ظَنَّ التَّرَاخِي، وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ التَّرَاخِي، فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ التَّعْجِيلِ عَلَى خِلَافِ ظَنِّهِ، يَكُونُ حَرَامًا وَارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ يَكُونُ إِضْرَارًا، فَلَا يَكُونُ احْتِيَاطًا.
قَوْلُهُمْ: لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى غَايَةٍ، أَوْ لَا إِلَى غَايَةٍ إِلَى آخِرِهِ
(1) تَعْجِيلُ وُجُوبِ الْفِعْلِ – فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ وُجُوبُ تَعْجِيلِ الْفِعْلِ
فَهُوَ مَنْقُوضٌ بِمَا لَوْ صَرَّحَ الْآمِرُ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَقْسَامِ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ، مَعَ جَوَازِ تَأْخِيرِهِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْآيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَهِيَ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى وُجُوبِ تَعْجِيلِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَإِنَّهُمَا بِمَنْطُوقِهِمَا يَدُلَّانِ عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ.
وَالْمُرَادُ بِهِ إِنَّمَا هُوَ الْمُسَارَعَةُ إِلَى سَبَبِ ذَلِكَ، وَدَلَالَتُهُمَا عَلَى السَّبَبِ إِنَّمَا هِيَ بِجِهَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَالِاقْتِضَاءُ لَا عُمُومَ لَهُ، عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُمَا عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى كُلِّ سَبَبٍ لِلْخَيْرَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَى وُجُوبِ تَعْجِيلِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلَا يَعُمُّ كُلَّ فِعْلٍ مَأْمُورٍ بِهِ (1) .