تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَكْلِيفِ الْحَائِضِ بِالصَّوْمِ

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَكْلِيفِ الْحَائِضِ بِالصَّوْمِ

  • بواسطة

 

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)

 


[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَكْلِيفِ الْحَائِضِ بِالصَّوْمِ]

 

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ

اخْتَلَفُوا فِي تَكْلِيفِ الْحَائِضِ بِالصَّوْمِ، فَنَفَاهُ أَصْحَابُنَا وَأَثْبَتَهُ آخَرُونَ.

وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهَا مُكَلَّفَةً بِهِ بِتَقْدِيرِ زَوَالِ الْحَيْضِ الْمَانِعِ، فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ بِالْإِتْيَانِ بِالصَّوْمِ حَالَ الْحَيْضِ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ

_________

(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَحْكُومِ فِيهِ.

(2) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ.

(3) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.

(1/154)

________________________________________

فِعْلَهَا لِلصَّوْمِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ حَرَامٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَمَأْمُورًا بِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّضَادِّ الْمُمْتَنِعِ، إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ وَاجِبًا عَلَيْهَا، فَلِمَ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهُ؟

قُلْنَا: الْقَضَاءُ عِنْدَنَا إِنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ مُجَدِّدٍ فَلَا يَسْتَدْعِي أَمْرًا سَابِقًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ قَضَاءً لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةٍ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ مِنَ الصَّوْمِ، وَلَمْ يَجِبْ لِمَانِعِ الْحَيْضِ.

 

 

[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْمُكَلَّفَ بِالْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ هَلْ يَعْلَمُ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ أَمْ لَا]

 

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ (1) .

فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ بِالْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ هَلْ يَعْلَمُ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْآمِرُ لَهُ جَاهِلًا لِعَاقِبَةِ أَمْرِهِ وَأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ أَمْ لَا، كَأَمْرِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ فِي الْغَدِ.

وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْآمِرُ عَالِمًا بِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ دُونَ الْمَأْمُورِ، كَأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّوْمِ لِزَيْدٍ فِي الْغَدِ.

فَأَثْبَتَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَنَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ.

احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّاعَاتِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمَعَاصِي مُتَحَقِّقٌ مَعَ جَهْلِ الْمُكَلَّفِ بِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا وَيَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مِنَ السَّلَفِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِينَ عَلَى أَنَّ كُلَّ بَالِغٍ عَاقِلٍ مَأْمُورٌ بِالطَّاعَاتِ مَنْهِيٌّ عَنِ الْمَعَاصِي قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِمَّا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ يُعَدُّ مُتَقَرِّبًا بِالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ فِي أَوْقَاتِهَا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ وَأَنَّ الْمَانِعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بِالْحَبْسِ وَالصَّدِّ عَنْ فِعْلِهَا آثِمٌ عَاصٍ بِصَدِّهِ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ عَدَمِ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ مُحَالٌ.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ مَعْلُومًا لَهُ فِي الْحَالِ لَتَعَذَّرَ قَصْدُ الِامْتِثَالِ فِي الْوَاجِبَاتِ الْمُضَيِّقَةِ، لِاسْتِحَالَةِ الْعِلْمِ بِتَمَامِ التَّمَكُّنِ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ، وَهُوَ مُحَالٌ.

_________

(1) انْظُرْ تَفْصِيلَ الْآرَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْأَصْلَ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ رَأْيَهُ فِي مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَّةَ آخِرَ مَبَاحِثِ الْأَوَامِرِ ص 52 – 53 – 54 – 63 – 64 – 65 الطَّبْعَةُ الْأُولَى ” مَطْبَعَةُ الْمَدَنِيِّ “.

(1/155)

________________________________________

فَإِنْ قِيلَ لَا خَفَاءَ بِأَنَّ تَعْلِيقَ الْأَمْرِ عَلَى شَرْطٍ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ وُقُوعُهُ حَالِيًّا كَمَا إِذَا قَالَ: صُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ مَوْجُودًا، أَوْ مَآلِيًّا كَمَا إِذَا قَالَ: صُمْ إِنْ صَعِدَتِ الشَّمْسُ غَدًا، أَوْ مَعْلُومَ الِانْتِفَاءِ كَمَا إِذَا قَالَ: صُمْ إِنِ اجْتَمَعَ الضِّدَّانِ وَهُوَ مُحَالٌ بَلِ الْأَوَّلُ أَمْرٌ مَشْرُوطٌ، كَيْفَ وَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ تَعْلِيقُ الْأَمْرِ بِشَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَاصِلًا مَعَ الْمَشْرُوطِ أَوْ قَبْلَهُ.

وَالثَّانِي وَإِنْ كَانَ فِيهِ صِيغَةُ افْعَلْ فَلَيْسَ بِأَمْرٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَالْبَارِي تَعَالَى عَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ.

فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَمَكُّنِ الْعَبْدِ مِمَّا كُلِّفَ بِهِ، وَأَنَّهُ سَيَأْتِي بِهِ فَهُوَ أَمْرُ جَزْمٍ لَا شَرْطَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِمَّا قِيلَ لَهُ: افْعَلْهُ، أَوْ لَا تَفْعَلْهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِلْعَبْدِ، لِتَجْوِيزِهِ عَدَمَ الشَّرْطِ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَعَلَى هَذَا، فَيَجِبُ حَمْلُ الْإِجْمَاعِ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى ظَنِّ الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْمُكَلَّفِ بَقَاؤُهُ وَتَمَكُّنُهُ، لَا عَلَى يَقِينِ الْأَمْرِ وَالْعِلْمِ بِهِ.

قُلْنَا: أَمَّا امْتِنَاعُ تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِشَرْطٍ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ أَوِ الِانْتِفَاءِ عِنْدَ الْمَأْمُورِ، فَلَا نِزَاعَ فِيهِ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْآمِرِ دُونَ الْمَأْمُورِ.

فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَمْرُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِفِعْلِ شَيْءٍ فِي الْغَدِ مَعَ عِلْمِهِ بِرَفْعِ ذَلِكَ فِي الْغَدِ عَنْهُ، اسْتِصْلَاحًا لِلْعَبْدِ بِاسْتِعْدَادِهِ فِي الْحَالِ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ، وَاشْتِغَالِهِ بِذَلِكَ عَنْ مَعَاصِيهِ أَوِ امْتِحَانِهِ بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْبِشْرِ وَالْكَرَاهَةِ حَتَّى يُثِيبَهُ عَلَى هَذَا، وَيُعَاقِبَهُ عَلَى هَذَا لَا لِقَصْدِ الْإِتْيَانِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ أَوِ الِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْقُولًا مُفِيدًا، أَمْكَنَ مِثْلُهُ فِي أَمْرِ الْبَارِي تَعَالَى.

قَوْلُهُمْ: إِنَّ شَرْطَ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ مُسَلَّمٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَأَخِّرَ عَنِ الْأَمْرِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفِعْلِ

(1/156)

________________________________________

لَيْسَ شَرْطًا فِي تَحَقُّقِ الْأَمْرِ وَقِيَامِهِ بِنَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يُقَالَ بِتَأْخِيرِ شَرْطِ وُجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ بَلْ هُوَ شَرْطُ الِامْتِثَالِ.

وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا لَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُهُ عَلَى الِامْتِثَالِ كَمَا عُلِمَ مِنْ أَصْلِنَا.

وَعَلَى هَذَا فَقَدَ بَطَلَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْعَبْدِ، وَوَجَبَ حَمْلُ الْإِجْمَاعِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى وُجُودِ الْأَمْرِ حَقِيقَةً لَا عَلَى ظَنِّ وَجُودِهِ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْخَطَإِ فِي الظَّنِّ قَائِمٌ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ الْإِجْمَاعِ.

وَإِذَا عُرِفَ مَا حَقَّقْنَاهُ فَمَنْ أَفْسَدَ (1) صَوْمَ رَمَضَانَ بِالْوِقَاعِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ صَوْمٍ وَاجِبٍ لَا يَتَعَرَّضُ لِلِانْقِطَاعِ فِي الْيَوْمِ، لَا لِعَدَمِ قِيَامِ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ وَوُجُوبِهِ.

وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ الشُّرُوعُ فِي صَوْمِ يَوْمٍ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهَا تَحِيضُ فِيهِ وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ شَرَعَتْ فِي الصَّوْمِ أَوِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَيْنِ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، ثُمَّ شَرَعَتْ وَمَاتَ فِي أَثْنَائِهَا حَنِثَ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَلَا كَذَلِكَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا يَرِدُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.

_________

(1) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *