كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْلِهِ تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً هَلْ يَقْتَضِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَالِ كُلِّ مَالِكٍ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} هَلْ يَقْتَضِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَالِ كُلِّ مَالِكٍ أَوْ أَخْذَ صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ؟ وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ (1) .
احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَعْمِيمِ كُلِّ نَوْعٍ بِأَنَّهُ – تَعَالَى – أَضَافَ الصَّدَقَةَ إِلَى جَمِيعِ الْأَمْوَالِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وَالْجَمْعُ الْمُضَافُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ أَرْبَابِهِ، فَنُزِّلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: خُذْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، فَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مُتَعَدِّدَةً بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ.
وَلِلنَّافِي أَنْ يَقُولَ: الْمَأْمُورُ بِهِ صَدَقَةٌ مُنَكَّرَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ، فَمَهْمَا أُخِذَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْمَالِكِ صَدَقَةً، صَدَقَ قَوْلُ الْقَائِلِ: أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْوَاحِدَ جُزْءٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ.
فَإِذَا أُخِذَتِ الصَّدَقَةُ مِنْ جُزْءِ الْمَالِ صَدَقَ أَخْذُهَا مِنَ الْمَالِ.
وَلِهَذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ مِنْ دَرَاهِمِ الْمَالِكِ وَدَنَانِيرِهِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مِنْ مَالِهِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ مِنْ خُصُوصِ كُلِّ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ لَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ لَا لِلْمُعَارِضِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ (2)
وَمَأْخَذُ الْكَرْخِيِّ دَقِيقٌ.
(1) الْكَرْخِيُّ هُوَ أَبُو الْحُسَيْنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ دَلْهَمٍ
(2) انْتَهَى الْآمِدِيُّ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحِيرَةٍ وَصَرَّحَ بِأَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ، فَكَيْفَ يُقَالُ مَسَائِلُ الْأُصُولِ كُلُّهَا قَطْعِيَّةٌ؟ بَلْ كَيْفَ يُقَالُ كُلُّهَا ظَنِّيَّةٌ وَفِيهَا الْمَشْكُوكُ فِي حُكْمِهِ؟
[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ اللَّفْظُ الْعَامُّ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْمُخَاطِبُ الذَّمَّ أَوِ الْمَدْحَ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ (1)
اللَّفْظُ الْعَامُّ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْمُخَاطِبُ الذَّمَّ أَوِ الْمَدْحَ كَقَوْلِهِ – تَعَالَى -: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ – وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} ، وَكَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ عُمُومِهِ حَتَّى أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، مُصَيِّرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا فِي الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا سِيقَ لِقَصْدِ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ مُبَالَغَةً فِي الْحَثِّ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ الزَّجْرِ عَنْهُ.
وَخَالَفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَصْدَ الذَّمِّ أَوِ الْمَدْحِ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِ الْعُمُومِ مَعَهُ إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ أَتَى بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعُمُومِ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَقْصُودَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا وَتَعْطِيلِ الْآخَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1) انْظُرْ مَا سَبَقَ تَعْلِيقًا.