كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ
اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَأَجَازَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا كَالْغَزَالِيِّ مَعَ اتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ إِلَّا ظَنِّيًّا فِي سَنَدِهِ (1) وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا فِي مَتْنِهِ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» “، ذَكَرَ (الظَّاهِرَ) بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقَةِ فَدَخَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ الثَّابِتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِكَوْنِهِ ظَاهِرًا ظَنِّيًّا.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ عَنِ الْإِجْمَاعِ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ، فَكَانَ حُجَّةً كَخَبَرِهِ عَنْ نَصِّ الرَّسُولِ.
وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ (2) الْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ عَلَى لِسَانِ الْآحَادِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ عَنِ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَرِدْ مِنَ الْأُمَّةِ
(1) لَا يَكُونُ إِلَّا ظَنِّيًّا فِي سَنَدِهِ، أَيْ: فِي ذَاتِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْقَرَائِنِ الَّتِي قَدْ تَحْتَفِ بِهِ فَيُفِيدُ مَعَهَا الْعِلْمَ.
(2) كَلِمَةُ كَوْنٍ زَائِدَةٌ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ.
فِيهِ إِجْمَاعٌ قَاطِعٌ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَلَا نَصَّ قَاطِعٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الظَّوَاهِرِ فَغَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهَا فِي الْأُصُولِ (1) وَإِنِ احْتُجَّ بِهَا فِي الْفُرُوعِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ دَلِيلِ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، فَمَنِ اشْتَرَطَ الْقَطْعَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُفِيدًا فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ عَلَى لِسَانِ الْآحَادِ عِنْدَهُ حُجَّةً، وَالظُّهُورُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْمُعْتَرِضِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْمُسْتَدِلِّ فِيهَا.