كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ
اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَنْ (1) الْحُكْمِ إِلَّا عَنْ مَأْخَذٍ وَمُسْتَنَدٍ يُوجِبُ اجْتِمَاعَهَا خِلَافًا لِطَائِفَةٍ شَاذَّةٍ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ تَوْفِيقٍ لَا تَوْقِيفٍ بِأَنْ يُوَفِّقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِاخْتِيَارِ الصَّوَابِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ.
وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ لِذَلِكَ بِمَسَالِكَ:
الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا مَعَ فَقْدِ الدَّلِيلِ وَالْمُسْتَنَدِ لَا يَجِبُ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ: لَا يَلْزَمُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَتَى لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ تُجْمِعِ الْأُمَّةُ عَلَى الْحُكْمِ أَوْ إِذَا أَجْمَعَتْ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ مَا الْمَانِعُ أَنَّهُمْ إِذَا اتَّفَقَ إِجْمَاعُهُمْ أَنْ يُوَفِّقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِلصَّوَابِ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ لِمَا سَبَقَ فِي الْمَسَالِكِ السَّمْعِيَّةِ، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ لَا فِي وُقُوعِهِ.
الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ لَيْسُوا بِآكَدِ حَالٍ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقُولُ وَلَا يَحْكُمُ إِلَّا عَنْ وَحْيٍ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، فَالْأُمَّةُ أَوْلَى أَنْ لَا تَقُولَ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ الْخَطَأِ عَلَى الرَّسُولِ فِيمَا يَقُولُ وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ، فَلَوْ قَالَ الرَّسُولُ قَوْلًا وَحَكَمَ بِحُكْمٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَمَا كَانَ إِلَّا حَقًّا ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ (2) ، غَيْرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْهُ الْحُكْمُ وَالْقَوْلُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى – إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3)
وَأَمَّا الْأُمَّةُ فَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَحْكُمُونَ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ (4) فَافْتَرَقَا.
(1) فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ: عَلَى.
(2) قَدْ يُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ، لَكِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى خَطَئِهِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
(3) سَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْقَوْلُ بِالِاجْتِهَادِ، وَأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ عَنْ هَوًى.
(4) بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ مِنَ النُّصُوصِ، فَلَمْ يَفْتَرِقَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَحْكُمُوا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ لَجَازَ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُجْمِعُونَ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ بِهِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لِآحَادِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَمْعِ فِي ذَلِكَ مَزِيَّةٌ عَلَى الْآحَادِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمَزِيَّةُ لِلْجَمْعِ عَلَى الْآحَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَكُونُ حُجَّةً بِخِلَافِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآحَادِ (1)
الثَّانِي: أَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ لِلْآحَادِ مَشْرُوطٌ بِضَمِّ قَوْلِ الْبَاقِي إِلَيْهِ لَا أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ ضَمٍّ، وَلَا كَذَلِكَ قَوْلُ الْجَمِيعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ (2) .
الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: إِنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ وَلَا أَمَارَةِ خَطَأٌ، فَلَوِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى الْخَطَأِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ قَادِحٌ فِي الْإِجْمَاعِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ خَطَأً، إِذَا لَمْ تُجْمِعِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ أَوْ إِذَا أَجْمَعَتْ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي دَعْوَى مَحَلُّ النِّزَاعِ.
الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُقَالَةَ إِذَا لَمْ تَسْتَنِدْ إِلَى دَلِيلٍ لَا يُعْلَمُ انْتِسَابُهَا إِلَى وَضْعِ الشَّارِعِ، وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ انْتِسَابُهَا إِلَى وَضْعِ الشَّارِعِ: أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مُصِيبَةً لِحُكْمِ الشَّارِعِ، أَوْ مَعْنًى آخَرَ.
الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ صُورَةِ الْوَاقِعِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، وَالثَّانِي دَعْوَى مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَالثَّالِثُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ (3) .
(1) فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي جَوَازِ إِقْدَامِ الْآحَادِ عَلَى قَوْلٍ قَدْ يَنْتَهِي إِلَى إِجْمَاعٍ لَا فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوعِ صُدْفَةً.
(2) مِنَ الْمُحَالِ عَادَةً صُدُورُ الْقَوْلِ الْوَاحِدِ عَنْهُمْ مَعًا دُونَ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ فِي إِبْدَائِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ كُلُّ مَنْ أَبْدَى رَأْيَهُ قَبْلَ الْأَخِيرِ مُخْطِئًا لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْإِجْمَاعُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ بَعْدُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الرَّابِعِ.
(3) قَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهَا إِلَى الشَّرْعِ ; لِأَنَّهَا خَرْصٌ وَتَخْمِينٌ وَقَوْلٌ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى دَلِيلٍ، فَلَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ لِلشَّرْعِ.
الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ فِي قَوْلِ الْمُجْمِعِينَ مَعْنًى، وَهُوَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الِاجْتِهَادِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاجْتِهَادُ مُشْتَرَطٌ لَا حَالَةَ الْإِجْمَاعِ، أَوْ حَالَةَ الْإِجْمَاعِ؟
الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي دَعْوَى مَحَلُّ النِّزَاعِ.
فَإِنَّ الْخَصْمَ إِذَا قَالَ بِجَوَازِ الْإِصَابَةِ وَامْتِنَاعِ الْخَطَأِ عَلَى الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، كَيْفَ يُسَلَّمُ اشْتِرَاطُ الِاجْتِهَادِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ؟ فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا ظَفِرْتُ بِهِ مِنْ مَسَالِكِ النَّافِينَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُوجِبًا لِاسْتِبْعَادِ مَقَالَةِ الْمُخَالِفِ، وَالْحُكْمِ بِبُعْدِهِ عَنِ الصَّوَابِ.
وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِمَسْلَكَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، فَلَوِ افْتَقَرَ فِي جَعْلِهِ حُجَّةً إِلَى دَلِيلٍ لَكَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ الْحُجَّةَ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَائِدَةٌ وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ فَائِدَةُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةٌ جَوَازُ الْأَخْذِ بِهِ، وَإِسْقَاطُ الْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَحُرْمَةُ الْمُخَالَفَةِ الْجَائِزَةِ قَبْلَ الِاتِّفَاقِ.
الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ يُوجِبُ عَدَمُ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنِ الدَّلِيلِ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِقَوْلِ الرَّسُولِ، فَإِنَّهُ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ مَا يَقُولُهُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ، وَهُوَ مَا يُوحِي بِهِ إِلَيْهِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ (1) .
الْمَسْلَكُ الثَّانِي: اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْوَاقِعِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أُجْرَةِ الْحَمَّامِ، وَنَاصِبِ الْحِبَابِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَأُجْرَةِ الْحَلَّاقِ وَآخِذِ الْخَرَاجِ وَنَحْوِهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ وُقُوعَ شَيْءٍ مِنَ الْإِجْمَاعَاتِ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلِ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِجْمَاعِ عَنْهُ، وَإِذَا عُرِفَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ إِنْ أَجْمَعُوا عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ إِلَّا حَقًّا ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إِجْمَاعُهُمْ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ أَوْ يُتَصَوَّرُ، فَذَلِكَ مِمَّا قَدْ ظَهَرَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ فِيهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ (2) .
(1) أَيْ وَيَكُونُ مِنْ تَظَاهُرِ الْأَدِلَّةِ.
(2) سَبَقَ لِلْمُؤَلِّفِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ ص 218 أَنَّهُ سَلَّمَ لِخَصْمِهِ قَوْلَهُ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَدُلُّهُ مِنْ دَلِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ