كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ؛ كَالْقَاسَانِيِّ وَالرَّافِضَةِ وَابْنِ دَاوُدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ.
وَالْقَائِلُونَ بِثُبُوتِهِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَدِلَّةَ السَّمْعِ دَلَّتْ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ وُقُوعِهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، فَأَثْبَتَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْقَفَّالُ وَابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ (1) مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَنَفَاهُ الْبَاقُونَ. وَفَصَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بَيْنَ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَمَا لَا يَسْقُطُ بِهَا: فَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْأَوَّلِ، وَجَوَّزَهُ فِي الثَّانِي.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً فَقَدِ احْتَجُّوا بِحُجَجٍ ضَعِيفَةٍ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَهِيَ مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْعُقَلَاءُ يَعْلَمُونَ وُجُوبَ الْعِلْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمُوا وُجُوبَ ذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ عَلِمُوا عِلَّةَ وُجُوبِهِ، وَلَا عِلَّةَ لِذَلِكَ سِوَى أَنَّهُمْ ظَنُّوا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ تَفْصِيلَ جُمْلَةٍ مَعْلُومَةٍ بِالْعَقْلِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ وُجُوبُ التَّحَرُّزِ مِنَ الْمَضَارِّ وَحُسْنِ اجْتِلَابِ الْمَنَافِعِ.
فَإِذَا ظَنَنَّا صِدْقَ مَنْ أَخْبَرَنَا بِمَضَرَّةٍ يَلْزَمُنَا أَنْ لَا نَشْرَبَ الدَّوَاءَ الْفُلَانِيَّ، وَأَنْ لَا نَفْصِدَ، وَأَنْ لَا نَقُومَ مِنْ تَحْتِ حَائِطٍ مُسْتَهْدَمٍ، فَقَدْ ظَنَنَّا تَفْصِيلًا لِمَا عَلِمْنَاهُ جُمْلَةً مِنْ وُجُوبِ التَّحَرُّزِ عَنِ الْمَضَارِّ.
وَبَيَانُ أَنَّ الْعِلَّةَ لِلْوُجُوبِ مَا ذَكَرَهُ دَوَرَانُهَا مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، وَذَلِكَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا فِي
(1) الْقَفَّالُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكَبِيرُ الشَّاشِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ 291، وَمَاتَ 365، وَابْنُ سُرَيْجٍ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سُرَيْجٍ الشَّافِعِيُّ، مَاتَ 306، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الطَّيِّبُ الشَّافِعِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ أَلَّفَ كِتَابَ ” الْمُعْتَمَدِ ” فِي الْأُصُولِ مَاتَ 263.
الْجُمْلَةِ وُجُوبَ الِانْقِيَادِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يُخْبِرُنَا بِهِ مِنْ مَصَالِحِنَا وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنَّا.
فَإِذَا ظَنَنَّا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَانَا إِلَى الِانْقِيَادِ لَهُ فِي فِعْلٍ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ وَخِلَافُهُ مَضَرَّةٌ، فَقَدْ ظَنَنَّا تَفْصِيلَ مَا عَلِمْنَاهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا أَوَّلًا، فَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، بَلْ غَايَتُهُ إِذَا ظَنَنَّا صِدْقُهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ.
وَكَوْنُ الْفِعْلِ أَوْلَى مِنَ التَّرْكِ أَمْرٌ أَعَمُّ مِنَ الْوَاجِبِ لِشُمُولِهِ لِلْمَنْدُوبِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوُجُوبُ (1) .
سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِهِ وَاجِبٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّوَرَانِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَدَارَ عِلَّةُ الدَّائِرِ (2) لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْوُجُوبِ غَيْرَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ ظَنِّ تَفْصِيلِ جُمْلَةٍ مَعْلُومَةٍ بِالْعَقْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَعْنًا مُلَازِمًا لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَا نَفْسَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ.
وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ التَّلَازُمُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ بِجَوَازِ (3) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّلَازُمُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ اتِّفَاقِيًّا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِلَّةً فِي الشَّرْعِيَّاتِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خُصُوصُ مَا ظُنَّ تَفْصِيلَ جُمْلَتِهِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ دَاخِلًا فِي التَّعْلِيلِ، وَتِلْكَ مُحَقَّقَةٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ (4) .
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ بِجِهَةِ عُمُومِهِ، لَكِنْ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا: الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ.
غَيْرَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي
(1) قَدْ يَكْتَفِي الْمُسْتَدِلُّ بِمَا اقْتَضَاهُ دَلِيلُهُ مِنْ طَلَبِ الْعَمَلِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَلَا يَلْتَزِمُ فِي دَعْوَاهُ خُصُوصُ وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَقَدْ يَلْتَزِمُ خُصُوصَ الْوُجُوبِ وَيَكُونُ دَلِيلُهُ مُحَرَّرًا فِيمَا فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ مَضَرَّةٌ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يُرَادُ الِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ.
(2) انْظُرْ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْلَكِ الدَّوَرَانِ وَإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِهِ، وَدَلِيلُ كُلٍّ فِي بَابِ الْقِيَاسِ
(3) بِجَوَازِ – لَعَلَّهُ لِجَوَازِ.
(4) هَذَا الِاعْتِرَاضُ وَالَّذِي قَبْلَهُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، فَلَا يُؤَثِّرُ.
الشَّرْعِيَّاتِ (1) .
سَلَّمْنَا عَدَمَ الِانْتِقَاضِ، لَكِنْ غَايَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِقِيَاسٍ ظَنِّيٍّ فِي إِفَادَةِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِي الشَّرْعِيَّاتِ مَعَ كَوْنِهِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّعَبُّدُ فِي إِثْبَاتِ مِثْلِ ذَلِكَ بِالطُّرُقِ الْيَقِينِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ (2) .
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: صِدْقُ الْوَاحِدِ فِي خَبَرِهِ مُمْكِنٌ، فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، لَكُنَّا تَارِكِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ الِاحْتِيَاطُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صَدَقَ الرَّاوِي، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا وَرَاجِحًا، فَلِمَ قُلْتُمْ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَالِاحْتِيَاطِ (3) بِالْأَخْذِ بِقَوْلِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا شَاهِدَ لَهُ سِوَى خَبَرِ التَّوَاتُرِ (4) وَقَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْفَتْوَى وَالشَّهَادَةِ.
وَلَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِفَادَتِهِ لِلْوُجُوبِ إِفَادَةُ الْخَبَرِ الظَّنِّيِّ لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مَعْلُومَةٌ، وَهِيَ الْأَصْلُ.
وَغَايَةُ قَوْلِ الشَّاهِدِ وَالْمُفْتِي، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ مُخَالَفَةُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالنَّظَرِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْمُفْتِي مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالنَّظَرِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُخَالِفِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، بِالنَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ الْقِيَاسِ، فَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُفِيدٌ لِظَنِّ الْإِلْحَاقِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إِثْبَاتِ الْأُصُولِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
(1) إِنْ أَرَادَ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ أَوِ الصَّبِيِّ بِمُجَرَّدِهِ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَالشَّرْعِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِمَا احْتَفَّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْتَزَمْنَا الْعَمَلَ، لَكِنْ لَمَّا احْتَفَّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَعَلَيْهِ لَا يَرِدُ خَبَرُهُمَا نَقْضًا.
(2) هَذِهِ دَعْوَى خَالَفَهَا الْأُصُولِيُّونَ أَنْفُسُهُمْ، انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 36 – 47 ج 2.
(3) جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ مُضْمَرٍ، فُهِمَ مِنْ آخِرِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ تَقْدِيرُهُ؛ عَمِلْنَا بِهِ لِلِاحْتِيَاطِ.
(4) صَدَقَ الرَّاوِي فِي خَبَرِهِ إِنْ كَانَ رَاجِحًا لَمْ يَحْتَجْ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ إِلَى شَاهِدٍ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى شَاهِدِ الِاعْتِبَارِ لَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمُتَوَاتِرِ وَقَوْلِ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ، بَلْ تَكْفِي أَخْبَارُ آحَادٍ أُخْرَى وَقَرَائِنُ أَحْوَالٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِتَقْدِيرِ الْحَاجَةِ إِلَى الْقِيَاسِ فَقِيَاسُهُ عَلَى الْمُتَوَاتِرِ صَحِيحٌ؛ حَيْثُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِفَادَةُ الْمُتَوَاتِرِ لِلْعِلْمِ وَالْآحَادِ لِلظَّنِّ فَارِقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَإِنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً إِلَّا أَنَّ اسْتِمْرَارَهَا مَظْنُونٌ فَكَيْفَ فِي رَفْعِهِ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ كَالْعِلْمِيِّ.
الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا (1) كَيْفَ وَأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ (2) .
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا إِذَا وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ، وَلَمْ يَجْدِ الْمُفْتِي سِوَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لَتَعَطَّلَتِ الْوَاقِعَةُ عَنْ حُكْمِ الشَّارِعِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: خُلُوُّ الْوَاقِعَةِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ مَعَ وُجُودِ دَلِيلِهِ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ؛ فَلَا (3) .
وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَظْفَرِ الْمُفْتِي فِي الْوَاقِعَةِ بِدَلِيلٍ وَلَا خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ خُلُوُّ الْوَاقِعَةِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالْمَصِيرِ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَعَلَى هَذَا فَامْتِنَاعُ خُلُوِّ الْوَاقِعَةِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ الظَّفَرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً وَدَلِيلًا، وَكَوْنُهُ حُجَّةً يَتَوَقَّفُ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْوَاقِعَةِ مَعَ وُجُودِهِ عَنِ الْحُكْمِ، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ.
كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ خُلُوَّ الْوَاقِعَةِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ نَفْيُ ذَلِكَ الْحُكْمَ وَمُدْرَكُهُ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ مَدَارِكِ الشَّرْعِ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ مُدْرَكٌ شَرْعِيٌّ لِنَفْيِ الْحُكْمِ.
(1) فِيهِمَا مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا – ص 50، 53.
(2) فِيهِمَا مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا – ص 50، 53.
(3) الْقَوْلُ بِخُلُوِّ وَقَائِعَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِيهَا تَأْبَاهُ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ، وَإِيتَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. انْظُرْ ص 280 وَمَا بَعْدَهَا ج 19 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَاجِبَ الْقَبُولِ، لَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ بَعْثَةِ الرَّسُولِ إِلَى كُلِّ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى تَعْرِيفِ أَهْلِ عَصْرِهِ إِلَّا بِالْمُشَافَهَةِ أَوِ الرُّسُلِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْمُشَافَهَةِ لِلْكُلِّ لِتَعَذُّرِهِ. وَالرِّسَالَةُ مُنْحَصِرَةٌ فِي عَدَدِ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ، وَالتَّوَاتُرُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مُتَعَذَّرٌ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولًا، لَمَا تَحَقَّقَ مَعْنَى التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِيمَا أُرْسِلَ بِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، أَنْ لَوْ كَانَ التَّبْلِيغُ إِلَى كُلِّ مَنْ فِي عَصْرِهِ وَاجِبًا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ فِي عَصْرِهِ مُكَلَّفٌ بِمَا بُعِثَ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ إِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِالتَّبْلِيغِ إِلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِبْلَاغِهِ إِمَّا بِالْمُشَافَهَةِ أَوْ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ (1) .
وَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ إِنَّمَا كُلِّفَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ الرَّسُولُ إِذَا عَلِمَهُ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ؛ فَلَا، وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ فِي الْبِلَادِ النَّائِيَةِ وَالْجَزَائِرِ الْمُنْقَطِعَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِعْلَامِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِتَبْلِيغِهِ، وَلَا ذَلِكَ الشَّخْصُ كَانَ مُكَلَّفًا بِمَا أُرْسِلُ بِهِ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَالُوا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الرَّسُولِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، فَإِذَا أَخْبَرَ الْوَاحِدُ بِذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ الْعَمَلُ بِالِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ مَعًا أَوْ تَرْكِهِمَا مَعًا، أَوِ الْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ دُونَ الرَّاجِحِ، أَوْ بِالْعَكْسِ بِالِاحْتِمَالِ لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الرَّابِعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَانِعُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ، وَلَا يَجِبُ تَرْكُهُ، بَلْ هُوَ جَائِزُ التَّرْكِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الرَّسُولِ مُوجِبَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ مُسَلَّمٌ فِيمَا عُلِمَ
(1) الْبَلَاغُ وَاجِبٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ مُشَافَهَةً أَوْ كِتَابَةً أَوْ بِالرُّسُلِ مُطْلَقًا تَوَاتُرًا أَوَ آحَادًا لَا تَوَاتُرًا فَقَطْ، بِدَلِيلِ مَا تَوَاتَرَ مِنْ بَعْثِهِ لِلرُّسُلِ وَالْوُلَاةِ وَالْمُعَلِّمِينَ لِلْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ آحَادًا، وَمَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ شَرْعُ اللَّهِ أُصُولًا أَوْ فُرُوعًا عِلْمًا أَوْ ظَنًّا غَالِبًا وَجَبَ عَلَيْهِ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِمَا اقْتَضَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ.
فِيهِ أَمْرُ الرَّسُولِ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ (1) فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
هَذَا مَا قِيلَ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنَ الْحُجَجِ النَّقْلِيَّةِ الْوَاهِيَةِ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ فِرْقَةٍ خَرَجَتْ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ عِنْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَى قَوْمِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (2) أَمَرَ بِالْإِنْذَارِ، وَالْإِنْذَارُ هُوَ الْإِخْبَارُ (3) وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ.
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِنْذَارِ طَلَبًا لِلْحَذَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَ (لَعَلَّ) ظَاهِرَةٌ فِي التَّرَجِّي (4) وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَعَيَّنَ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّرَجِّي، وَهُوَ الطَّلَبُ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ طَلَبًا لِلتَّحْذِيرِ، فَكَانَ أَمْرًا بِالتَّحْذِيرِ فَكَانَ الْحَذَرُ وَاجِبًا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِخْبَارَ كُلِّ طَائِفَةٍ مُوجِبٌ لِلْحَذَرِ، فَالْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ ” الطَّائِفَةِ ” إِنَّمَا هُوَ الْعَدَدُ الَّذِي لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ. وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الطَّائِفَةِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى عَدَدٍ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، كَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَعَلَى الْعَدَدِ الْمُنْتَهِي إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى؛ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ.
وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ وَمَا لَازَمَهُ، فَكَانَ هُوَ الْمُسَمَّى.
(1) مُخَالَفَةُ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوجِبَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، فِيمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ وَجُوبُهُ، كَمَا أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ فِيمَا عُلِمَ وُجُوبُهُ حَتَّى عِنْدَ الْآمِدِيِّ وَمَنْ عَلَى طَرِيقِهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ وُجُوبَ عَمَلِ الْمُكَلَّفِ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ قَطْعِيٌّ.
(2) فِي الْآيَةِ مَعْنَيَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ حَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ تَنْفِرَ مَنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِتَتَفَقَّهَ فِي دِينِهَا وَتُنْذِرَ مَنْ لَمْ يَنْفِرْ إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ، لِيَحْذَرُوا الْمَعَاصِيَ وَالتَّفْرِيطَ بِالْوَاجِبِ. وَثَانِيهُمَا: أَنَّ اللَّهَ حَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ تَنْفِرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِلْجِهَادِ وَنَحْوِهِ لِتَتَفَقَّهَ الَّتِي بَقِيَتْ، وَتُنْذِرَ الَّتِي خَرَجَتْ عِنْدَ عَوْدَتِهَا؛ لِتَحْذَرَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَالتَّفْرِيطَ فِيمَا وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ.
(3) الْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ بِمُخَوِّفٍ.
(4) لَعَلَّ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ.
الثَّانِي: أَنَّ الثَّلَاثَةَ فِرْقَةٌ، فَالطَّائِفَةُ الْخَارِجَةُ مِنْهَا إِمَّا وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ ” الطَّائِفَةِ ” الَّتِي وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ لِلتَّفَقُّهِ وَالْإِنْذَارِ الْعَدَدَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، أَوْ مَا دُونَهُ لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ وَأَهْلِ بَلْدَةٍ، إِذَا كَانَ مَا دُونَهُمْ لَا يَنْتَهُونَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، أَنْ يَخْرُجُوا بِأَجْمَعِهِمْ لِلتَّفَقُّهِ وَالْإِنْذَارِ، وَذَلِكَ لَا قَائِلَ بِهِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ، وَلَا فِي عَصْرِ مَنْ بَعْدَهُ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الثَّانِي.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِخْبَارَ الْعَدَدِ الَّذِي لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي غَيْرِهَا؛ ضَرُورَةَ أَنْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ.
وَصِيغَةُ قَوْلِهِ: (لِيُنْذِرُوا) لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لِلْأَمْرِ (1) .
وَإِنْ كَانَتْ لِلْأَمْرِ فَلَا نُسَلِّمُ لِلْوُجُوبِ عَلَى مَا يَأْتِي (2) .
سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلْوُجُوبِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِنْذَارَ هُوَ الْإِخْبَارُ، بَلْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّخْوِيفَ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ، بِنَاءً عَلَى الْعِلْمِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ. وَالتَّخْوِيفُ خَارِجٌ عَنِ الْإِخْبَارِ (3) .
(1) بَلْ يَجِبُ أَنْ تُنْذِرَ كُلُّ طَائِفَةٍ قَوْمَهَا إِلَّا إِذَا سَبَقَهَا غَيْرُهَا بِالْبَلَاغِ وَالتَّعْلِيمِ، بِدَلِيلِ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ التَّحْضِيضِ، وَمَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْبَلَاغِ وَصِيغَةُ ” لِيَتَفَقَّهُوا ” أَوْ ” لِيُنْذِرُوا “، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صِيغَةَ أَمْرٍ، لَكِنَّهَا لِتَعْلِيلِ التَّحْضِيضِ عَلَى نَفَرِ طَائِفَةٍ وَبَقَاءِ أُخْرَى، فَكَانَ كُلٌّ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْإِنْذَارِ بِهِ مَقْصُودًا بِالْإِيجَابِ أَوَّلًا، وَكَانَ نَفَرُ طَائِفَةٍ وَبَقَاءُ أُخْرَى مَقْصُودًا بِالْقَصْدِ الثَّانِي؛ أَيْ: قَصْدِ الْوَسَائِلِ.
(2) سَيَأْتِي لَهُ أَيْضًا فِي مَسَائِلِ الْأَوَامِرِ تَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَالتَّخْصِيصُ فِي الْآيَةِ احْتَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ تُعَيِّنُ الْوُجُوبَ، وَهِيَ أَدِلَّةُ وُجُوبِ الْبَلَاغِ.
(3) تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِنْذَارَ: إِخْبَارٌ بِمُخَوِّفٍ مِنْ فَوْتِ مَصْلَحَةٍ، أَوْ تَوَقُّعِ مَضَرَّةٍ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ مِنَ الشَّرْعِ، فَكَانَ التَّخْوِيفُ بِهَا إِخْبَارًا عَنِ الشَّرْعِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَلَكِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ (1) وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنِ الرَّسُولِ بِمَا سُمِعَ عَنْهُ وَمِنْهُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ إِيجَابِ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ إِيجَابُ الْحَذَرِ عَلَى مَنْ أَخْبَرَ (2) .
قَوْلُكُمْ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَعَلَّ) عَلَى طَلَبِ الْحَذِرِ لِكَوْنِهِ مُلَازِمًا لِلتَّرَجِّي.
قُلْنَا: الطَّلَبُ الْمُلَازِمُ لِلتَّرَجِّي الطَّلَبُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى مَيْلِ النَّفْسِ أَوْ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَذَرُ مَأْمُورًا بِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا (3) .
وَمَعَ تَطَرُّقِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِي خَارِجٍ عَنْ بَابِ الظُّنُونِ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُصُولِ، وَالْخَصْمُ مَانِعٌ لِصِحَّتِهِ (4) .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَّقَ وُجُوبَ التَّثَبُّتِ عَلَى خَبَرِ الْفَاسِقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ بِخِلَافِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْجَزْمِ بِرَدِّهِ أَوْ بِقَبُولِهِ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ الْأَوَّلُ، وَإِلَّا كَانَ خَبَرُ الْعَدْلِ أَنْزَلَ دَرَجَةً مِنْ خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَهُوَ مُحَالٌ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ سَاعِيًا إِلَى قَوْمٍ، فَعَادَ وَأَخْبَرَ
(1) الْإِنْذَارُ عَامٌّ لِحَذْفِ مَفْعُولِهِ، فَيَشْمَلُ الْإِنْذَارَ بِالنَّهْيِ وَبِالْفَتْوَى، فَحَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْفَتْوَى تَخْصِيصٌ لِلْعَامِّ بِلَا دَلِيلٍ.
(2) لَعَلَّ: التَّعْلِيلُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا وَجَبَ إِنْذَارُهُمْ لِيَحْذَرُوا كَانَ حَذَرُهُمْ وَاجِبًا بِالْأَوْلَى.
(3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا.
(4) تَقَدَّمَ رَدُّ الِاحْتِمَالَاتِ، فَتَمَّ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِخْبَارَ الْآحَادِ حُجَّةٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، فَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ قَوَاعِدَ الْأُصُولِ مِنْهَا قَطْعِيَّةٌ وَظَنِّيَّةٌ، وَهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهَا بِأَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ، بَلْ وَهْمِيَّةٍ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ تُفِيدُ بِمَجْمُوعِهَا الْقَطْعَ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا ظَنِّيَّةً كَمَا سَيَجِيءُ.
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِينَ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ قَدِ ارْتَدُّوا، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَأَجْمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَزْوِهِمْ وَقَتْلِهِمْ» .
وَذَلِكَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ: وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ أَرَادَ الْعَمَلَ فِيهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا أَرَادَهُ وَلَأَنْكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ أَيْضًا ضَعِيفَةٌ؛ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَسَنُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، (1) ، وَإِنْ كَانَ حُجَّةً، لَكِنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي بَابِ الْأُصُولِ (2) .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّبِيَّ أَجْمَعَ عَلَى قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ بِخَبَرِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ بِالتَّثَبُّتِ فِي أَمْرِهِمْ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا فَبَعَثَ عُيُونَهُ، فَعَادُوا إِلَيْهِ وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا، أَتَاهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَرَأَى مَا يُعْجِبُهُ مِنْهُمْ، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ» .
الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْأُصُولِ (3) .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَوَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُخْبِرَ بِخَبَرٍ لَنَا عَنِ الرَّسُولِ شَاهِدٌ عَلَى النَّاسِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ شَاهِدًا عَلَى النَّاسِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْآيَةُ خِطَابٌ مَعَ الْأُمَّةِ لَا مَعَ الْآحَادِ، فَلَا تَكُونُ حُجَّةً فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ.
وَوَجْهُ الْحُجَّةِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَعَّدَ عَلَى كِتْمَانِ الْهُدَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ إِظْهَارِ الْهُدَى، وَمَا يَسْمَعُهُ الْوَاحِدُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنَ الْهُدَى، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا قَبُولُهُ، لَكَانَ الْإِظْهَارُ كَعَدَمِهِ، فَلَا يَجِبُ.
(1) مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ خِلَافٌ إِلَّا أَنَّهُ فِي الْآيَةِ شَهِدَتْ لَهُ الْفِطْرَةُ وَالْعَمَلُ الْمُسْتَمِرُّ مِنْ عَهْدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَوْمِ، فَالْحَيَاةُ عَامَّةٌ قَائِمَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ خَبَرِ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ، حَتَّى عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ.
(2) تَقَدَّمَ مَا فِيهِمَا تَعْلِيقًا ص 36 – 47 – 50 ج 2.
(3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِمَا تَعْلِيقًا ص 36 – 47 – 50 ج 2.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْعَدَدَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا دُونَ ذَلِكَ (1) .
وَبِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ مَا دُونَ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الْكِتَابَ الْعَزِيزَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (2) وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ حَتَّى السُّنَّةِ، فَغَايَةُ التَّهْدِيدِ عَلَى كِتْمَانِ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ إِظْهَارِ مَا سُمِعَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ.
وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِهِ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ عَلَى لِسَانِ الْآحَادِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ يَجِبُ عَلَى الْفَاسِقِ إِظْهَارُ مَا سَمِعَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى سَامِعِهِ قَبُولُهُ (3) .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْإِظْهَارِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ، حَتَّى يَتَأَلَّفَ مِنْ خَبَرِ الْمَجْمُوعِ التَّوَاتُرُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ (4) .
وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا تَكُونُ حُجَّةً فِي الْأُصُولِ لِمَا سَبَقَ (5) .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَمْرٌ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ؛ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ.
وَسُؤَالُ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ
(1) يُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ حَمْلًا لِاسْمِ الْمَوْصُولِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْعُمُومِ.
(2) إِنْ دَخَلَتِ السُّنَّةُ فِي عُمُومِ الْمَنْزِلِ لَفْظًا فَبِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ إِذِ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ، فَيَشْمَلُ الْوَعِيدَ مَنْ كَتَمَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ.
(3) إِذَا حَرُمَ الْكِتْمَانُ وَجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ الْوَحْيُ قَبُولُهُ اعْتِقَادًا لِتَشْرِيعِهِ، وَعَمَلًا بِمُوجِبِهِ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ إِلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا تَخَلَّفَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ لِفَقْدِ شَرْطِ الْقَبُولِ، لَا لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِ وُجُوبِ الْبَلَاغِ لَهُ، وَعَلَى الْفَاسِقِ تَأْهِيلُ نَفْسِهِ بِالتَّوْبَةِ لِيَلْزَمَ قَبُولُ بَلَاغِهِ.
(4) الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْبَلَاغِ أَنْ يَكُونَ لِإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِتَقْوِيَةِ خَبَرٍ بِمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ، فَلَا يَرِدُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ.
(5) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا.
مُنْحَصِرٌ فِي طَلَبِ الْإِخْبَارِ بِمَا سَمِعَهُ دُونَ الْفَتْوَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْقَبُولُ وَاجِبًا، لَمَا كَانَ السُّؤَالُ وَاجِبًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: ” فَاسْأَلُوا ” صِيغَةُ أَمْرٍ (1) ، وَإِنْ كَانَتْ أَمْرًا، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لِلْوُجُوبِ، كَمَا يَأْتِي.
وَإِنْ كَانَتْ لِلْوُجُوبِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْفَتْوَى (2) .
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السُّؤَالَ عَنِ الْخَبَرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السُّؤَالِ الْعِلْمَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ (3) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ السُّؤَالَ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ.
فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَطْلُوبُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالسُّؤَالِ، لَكَانَ السُّؤَالُ وَاجِبًا بَعْدَ حُصُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ (4) ، لِعَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ غَيْرَ الظَّنِّ.
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرٍ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِهِ مَعَ وُجُوبِ السُّؤَالِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ إِنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْعِلْمِ مِنَ السُّؤَالِ، فَذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، لَا بِمَا دُونَهُ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ السُّؤَالَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاجِبًا، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُجَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ (5) .
(1) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ، وَسَيَأْتِي الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَبَاحِثِ الْأَمْرِ.
(2) الْمُرَادُ بِأَهْلِ الذِّكْرِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنُّصُوصِ وَبِفِقْهِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ النَّصُّ وَالْفَتْوَى عَمَلًا بِالْعُمُومِ؛ حَيْثُ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ.
(3) بَلِ الظَّاهِرُ الْعُمُومُ، فَيُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي الْآيَةِ مَا يَشْمَلُ الْإِدْرَاكَ الْجَازِمَ وَالرَّاجِحَ، فَيَكُونُ السُّؤَالُ لِتَحْصِيلِ أَحَدِهِمَا، إِمَّا بِمُتَوَاتِرٍ أَوْ آحَادٍ، وَعَلَيْهِ لَا يَكُونُ السُّؤَالُ وَاجِبًا بَعْدَ الْحُصُولِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، لِكِفَايَتِهِ فِي تَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ.
(4) كَأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ تَحْرِيفًا، وَلَعَلَّ الْأَصْلَ: فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَطْلُوبُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالسُّؤَالِ لَمَا كَانَ وَاجِبًا بَعْدَ حُصُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِنَصِّ الْآيَةِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ. . إِلَخْ.
(5) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ صَدْرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ مِنَ الْأُصُولِ، وَهُوَ الرِّسَالَةُ.
وَبِتَقْدِيرِ دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ، لَكِنَّهَا دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا فِي الْأُصُولِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ.
وَمَنْ أَخْبَرَ عَنِ الرَّسُولِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ، فَقَدْ قَامَ بِالْقِسْطِ وَشَهِدَ لِلَّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا إِنْ لَوْ كَانَ الْقَبُولُ وَاجِبًا، وَإِلَّا كَانَ وُجُودُ الشَّهَادَةِ كَعَدَمِهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا أُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ عَلَى مَا يَأْتِي، وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهَا عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ وَالْقِيَامَ بِالْقِسْطِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.
وَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فَلَا يَكُونُ قِيَامًا بِالْقِسْطِ وَلَا شَهَادَةً لِلَّهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ فِي وُجُوبِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ.
عَلَى أَنَّهُ قَامَ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ شَاهِدٌ لِلَّهِ، وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ وَشَهَادَتُهُ لِلَّهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ وَجَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ شَهِدَ لِلَّهِ وَقَامَ بِالْقِسْطِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ وَاجِبُ الْقَبُولِ؛ وَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ، وَبِتَقْدِيرِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ، وَلَكِنْ لِجِهَةِ الظَّنِّ فَلَا يَصِحُّ (1) .
وَمِنْهَا مَا اشْتُهِرَ وَاسْتَفَاضَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُنْفِذُ آحَادَ الصَّحَابَةِ إِلَى النَّوَاحِي وَالْقَبَائِلِ وَالْبِلَادِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَقَبْضِ الزَّكَوَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَعَ عِلْمِنَا بِتَكْلِيفِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِقَبُولِ قَوْلِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى مَا يَقُولُ مَعَ كَوْنِ الْمُنَفِّذِ مِنَ الْآحَادِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
(1) يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ تَعْلِيقًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا لَمْ تَفِدِ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ مُتَفَرِّدَةً، فَمَجْمُوعُهَا يُفِيدُ ذَلِكَ؛ إِذْ لِلِاجْتِمَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَفَادَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالِاسْتِقْرَاءِ الْيَقِينَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ سَلَّمْنَا تَنْفِيذَ الْآحَادِ بِطَرِيقِ الرِّسَالَةِ وَالْقَضَاءِ وَأَخْذِ الزَّكَوَاتِ وَالْفَتْوَى وَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ، فَلَا نُسَلِّمُ وُقُوعَ تَنْفِيذِ الْآحَادِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي هِيَ مَدَارِكُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِيَجْتَهِدُوا فِيهَا (1) وَذَلِكَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
سَلَّمْنَا صِحَّةَ التَّنْفِيذِ بِالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَعْرِيفِهِمْ إِيَّاهَا، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ حُجَّةً، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِفَائِدَةِ حُصُولِ الْعِلْمِ لِلْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ بِمَا تَوَاتَرَ بِضَمِّ خَبَرٍ غَيْرِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ إِلَيْهِ (2) .
وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ سُؤَالَانِ آخَرَانِ لَا وَجْهَ لَهُمَا:
الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَنَّهُ كَانَ يُنْفِذُ الْآحَادَ لِتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ، كَانَ يُنْفِذُهُمْ لِتَعْرِيفِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْرِيفِ الرِّسَالَةِ.
فَلَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِي الْإِخْبَارِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، لَكَانَ حُجَّةً فِي تَعْرِيفِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ (3) .
الثَّانِي: أَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ تَنْفِيذُ الْآحَادِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ كَانَتْ مَعْلُومَةً لِلْمَبْعُوثِ لَهُمْ قَبْلَ إِرْسَالِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ بِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَهَلْ إِرْسَالُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَصْلِكُمْ.
(1) يَكْفِي فِي رَدِّ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّهُ دَعْوَى يُكَذِّبُهَا الْوَاقِعُ، فَقَدْ أَرْسَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآحَادَ مِنْ أَصْحَابِهِ لِإِبْلَاغِ الْأَخْبَارِ؛ بَلْ لِتَحْفِيظِ الْقُرْآنِ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ بَعْثَ الْوُلَاةِ وَالدُّعَاةِ كَفَاهُ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ تِلْكَ الدَّعْوَى.
(2) يَرَدُّ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَتَوَقَّفُوا عَنِ الْعَمَلِ بِمَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ حَتَّى يَتَوَاتَرَ، وَلَمْ يُنْكِرِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ.
(3) يُجَابُ بِتَسْلِيمِ الْمُلَازَمَةِ، فَنَقُولُ بِصَلَاحِيَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِتَعْرِيفِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَإِثْبَاتِهِمَا، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ، بَلْ فِيهِ خِلَافٌ، وَالنُّصُوصُ تَشْهَدُ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِي إِثْبَاتِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعِهَا وَأَيْضًا كُلُّ مَا طُلِبَ الْعَمَلُ بِهِ مَسْبُوقٌ بِاعْتِقَادِ مَشْرُوعِيَّتِهِ
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ إِنْفَاذَ الْآحَادِ لِتَعْرِيفِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْقَبُولِ، لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ وَاجِبَ الْقَبُولِ مِنْ جِهَةِ مَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَيُعَرِّفُهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ الَّتِي تَشْهَدُ بِصِحَّتِهَا عُقُولُهُمْ (1) وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ، لَمَا احْتِيجَ إِلَى إِرْسَالِهِ لِتَعْرِيفِهِمْ لِمَا قَدْ عَرَفُوهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، كَيْفَ وَإِنَّ تَعْرِيفَ الْمَعْلُومِ بِالْخَبَرِ الْمَظْنُونِ مُحَالٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا عُلِمَ كَوْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِمَّا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ تَنْفِيذَ الْوَاحِدِ لَا يُعْرَفُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ بَلْ إِنَّمَا يُعْرَفُ الْمُخْبَرُ بِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا قَبْلَ خَبَرِهِ، فَكَانَ تَنْفِيذُهُ لِتَعْرِيفِ ذَلِكَ مُفِيدًا.
وَالْأَقْرَبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ التَّمَسُّكُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْوَقَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَدِّ وَالْحَصْرِ، الْمُتَّفِقَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ عَمِلَ بِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، «أَنَّ النَّبِيَّ أَطْعَمَهَا السُّدُسَ» ، فَجَعَلَ لَهَا السُّدُسَ.
وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» ” وَعَمِلَ أَيْضًا بِخَبَرِ حَمْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْجَنِينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي (يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ) فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيْتًا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ» ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كِدْنَا نَقْضِي فِيهِ بِرَأْيِنَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَوْرِيثَ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، فَأَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ» .
(1) هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا تَقَدَّمَ، فَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ بِالْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ، وَإِلَّا كَانُوا مُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، أَوْ بُلُوغِهِ لِمُجَرَّدِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى فِي الْأَصَابِعِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَيُفَاضِلُ بَيْنَهَا فَيَجْعَلُ فِي الْخِنْصَرِ سِتَّةً، وَفِي الْبِنْصِرِ تِسْعَةً، وَفِي الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ عَشَرَةً، وَفِي الْإِبْهَامِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خَبَرِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشَرَةٌ» .
وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِخَبَرِ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ فِي اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا، وَهُوَ أَنَّهَا قَالَتْ: «جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِي أَسْتَأْذِنُهُ فِي مَوْضِعِ الْعِدَّةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْكُثِي حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُكِ» .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ عَمَلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَوْلُهُ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ حَلَّفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ صَدَّقْتُهُ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الرِّبَا فِي النَّقْدِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَحْكُمُ بِالرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِخَبَرِ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ الْحَائِضَ تَنْفِرُ بِلَا وَدَاعٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخِ التَّمْرِ إِذْ أَتَانَا آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ» ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ.
وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ أَهْلُ قُبَاءٍ فِي التَّحَوُّلِ مِنَ الْقِبْلَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ نُسِخَتْ، فَالْتَفَتُوا إِلَى الْكَعْبَةِ بِخَبَرِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذِبَ عَدُوُّ اللَّهِ.
أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ثُمَّ ذَكَرَ مُوسَى وَالْخَضِرَ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ صَاحِبُ الْخَضِرِ، فَعَمِلَ بِخَبَرِ أُبَيٍّ حَتَّى كَذَّبَ الرَّجُلَ وَسَمَّاهُ عَدُوَّ اللَّهِ.
(1) أَثَرُ اسْتِحْلَافِ عَلِيٍّ لِمَنْ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصِحَّ. انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي تَرْجَمَةِ أُسَامَةَ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِيِّ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا «بَاعَ مُعَاوِيَةُ شَيْئًا مِنْ أَوَانِي ذَهَبٍ وَوَرَقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ» ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ مُعَاوِيَةَ، أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَأْيِهِ، لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَبَدًا.
وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مِنْ قَوْلِهِ: ” «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» “، وَمِنْ قَوْلِهِ: ” «الْأَنْبِيَاءُ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ» “، وَمِنْ قَوْلِهِ: ” «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» “.
وَعَمَلُهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ فِي الرُّجُوعِ عَنْ سُقُوطِ فَرْضِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: «فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْتَسَلْنَا» .
وَعَمِلَ جَمِيعُهُمْ بِخَبَرِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي الْمُخَابَرَةِ، وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَّةً لَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ» فَانْتَهَيْنَا (1) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا تُحْصَى عَدَدًا، وَكَانَ ذَلِكَ شَائِعًا ذَائِعًا فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَعَلَى هَذَا جَرَتَ سُنَّةُ التَّابِعِينَ، كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَطَاوُسٍ وَعَطَاءِ بْنِ مُجَاهِدٍ (2) وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَفُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمِصْرَيْنِ (يَعْنِي الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ) إِلَى حِينِ ظُهُورِ الْمُخَالِفِينَ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةَ أَخْبَارِ آحَادٍ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ.
(1) أَشَارَ الْآمِدِيُّ كَكَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ إِلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا السَّلَفُ، وَرَجَعُوا إِلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ نَصَّهَا خَشْيَةَ الطُّولِ، فَمَنْ أَرَادَ نُصُوصَهَا مَعَ أَسَانِيدِهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ الرِّسَالَةِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْكُتُبِ السِّتَّةِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ أَيْضًا صَحِيحُهَا مِنْ سَقِيمِهَا.
(2) طَاوُسٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ الْيَمَانِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُمَيْدِيُّ الْجُنْدِيُّ، وَقِيلَ اسْمُهُ ذَكْوَانُ، وَطَاوُسٌ لَقَبٌ، مَاتَ حَوَالَيْ 106 هـ، وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ الْقُرَشِيُّ، وَمُجَاهِدٌ هُوَ ابْنُ جَبْرٍ.
سَلَّمْنَا عَدَمَ الدَّوْرَ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِلُوا بِهَا، بَلْ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِنُصُوصٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ بِهَا مَعَ مَا اقْتُرِنَ بِهَا مِنَ الْمَقَايِيسِ، أَوْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهَا لَا غَيْرَ، لَكِنْ كُلُّ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضُهُمْ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ.
قَوْلُكُمْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَكِيرٌ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا رَدُّ أَبِي بَكْرٍ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى انْضَمَّ إِلَيْهِ خَبَرُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ.
وَمِنْهَا رَدُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خَبَرَ عُثْمَانَ فِي إِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ.
وَمِنْهَا رَدُّ عُمَرَ خَبَرَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ” «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ عَلَى صَاحِبِهِ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَنْصَرِفْ» ” حَتَّى رَوَى مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ.
وَمِنْهَا رَدُّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَبَرَ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي الْمُفَوَّضَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ خَبَرَ أَحَدٍ حَتَّى يُحَلِّفَهُ، سِوَى أَبِي بَكْرٍ.
وَمِنْهَا رَدُّ عَائِشَةَ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ.
سَلَّمْنَا عَدَمَ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ ظَاهِرًا، غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَ الْبَاقِينَ عَنِ الْإِنْكَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمَا سَبَقَ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِيمَا تَلَقَّوْهُ (1) بِالْقَبُولِ، وَعَمِلُوا بِمُوجِبِهِ، أَوْ مُطْلَقًا فِي كُلِّ خَبَرٍ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ قَطْعًا، نَفْيًا لِلْخَطَأِ عَنِ الْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.
وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ الِاسْتِدْلَالُ بِكُلِّ خَبَرٍ لَمْ يَقْبَلُوهُ.
(1) فِيمَا تَلَقَّوْهُ – كَانَ فِيهِ سَقْطٌ، وَلَعَلَّ الْأَصْلَ: لَكِنْ فِيمَا تَلَقَّوْهُ. . إِلَخْ.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً، لَكِنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ، فَمِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَبِالظَّنِّ، فَكَانَ مُمْتَنِعًا (1) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ حِينَ سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ( «أَقْصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ» ) حَتَّى أَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَنْ كَانَ فِي الصَّفِّ بِصِدْقِهِ، فَأَتَمَّ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِذَا ظُنَّ صِدْقُهُ فِي الْفُرُوعِ، لَجَازَ ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ وَالْأُصُولِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ (2) .
الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْعِبَادَاتِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ كَوْنِهِ مَظْنُونًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ خَبَرٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَبَرٌ آخَرُ مُقَابِلٌ لَهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ تَقْلِيدٌ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا آحَادًا، فَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ، كَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِسَخَاءِ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةِ عَنْتَرَةَ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَوْ عَمِلُوا بِغَيْرِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ، لَكَانَتِ الْعَادَةُ تُحِيلُ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى عَدَمِ نَقْلِهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مَوْضِعِ الْإِشْكَالِ وَظُهُورِ اسْتِنَادِهِمْ فِي الْعَمَلِ إِلَى مَا ظَهَرَ
(1) سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُمَا تَعْلِيقًا.
(2) سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُمَا تَعْلِيقًا.
مِنَ الْأَخْبَارِ.
كَيْفَ وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ عُمَرُ: (لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ( «حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَانْتَهَيْنَا» ) وَكَذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَى خَبَرِ عَائِشَةَ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَجِدُّهُمْ فِي طَلَبِ الْأَخْبَارِ وَالسُّؤَالُ عَنْهَا عِنْدَ وُقُوعِ الْوَقَائِعِ دَلِيلُ الْعَمَلِ بِهَا.
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ عَمَلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، بَلِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ مَعَ سُكُوتِ الْبَاقِينَ عَنِ النَّكِيرِ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ.
وَمَا رَوَوْهُ (1) مِنَ الْأَخْبَارِ أَوْ تَوَقَّفُوا فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لِأُمُورٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِ مُعَارِضٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، لَا لِعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي جِنْسِهَا، مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا.
وَلِهَذَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةٌ، وَإِنْ جَازَ تَرْكُهَا وَالتَّوَقُّفُ فِيهَا لِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْهَا.
وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِنَّمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ، أَنْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مُتَعَبِّدِينَ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ تَعَبُّدِهِمْ بِاتِّبَاعِ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا يَأْتِي.
وَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُهُمْ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا مَضْبُوطًا بِالْعَدَالَةِ، كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ حُجَّةً مَعْمُولًا بِهَا؛ ضَرُورَةً بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَذَلِكَ يَعُمُّ خَبَرَ كُلِّ عَدْلٍ.
وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِالْآيَاتِ فَجَوَابُهَا مَا سَبَقَ فِي بَيَانِ جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا.
وَعَنِ السُّنَّةِ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا تَوَقَّفَ فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ لِتَوَهُّمِهِ غَلَطَهُ لِبُعْدِ انْفِرَادِهِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ دُونَ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ.
وَمَعَ ظُهُورِ أَمَارَةِ الْوَهْمِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ (2) فَحَيْثُ وَافَقَهُ الْبَاقُونَ عَلَى ذَلِكَ، ارْتَفَعَ حُكْمُ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَهْمِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَعَمِلَ بِمُوجِبِ خَبَرِهِ.
كَيْفَ وَإِنَّ
(1) رَوَوْهُ – فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ رَدُّوهُ.
(2) قَدْ يُقَالُ أَيْضًا تَوَقَّفَ لِمُعَارَضَةِ مَا اعْتَقَدَهُ لِخَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ، فَلَمَّا تَرَجَّحَ قَوْلُهُ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَجَعَ إِلَى خَبَرِهِمْ عَمَلًا بِالرَّاجِحِ.
عَمَلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، مَعَ خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ عَمَلٌ بِخَبَرٍ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ مَوْضِعُ النِّزَاعِ، وَفِي تَسْلِيمِهِ تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ.
وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّهَا مُنْتَقِضَةٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْفَتْوَى وَالشَّهَادَةِ.
كَيْفَ وَالْفَرْقُ حَاصِلٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرَطَ فِي إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ وَالْأُصُولِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ، فَلَمْ يَكُنِ الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ مُعْتَبَرًا فِيهَا، بِخِلَافِ الْفُرُوعِ (1) .
وَعَنِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا بَعْدَ الْوُجُودِ وَالتَّكْلِيفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. بَلِ الشُّغْلُ مُحْتَمِلٌ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا سَبَبُ الشُّغْلِ، فَمُخَالَفَةُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ رَفْعَ مَقْطُوعٍ بِمَظْنُونٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالشَّهَادَةِ وَالْفَتْوَى.
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ تَجْوِيزَ وُجُودِ خَبَرٍ مُعَارِضٍ لِلْخَبَرِ الَّذِي ظَهَرَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِلَّا لَمَا سَاغَ التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَّا وَيَجُوزُ وُرُودُ نَاسِخٍ لَهُ أَوْ مُخَصَّصٍ لَهُ، بَلْ وَلَمَا جَازَ التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ مُسْتَنْبَطٍ مُعَارِضٍ لَهُ (2) ، وَلَمَا سَاغَ أَيْضًا لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَا لِلْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِفَتْوَى الْمُجْتَهِدِ لَهُ، لِجَوَازِ وُجُودِ مَا يُعَارِضُهُ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ مَعَ الرَّاوِي، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَسْتَوِيَا فِي مَعْرِفَةِ مَا اسْتَبَدَّ بِمَعْرِفَتِهِ الرَّاوِي مِنَ الْخَبَرِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ فِيمَا رَوَاهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاحْتِجَاجُ بِمَسْلَكِ الْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَسَالِكِ الظُّنُونِ وَإِنْ كَانَ التَّمَسُّكُ بِهِ أَقْرَبَ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْمَسَالِكِ.
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص. ج.
(2) بِدَلِيلٍ مُسْتَنْبَطٍ مُعَارِضٍ لَهُ – فِيهِ سَقْطٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بِدَلِيلٍ مُسْتَنْبَطٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ.
وَعَلَى هَذَا فَمَنِ اعْتَقَدَ كَوْنَ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً، فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ لِعَدَمِ مُسَاعَدَةِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَنِ اعْتَقَدَ كَوْنَهَا ظَنِّيَّةً فَلْيَتَمَسَّكْ بِمَا شَاءَ مِنَ الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ) (1) .