كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ إِذَا وَرَدَ خِطَابُ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ لَا يَعُمُّ الْأُمَّةَ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ
إِذَا وَرَدَ خِطَابُ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ – قُمِ اللَّيْلَ} ، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ – قُمْ فَأَنْذِرْ} ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} ، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} لَا يَعُمُّ الْأُمَّةَ ذَلِكَ الْخِطَابُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِمَا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ يَكُونُ خِطَابًا لِلْأُمَّةِ إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى الْفَرْقِ.
وَدَلِيلُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْخِطَابَ الْوَارِدَ نَحْوَ الْوَاحِدِ مَوْضُوعٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ، فَلَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِهِ بِوَضْعِهِ (1) .
وَلِهَذَا فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ بَعْضَ عَبِيدِهِ بِخِطَابٍ يَخُصُّهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا لِلْبَاقِينَ.
وَكَذَلِكَ فِي النَّهْيِ وَالْإِخْبَارِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ مَصْلَحَةً لَهُ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي أَمْرِ الطَّبِيبِ لِبَعْضِ النَّاسِ بِشُرْبِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا لِغَيْرِهِ لِاحْتِمَالِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَمْزِجَةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ الْأَمْرِ.
وَلِهَذَا خُصَّ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِأَحْكَامٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ، وَمَعَ امْتِنَاعِ اتِّحَادِ الْخِطَابِ (2) وَجَوَازِ الِاخْتِلَافِ فِي الْحِكْمَةِ وَالْمَقْصُودِ يَمْتَنِعُ التَّشْرِيكُ فِي الْحُكْمِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَالِاشْتِرَاكُ فِي الْحُكْمِ يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى نَفْسِ الْقِيَاسِ لَا إِلَى نَفْسِ الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِمَحَلِّ التَّنْصِيصِ أَوْ دَلِيلٍ آخَرَ.
(1) قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْخِطَابَ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ بِوَضْعِهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَيْرَ الْمُخَاطَبِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَنَاوَلُهُ عُرْفًا أَوْ لِقَرَائِنَ أُخْرَى، كَكَوْنِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رَسُولًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالْخِطَابِ لِذَاتِهِ، بَلْ لِيَعْمَلَ وَلِيُبَلِّغَ الْأُمَّةَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهَا عَنْ طَرِيقِهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وَنَحْوُهُ مِنَ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذًا فَالْأَصْلُ الْعُمُومُ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حَالُ أُمَّتِهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذُكِرَ بَعْدُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ لِتَفَاوُتِ أَحْوَالِ النَّاسِ
(2) وَمَعَ امْتِنَاعِ اتِّحَادِ الْخِطَابِ – فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: وَمَعَ اتِّحَادِ الْخِطَابِ
فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِالْوَاحِدِ لَا يَكُونُ خِطَابًا لِغَيْرِهِ مُطْلَقًا، بَلِ الْمُدَّعَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْمٍ، وَقَدْ عُقِدَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ وَالْإِمَارَةُ عَلَيْهِمْ وَجُعِلَ لَهُ مَنْصِبُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ: ارْكَبْ لِمُنَاجَزَةِ الْعَدُوِّ وَشَنِّ الْغَارَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى بِلَادِهِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُعِدُّونَ ذَلِكَ أَمْرًا لِأَتْبَاعِهِ وَأَصْحَابِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ الْبَلَدَ الْفُلَانِيَّ وَكَسَرَ الْعَدُوَّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ أَتْبَاعِهِ أَيْضًا، وَالنَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِمَّنْ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ قُدْوَةً لِلْأُمَّةِ وَمُتَّبَعًا لَهُمْ، فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا لِأُمَّتِهِ إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى الْفَرْقِ (1) .
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، وَلَمْ يَقُلْ إِذَا طَلَّقْتَ النِّسَاءَ فَطَلِّقْهُنَّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِطَابَهُ لِأُمَّتِهِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} أَخْبَرَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَبَاحَهُ ذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُبَاحًا لِلْأُمَّةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ خَاصَّةً بِهِ لَمَا انْتَفَى الْحَرَجُ عَنِ الْأُمَّةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ الْخِطَابُ بِتَخْصِيصِهِ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – بِأَحْكَامٍ دُونَ أُمَّتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} إِلَى قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْخِطَابُ الْمُطْلَقُ لَهُ خِطَابًا لِأُمَّتِهِ، بَلْ خَاصًّا بِهِ لَمَا احْتِيجَ إِلَى بَيَانِ التَّخْصِيصِ بِهِ هَاهُنَا.
وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنِ احْتِمَالِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ فَغَيْرُ قَادِحٍ مَعَ ظُهُورِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْخِطَابِ كَمَا تَقَرَّرَ.
وَلِهَذَا جَازَ تَكْلِيفُ الْكُلِّ مَعَ هَذَا لِظُهُورِ الْخِطَابِ، وَجَازَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ عِنْدَ ظَنِّ الِاشْتِرَاكِ فِي الدَّاعِي مَعَ احْتِمَالِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ.
(1) حَالُ الرَّسُولِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَعَ أُمَّتِهِ أَمْكَنَ فِي إِرَادَةِ أُمَّتِهِ مَعَهُ بِخِطَابِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْ حَالِ الْمُقَدَّمِ فِي قَوْمِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنِ اقْتِضَاءِ صِفَةِ الرِّسَالَةِ ذَلِكَ، وَلِأَمْرِهِ تَعَالَى الْأُمَّةَ بِالِاتِّسَاءِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) الْآيَتَيْنِ، فَالرَّسُولُ أَوْلَى بِتَبَعِيَّةِ أُمَّتِهِ لَهُ وَقَصْدِهِمْ بِخِطَابِهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ تَبَعِيَّةِ الْقَوْمِ لِمُقَدَّمِهِمْ
وَالْجَوَابُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَمْرَ الْمُقَدَّمِ يَكُونُ أَمْرًا لِأَتْبَاعِهِ لُغَةً، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أُمِرَ الْمُقَدَّمُ وَلَمْ يَأْمُرِ الْأَتْبَاعَ، وَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرِ الْأَتْبَاعَ لَمْ يَحْنَثْ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ لِلْمُقَدَّمِ أَمْرًا لِأَتْبَاعِهِ لَحَنَثَ، نَعَمْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يُفْهَمُ عِنْدَ أَمْرِ الْمُقَدَّمِ بِالرُّكُوبِ وَشَنِّ الْغَارَةِ لُزُومُ تَوَقُّفِ مَقْصُودِ الْأَمْرِ عَلَى اتِّبَاعِ أَصْحَابِهِ لَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِلْزَامِ لَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مُطَابَقَةً وَلَا ضِمْنًا، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِشَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوْ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ أَوْ إِبَاحَتِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مُشَارَكَةِ الْأُمَّةِ لَهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ، فَخِطَابٌ عَامٌّ مَعَ الْكُلِّ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ فِيهِ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَّةِ، وَتَخْصِيصُ النَّبِيِّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بِالنِّدَاءِ جَرَى مَجْرَى التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ لَهُ (1) .
كَيْفَ وَإِنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِطَابَ النَّبِيِّ لَا يَكُونُ خِطَابًا لِلْأُمَّةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا احْتِيجَ إِلَى قَوْلِهِ: {طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا طَلَّقْتَ النِّسَاءَ فَطَلِّقْهُنَّ كَافٍ فِي خِطَابِ الْأُمَّةِ مَعَ اتِّسَاقِهِ مَعَ أَوَّلِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى الْمَقْصُودِ.
وَقَوْلُهُ: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ مَدْلُولٌ لِقَوْلِهِ زَوَّجْنَاكَهَا، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَانَ لِمَقْصُودِ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِقِيَاسِهِمْ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ دَفْعِ الْحَاجَةِ وَحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ، وَعُمُومُ الْخِطَابِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِذَلِكَ (2) .
(1) سَبَقَ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَّهُمْ خِطَابُهُ بِأَصْلِ وَضْعِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُ يَعُمُّهُمْ عُرْفًا أَوْ لِقَرِينَةٍ أُخْرَى إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا، وَالْقَصْدُ إِثْبَاتُ أَنَّ الْأَصْلَ الْعُمُومُ فِي خِطَابِهِ التَّشْرِيعِيِّ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ خِطَابِهِ بِعُنْوَانِ النُّبُوَّةِ أَوِ الرِّسَالَةِ أَوْ بِطَرِيقِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الِاتِّسَاءِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ
(2) لَا حَاجَةَ إِلَى الْقِيَاسِ مَعَ مَا يُشْعِرُ بِهِ وَصْفُ الرِّسَالَةِ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى عُمُومِ الْخِطَابِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي التَّشْرِيعِ، وَمَعَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَعُمُومُ خِطَابِهِ لِأُمَّتِهِ مُتَعَيَّنٌ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ قِيَاسٍ
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى خُصُوصِيَّةِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِمَا ذَكَرُوهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْخِطَابِ لَهُ عَامٌّ لِأُمَّتِهِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِقَطْعِ إِلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَلَوْ لَمْ يَرِدِ التَّخْصِيصُ لَأَمْكَنَ الْإِلْحَاقُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ (1) .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ
اخْتَلَفُوا فِي خِطَابِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ هَلْ هُوَ لِلْبَاقِينَ أَمْ لَا؟ فَنَفَاهُ أَصْحَابُنَا وَأَثْبَتَهُ الْحَنَابِلَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ.
وَدَلِيلُنَا مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (2) .
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْنَى.
أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، وَقَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” «بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» ” وَقَوْلُهُ: ” «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» “.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى رُجُوعِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ إِلَى مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – عَلَى آحَادِ الْأُمَّةِ.
فَمِنْ ذَلِكَ رُجُوعُهُمْ فِي حَدِّ الزِّنَى إِلَى مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى (مَاعِزٍ) ، وَرُجُوعُهُمْ فِي الْمُفَوَّضَةِ إِلَى قِصَّةِ (بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشَقٍ) ، وَرُجُوعُهُمْ فِي ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى الْمَجُوسِ إِلَى ضَرْبِهِ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – الْجِزْيَةَ عَلَى مَجُوسِ هَجَرَ.
وَلَوْلَا أَنَّ حُكْمَهُ عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَصَّصَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِأَحْكَامٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِأَبِي بُرْدَةَ فِي التَّضْحِيَةِ بِعَنَاقٍ: ” «تُجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ» “، وَقَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرَةَ لَمَّا دَخَلَ الصَّفَّ رَاكِعًا: ” «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» ” وَقَوْلُهُ لِأَعْرَابِيٍّ زَوَّجَهُ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ: ” «هَذَا لَكَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ» “.
(1) تَقَدَّمَ أَنَّ أَدِلَّةَ إِرَادَةِ الْعُمُومِ لِأُمَّتِهِ تَبَعًا لَهُ بِخِطَابِهِ – تَعَالَى – إِيَّاهُ تُغْنِي عَنِ الْقِيَاسِ
(2) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا
وَتَخْصِيصُهُ لِخُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَتَخْصِيصُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ.
وَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمٌ عَلَى الْأُمَّةِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى التَّنْصِيصِ بِالتَّخْصِيصِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ وَعَنْ قَوْلِهِ: ” «بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَإِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» ” أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً فَبِمَعْنَى أَنَّهُ يُعَرِّفُ كُلَّ وَاحِدٍ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ كَأَحْكَامِ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وَالْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاكُ الْكُلِّ فِيمَا أَثْبَتَ لِلْبَعْضِ مِنْهُمْ (1) .
وَعَنْ قَوْلِهِ: ” «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ” أَنَّهُ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَالْقِيَاسِ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ (2) لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْخِطَابُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ لَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ خِطَابًا لِلْبَاقِينَ (3) .
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِعَيْنِهِ خِطَابًا لِلْبَاقِينَ لَزِمَ مِنْهُ التَّخْصِيصُ بِإِخْرَاجِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِذَلِكَ الْوَاحِدِ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ.
(1) النُّصُوصُ تَعُمُّ تَعْرِيفَهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كُلَّ فَرْدٍ بِعَيْنِهِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ خُزَيْمَةَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَقِصَّةِ أَبِي بُرْدَةَ فِي إِجْزَاءِ الْعَنَاقِ عَنْهُ فِي الْأُضْحِيَةِ، وَتَعْرِيفُهُ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْأُمَّةِ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ كَأَحْكَامِ الْمَرْضَى وَالْأَصِحَّاءِ إِلَى أَمْثَالِ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ، فَيَعُمُّ حُكْمُهُ فِي النَّوْعِ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادٍ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَتَعْرِيفُهُ مَا يَعُمُّ الْأُمَّةَ كُلَّهَا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ خُصُوصِ الْفَرْدِ أَوِ النَّوْعِ وَجَبَ حَمْلُ تَعْرِيفِهِ عَلَى الْعُمُومِ لِأَدِلَّةِ عُمُومِ الرِّسَالَةِ وَالتَّشْرِيعِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ وَغَيْرِهَا
(2) تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْقِيَاسِ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عُمُومُ التَّشْرِيعِ حَتَّى يَثْبُتَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِفَرْدٍ أَوْ نَوْعٍ مِنَ الْأُمَّةِ
(3) أَقُولُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خِطَابُ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ خِطَابًا لِلْبَاقِينَ فِي أَصْلِ وَضْعِ اللُّغَةِ، لَكِنْ أُرِيدَ شُمُولُهُ الْبَاقِينَ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ كَثُرَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الْخَاصِّ وَإِرَادَةُ الْعَامِّ، وَبِذَلِكَ يُلْتَزَمُ جَوَازُ التَّخْصِيصِ بِإِخْرَاجِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِذَلِكَ الْوَاحِدِ فِي مُوجِبِ الْحُكْمِ، انْظُرِ الرِّسَالَةَ لِلشَّافِعِيِّ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خِطَابُهُ الْمُطْلَقُ لِلْوَاحِدِ خِطَابًا لِلْجَمَاعَةِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى قَوْلِهِ: ” «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ” أَوْ كَانَتْ فَائِدَتُهُ التَّأْكِيدَ، وَالْأَصْلُ فِي الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ التَّأْسِيسُ.
ثُمَّ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمًا عَلَى الْجَمَاعَةِ فَلَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهُ فِي حُكْمِهِ لِلْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِلْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِهِ لِلْوَاحِدِ وَحُكْمِهِ عَلَيْهِ وَالْخِلَافُ وَاقِعٌ فِي الْكُلِّ (1) .
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ رُجُوعِ الصَّحَابَةِ فِي أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ إِلَى حُكْمِهِ عَلَى الْآحَادِ فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: بِذَلِكَ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِالتَّسَاوِي فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ، أَوْ لَا مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ، الثَّانِي خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمُسْتَنَدُ التَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ إِنَّمَا كَانَ الِاشْتِرَاكَ فِي السَّبَبِ لَا فِي الْخِطَابِ (2) .
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.