كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إِذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ خَبَرًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمِلًا أَوْ ظَاهِرًا أَوْ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
إِذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ خَبَرًا، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمِلًا أَوْ ظَاهِرًا أَوْ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ.
فَإِنْ كَانَ مُجْمِلًا مُشْتَرِكًا بَيْنَ مَحَامِلَ عَلَى السَّوِيَّةِ، كَلَفْظِ الْقُرُوءِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ حَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَى بَعْضِ مَحَامِلِهِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ ظَاهِرُ الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَحَامِلِهِ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ، فَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ.
وَإِنْ قُلْنَا: بِامْتِنَاعِ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ مَحَامِلِهِ فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ حَمْلِ الْخَبَرِ عَلَى مَا حَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ، لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ وَتَعْرِيفِ الْأَحْكَامِ، وَيُخَلِّيهِ عَنْ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ تُعَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ.
وَالصَّحَابِيُّ الرَّاوِي الْمُشَاهِدُ لِلْحَالِ أَعْرَفُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ تَعْيِينَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ حَتَّى يَنْظُرَ، فَإِنِ انْقَدَحَ لَهُ وَجْهٌ يُوجِبُ تَعْيِينَ غَيْرِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَإِلَّا فَتَعْيِينُ الرَّاوِي صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي مَعْنًى، وَحَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَى غَيْرِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ دُونَ تَأْوِيلِ الرَّاوِي: وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ كَيْفَ أَتْرُكُ الْخَبَرَ لِأَقْوَالِ أَقْوَامٍ، لَوْ عَاصَرْتُهُمْ لَحَاجَجْتُهُمْ بِالْحَدِيثِ؟ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ، سِوَى عِلْمِهِ بِقَصْدِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِذَلِكَ التَّأْوِيلِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ جُوزَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ إِلَيْهِ لِدَلِيلٍ ظَهَرَ لَهُ، مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ وَجَبَ النَّظَرُ إِلَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ عُلِمَ مَأْخَذُهُ فِي الْمُخَالَفَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ حَمْلَ الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّاوِي، وَجَبَ اتِّبَاعُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَمِلَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَمَلُ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ.
وَإِنَّ جُهِلَ مَأْخَذُهُ فَالْوَاجِبُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَدْلٌ، وَقَدْ جَزَمَ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ، وَمُخَالَفَةِ الرَّاوِي لَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِنِسْيَانٍ طَرَأَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِدَلِيلٍ اجْتَهَدَ فِيهِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ، أَوْ هُوَ مِمَّا يَقُولُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، كَمَا عُرِفَ مِنْ مُخَالَفَةِ مَالِكٍ، لِخَبَرِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِمَا رَآهُ مِنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا لَا مِرَاءَ فِيهِ، مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ لَهُ.
وَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَالظَّاهِرُ لَا يُتْرُكُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَبِمُخَالَفَتِهِ لِلْخَبَرِ، لَا يَكُونُ فَاسِقًا، حَتَّى يَمْتَنِعَ الْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْخَصْمِ إِنَّهُ إِنْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِالرَّاوِي وَجَبَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُسِيئَ بِهِ الظَّنُّ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَبَرُ نَصًّا فِي دَلَالَتِهِ، غَيْرَ مُحْتَمِلٍ لِلتَّأْوِيلِ وَالْمُخَالَفَةِ، فَلَا وَجْهَ لِمُخَالَفَةِ الرَّاوِي لَهُ سِوَى احْتِمَالِ اطِّلَاعِهِ عَلَى نَاسِخٍ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا فِي نَظَرِهِ، وَلَا يَكُونُ نَاسِخًا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَمَا ظَهَرَ فِي نَظَرِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، فَلَا يُتْرَكُ النَّصُّ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ.
[الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ عَمِلَ بِخِلَافِهِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ بِخِلَافِهِ، فَلَا يُرَدُّ لَهُ الْخَبَرُ إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِهِ، أَوْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِهِ، لَكِنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ خَوَاصِّهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَوَاصِّهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ الْخَبَرِ إِنْ تَعَذَّرَ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَإِنْ عَمِلَ بِخِلَافِهِ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ فَهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، فَلَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِجْمَاعًا.
وَإِنْ خَالَفَ بَاقِي الْحُفَّاظِ لِلرَّاوِي فِيمَا نَقَلَهُ، فَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ نَظَرًا إِلَى أَنَّ تَطَرُّقَ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى الْوَاحِدِ، غَيْرَ أَنَّ تَطَرُّقَ السَّهْوِ إِلَى مَا لَمْ يُسْمَعْ أَنَّهُ سُمِعَ أَبْعَدُ مِنْ تَطَرُّقِ السَّهْوِ إِلَى مَا سُمِعَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ (1) .
(1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ لِلْآمِدِيِّ فِي تَفَرُّدِ الثِّقَةِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِرِوَايَةٍ زِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ ص
[الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُوجِبُ الْحَدَّ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
اتَّفَقَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَفِي كُلِّ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، خِلَافًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَالْكَرْخِيِّ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» ” (1) وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالظَّنِّ، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهِ بِالشَّهَادَةِ، وَبِظَاهِرِ الْكِتَابِ، فَجَازَ إِثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الظَّنِّيَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ (2) فَكَانَ الظَّنُّ كَافِيًا فِيهَا.
وَسُقُوطُهُ بِالشُّبْهَةِ لَوْ كَانَ لَكَانَ مَانِعًا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ، وَعَلَى مَنْ يَدَّعِيهِ بَيَانُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: خَبَرُ الْوَاحِدِ مِمَّا يَدْخُلُهُ احْتِمَالُ الْكَذِبِ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ) فَهُوَ بَاطِلٌ بِإِثْبَاتِهِ بِالشَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِلْكَذِبِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِهَا.
(1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص. . . الْجُزْءُ الثَّانِي، وَارْجِعْ إِلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ مِنِ اسْتِنْكَارِ الْمُزَنِيِّ حَدِيثَ ” إِنَّمَا نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ ” ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَثَرِ عُمَرَ ” إِنَّمَا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ ” وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ
(2) اعْتَرَفَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ، وَاخْتَارَ الْوَقْفَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ هَذَا دَعْوَاهُ مِرَارًا أَنَّ مَسَائِلَ الْأُصُولِ قَطْعِيَّةٌ، انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 71 – 80 ج 2
[الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ]
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
خَبَرُ الْوَاحِدِ، إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، فَإِمَّا أَنْ يَتَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُثْبِتًا لِمَا نَفَاهُ الْآخَرُ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُخَصَّصًا لِلْآخَرِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْكَرْخِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْخَبَرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ، وَقَالَ عِيسَى (1) بْنُ أَبَانَ: إِنْ كَانَ الرَّاوِي ضَابِطًا عَالِمًا غَيْرَ مُتَسَاهِلٍ فِيمَا يَرْوِيهِ، قُدِّمَ خَبَرُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ.
وَفَصَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، فَقَالَ: عِلَّةُ الْقِيَاسِ الْجَامِعَةُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً، فَالنَّصُّ عَلَيْهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ، أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ: فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْعِلَّةِ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ كَالنَّصِّ عَلَى حُكْمِهَا، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَظْنُونٌ، فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً.
وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ مَقْطُوعًا بِهِ، وَلَا حُكْمُهَا فِي الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ لِاسْتِوَاءِ النَّصَّيْنِ فِي الظَّنِّ، أَوِ اخْتِصَاصِ خَبَرَ الْوَاحِدِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِصَرِيْحِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بِخِلَافِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى الْعِلَّةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا ثَابِتًا قَطْعًا، فَذَلِكَ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً فَحُكْمُ الْأَصْلِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ أَوْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، فَالْأَخْذُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ قَطْعًا، قَالَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَوْضِعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمُخْتَارُهُ أَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِالْوَقْفِ.
وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَتْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ قَطْعِيًّا، أَوْ ظَنِّيًّا: فَإِنْ كَانَ مَتْنُهُ قَطْعِيًّا فَعِلَّةُ الْقِيَاسِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً، وَقُلْنَا إِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عِلَّةِ الْقِيَاسِ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الْقِيَاسِ فَالنَّصُّ
(1) هُوَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ بْنِ صَدَقَةَ الْكُوفِيُّ الْحَنَفِيُّ الْقَاضِي مَاتَ سَنَةَ 221
الدَّالُّ عَلَيْهَا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا فِي الدَّلَالَةِ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوْ رَاجِحًا عَلَيْهِ، أَوْ مَرْجُوحًا.
فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْلَى لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَدَلَالَةِ نَصِّ الْعِلَّةِ عَلَى حُكْمِهَا بِوَاسِطَةٍ.
وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْلَى مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِنْ كَانَ رَاجِحًا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَوُجُودُ الْعِلَّةِ فِي الْفَزَعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَظْنُونًا: فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا، فَالْمَصِيرُ إِلَى الْقِيَاسِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا فِيهِ مَظْنُونًا، فَالظَّاهِرُ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلَّةِ رَاحِجًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا بِوَاسِطَةٍ، فَاعْتَدَلَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً، فَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، وَدَلِيلُهُ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حَيْثُ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا: ( «بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلَا آلُو» .
أَخَّرَ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ عَنِ السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .
وَإِمَّا الْإِجْمَاعُ، فَهُوَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تَرَكَ الْقِيَاسَ فِي الْجَنِينِ لِخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَالَ: ” لَوْلَا هَذَا، لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا “.
وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ، فِي تَفْرِيقِ دِيَةِ الْأَصَابِعِ عَلَى قَدْرِ مَنَافِعِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي رَوَى فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، وَتَرَكَ اجْتِهَادَهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَرَكَ اجْتِهَادَهُ فِي مَنْعِ مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَالَ: ” أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا ” وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَصَارَ إِجْمَاعًا.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ، فَهُوَ أَنْ خَبَرَ الْوَاحِدِ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ، فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْخَبَرِ وَاحْتِمَالَ الْخَطَأِ فِيهِ أَقَلُّ مِنَ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَخْرُجُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ عَنْ عَدَالَةِ الرَّاوِي، وَعَنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ، وَعَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً مَعْمُولًا بِهَا، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ حُكْمُ أَصْلِهِ ثَابِتًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مِمَّا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ أَوْ لَا.
وَبِتَقْدِيرِ إِمْكَانِ تَعْلِيلِهِ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي إِظْهَارِ وَصْفٍ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، وَبِتَقْدِيرِ ظُهُورِ وَصْفٍ صَالِحٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي نَفْيِ الْمُعَارِضِ لَهُ فِي الْأَصْلِ.
وَبِتَقْدِيرِ سَلَامَتِهِ عَنْ ذَلِكَ يَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ، وَبِتَقْدِيرِ وَجُودِهِ فِيهِ، يَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي نَفْيِ الْمُعَارِضِ فِي الْفَرْعِ مِنْ وُجُودِ مَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، وَبِتَقْدِيرِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ، يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً.
فَهَذِهِ سَبْعَةُ أُمُورٍ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا. وَمَا يَفْتَقِرُ فِي دَلَالَتِهِ إِلَى بَيَانِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ لَا غَيْرَ، فَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِيهِ يَكُونُ أَقَلَّ احْتِمَالًا مِنِ احْتِمَالِ الْخَطَأِ فِيمَا يَفْتَقِرُ فِي بَيَانِهِ إِلَى سَبْعَةِ أُمُورٍ. فَكَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْلَى.
وَرُبَّمَا قِيلَ فِي تَرْجِيحِ خَبَرِ الْوَاحِدِ هُنَا وُجُوهٌ أُخَرُ وَاهِيَةٌ آثَرْنَا الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِهَا، لِظُهُورِ فَسَادِهَا بِأَوَّلِ نَظَرٍ.
فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ خَبَرِ مُعَاذٍ، فَقَدْ خَالَفْتُمُوهُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ مَقْطُوعًا بِعِلِّيَّتِهَا وَبِوُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: ” إِذَا «اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا» ” لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ رَدَّ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّوَضِّي مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ بِالْقِيَاسِ، وَقَالَ: أَلَسْنَا نَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْحَمِيمِ، فَكَيْفَ نَتَوَضَّأُ بِمَا عَنْهُ نَتَوَضَّأُ؟ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ، فَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا يَتَطَرَّقُ إِلَى الْخَبَرِ مِنِ احْتِمَالِ كَذِبِ الرَّاوِي، وَأَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُخْطِئًا.
وَاحْتِمَالُ الْإِجْمَالِ فِي دَلَالَةِ الْخَبَرِ وَالتَّجَوُّزِ، وَالْإِضْمَارِ وَالنَّسْخِ، وَكُلِّ ذَلِكَ، غَيْرُ مُتَطَرِّقٍ إِلَى الْقِيَاسِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَجُوزُ بِهِ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكَانَ تَرْكُ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الظَّنَّ بِالْقِيَاسِ يَحْصُلُ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَالظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَثِقَةُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ أَتَمُّ مِنْ ثِقَتِهِ بِغَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ، بِتَقْدِيرِ إِكْذَابِ الْمُخْبِرِ لِنَفْسِهِ، يُخْرِجُ الْخَبَرَ عَنْ كَوْنِهِ شَرْعِيًّا، وَلَا كَذَلِكَ الْقِيَاسُ.
وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُمْ إِنَّكُمْ خَالَفْتُمْ خَبَرَ مُعَاذٍ، قُلْنَا: غَايَتُهُ أَنَّا خَصَّصْنَاهُ فِي صُورَةٍ لِمَعْنًى لَمْ يُوجَدْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَبَقِينَا عَامِلِينَ بِعُمُومِهِ فِيمَا عَدَا تِلْكَ الصُّورَةِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رَدَّ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْقِيَاسِ فِيمَا ذَكَرُوهُ، لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا رَدُّهُ لِخَبَرِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ، فَإِنَّمَا يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، أَنْ لَوْ كَانَ قَدْ رَدَّهُ لِمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِجَوَازِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
أَمَّا أَوَّلًا، فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ، فَهُوَ إِنَّمَا رَدَّهُ لَا لِلْقِيَاسِ، بَلْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَاذَا تَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ.
وَالْمِهْرَاسُ كَانَ حَجَرًا عَظِيمًا يُصَبُّ فِيهِ الْمَاءُ لِأَجْلِ الْوُضُوءِ، فَاسْتَبْعَدَ الْأَخْذَ بِالْخَبَرِ لِاسْتِبْعَادِهِ صَبَّ الْمَاءَ مِنَ الْمِهْرَاسِ عَلَى الْيَدِ.
وَقَدْ وَافَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا تَخَيَّلَهُ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ عَائِشَةَ، حَيْثُ قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ لَقَدْ كَانَ رَجُلًا مِهْذَارًا، فَمَاذَا يُصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ؟ (1) .
وَأَمَّا تَرْكُهُ لِخَبَرِ التَّوَضِّي مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، فَلَمْ يَكُنْ بِالْقِيَاسِ، بَلْ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ مَصْلِيَّةٍ، وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقِيَاسَ بَعْدَ مُعَارَضَتِهِ بِالْخَبَرِ.
(1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا فِي ص 75 ج2
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَرْجِيحَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فَمُنْدَفِعَةٌ.
أَمَّا تَطَرُّقُ احْتِمَالِ الْكَذِبِ وَالْفِسْقِ وَالْخَطَأِ إِلَى الرَّاوِي، وَإِنْ كَانَ مُنْقَدِحًا، فَمِثْلُهُ مُتَطَرِّقٌ إِلَى دَلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ، إِذَا كَانَ ثَابِتًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ النِّزَاعِ.
وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ تَطَرُّقَ ذَلِكَ إِلَى مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَإِسْلَامُهُ أَبْعَدُ مِنْ تَطْرُّقِ الْخَطَأِ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اجْتِهَادِهِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ احْتِمَالَاتِ الْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ، لِكَوْنِهِ مُعَاقَبًا عَلَى الْكَذِبِ وَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، بِخِلَافِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعَاقَبٍ عَلَيْهِ، بَلْ مُثَابٍ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَطَرُّقِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ وَالنَّسْخِ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجِبُ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ الظَّاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُتَطَرَّقٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْقِيَاسَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ، قُلْنَا وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ، فَلَا تَرْجِيحَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَطِّلٍ لِلْكِتَابِ، أَنْ يَكُونَ مُعَطِّلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْكُلِّيَّةِ، إِذِ الْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا تَعَارَضَا وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَقَوْلُهُمْ إِنَّ الظَّنَّ مِنَ الْقِيَاسِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، قُلْنَا: إِلَّا أَنَّ تَطَرُّقَ الْخَطَأِ إِلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَقَوْلُهُمْ إِنَّ الْخَبَرَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ شَرْعِيًّا بِإِكْذَابِ الْمُخْبِرِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
قُلْنَا: وَبِتَقْدِيرِ الْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قِيَاسِيًّا شَرْعِيًّا فَاسْتَوَيَا، كَيْفَ وَإِنَّ التَّرْجِيحَ لِلْخَبَرِ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهَا أَوَّلًا، وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى كَلَامِ الْمَعْصُومِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُفْتَقِرٌ إِلَى جِنْسِ النَّصِّ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى شَرَفِ الْقِيَاسِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يَصِيرُ قَطْعِيًّا بِمَا يَعْتَضِدُ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُتَوَاتِرًا، وَلَا كَذَلِكَ الْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى الْقَطْعِ بِمَا يَعْتَضِدُ بِهِ مِنْ جِنْسِ الْأَقْيِسَةِ أَصْلًا، فَكَانَ أَوْلَى.
هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا تَعَارَضَا وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعَمُّ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ هُوَ الْأَعَمَّ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُخَصَّصًا لَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ أَعَمَّ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعِلَّةَ لَا تَبْطُلُ بِتَقْدِيرِ تَخْصِيصِهَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَبِالْقِيَاسِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْعِلَّةَ تَبْطُلُ بِتَقْدِيرِ تَخْصِيصِهَا، فَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ.