تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى خَبَرَ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى خَبَرَ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ

  • بواسطة

كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي

أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)


[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى خَبَرَ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ]

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ خِلَافًا لِلسُّمَنِيَّةِ (1) وَالْبَرَاهِمَةُ (2) فِي قَوْلِهِمْ: لَا عِلْمَ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ إِلَّا بِالْحَوَاسِّ دُونَ الْأَخْبَارِ وَغَيْرِهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا يَجِدُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِنْ نَفْسِهِ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، وَالْمُلُوكِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْفُضَلَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَالْوَقَائِعِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، بِمَا يَرِدُ عَلَيْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ حَسَبَ وِجْدَانِنَا كَالْعِلْمِ بِالْمَحْسُوسَاتِ عِنْدَ إِدْرَاكِنَا لَهَا بِالْحَوَاسِّ. وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَتْ مُكَالَمَتُهُ، وَظَهَرَ جُنُونُهُ أَوْ مُجَاحَدَتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَرْعُ تَصَوُّرِ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَمْزِجَةِ وَالْآرَاءِ وَالْأَغْرَاضِ وَقَصْدِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ أَهْلِ بَلَدٍ مِنَ الْبِلَادِ عَلَى حُبِّ طَعَامٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، وَحُبِّ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا تَصَوُّرَ اتِّفَاقِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ، بِتَقْدِيرِ انْفِرَادِهِ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الصِّدْقُ.
فَلَوِ امْتَنَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ لَانْقَلَبَ الْجَائِزُ مُمْتَنِعًا، وَهُوَ مُحَالٌ وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَالْجُمْلَةُ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْآحَادِ، كَانَ خَبَرُ الْجُمْلَةِ جَائِزَ الْكَذِبِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، لَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ وَاقِعًا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْآحَادِ يَكُونُ ثَابِتًا لِلْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْقَوْلَ بِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَمْرٌ مُمْتَنِعٌ فَيَمْتَنِعُ، وَبَيَانُهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تُخْبِرَ جَمَاعَةٌ بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، لَجَازَ عَلَى مِثْلِهِمُ الْخَبَرُ بِنَقِيضِ خَبَرِهِمْ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ زَيْدًا كَانَ فِي وَقْتِ كَذَا مَيِّتًا، وَنَقَلَ الْآخَرُونَ حَيَاتَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْخَبَرَيْنِ، لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِمَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَلَا أَوْلَوِيَّةَ مَعَ فَرْضِ تَسَاوِي الْمُخْبِرِينَ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ.


(1) السُّمَنِيَّةُ كَعُرَنِيَّةٍ قَوْمٌ بِالْهِنْدِ دَهْرِيُّونَ قَائِلُونَ بِالتَّنَاسُخِ – الْقَامُوسَ الْمُحِيطَ.
(2) الْبَرَاهِمَةُ – انْظُرْ لِلتَّعْلِيقِ ص 80 ج 1.

الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ بِمَا يَنْقُلُهُ الْيَهُودُ عَنْ مُوسَى، وَالنَّصَارَى عَنْ عِيسَى، مِنَ الْأُمُورِ الْمُكَذِّبَةِ لِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا، الَّتِي دَلَّتِ الْمُعْجِزَةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى صِدْقِهِ فِيهَا وَوُجُوبِ عِلْمِنَا بِهَا، وَاجْتِمَاعُ عِلْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ مُحَالٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، لَمَا خَالَفَ فِي نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا أَحَدٌ، لِأَنَّ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ لَا يُخَالَفُ؛ وَحَيْثُ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ (1)
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلًا بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، لَمَا وَقَعَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ عِلْمِنَا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ أَهْلُ التَّوَاتُرِ مِنْ وُجُودِ بَعْضِ الْمُلُوكِ، وَعِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، وَأَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فِي آنٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ لَا تَخْتَلِفُ، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ الِاخْتِلَافِ فِي سُكُونِ النَّفْسِ إِلَيْهِمَا.
الْخَامِسُ: هُوَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ أَهْلُ التَّوَاتُرِ لَا يَزِيدُ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ بِأَنَّ مَا شَاهَدْنَاهُ بِالْأَمْسِ مِنْ وُجُودِ الْأَفْلَاكِ الدَّائِرَةِ، وَالْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ، وَالْجِبَالِ الشَّامِخَةِ، أَنَّهُ الَّذِي نُشَاهِدُهُ الْيَوْمَ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْدَمَ ذَلِكَ، وَمَا نُشَاهِدُهُ الْآنَ قَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مِثَالِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا يَقِينِيًّا فَمَا لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي الْجَزْمِ وَالِاعْتِقَادِ أَيْضًا لَا يَكُونُ يَقِينِيًّا.
السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلًا مِنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ لَمَا خَالَفْنَاكُمْ فِيهِ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ لَا يُخَالَفُ: وَالْجَوَابُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ.
أَمَّا الْإِجْمَالُ: فَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ تَشْكِيكٌ عَلَى مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَأَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ، فَجَوَابُهُ بِمَا سَبَقَ فِي بَيَانِ تَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنَّ مَا كَانَ لِآحَادِ الْجُمْلَةِ وَجَائِزًا عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا لِلْجُمْلَةِ وَجَائِزًا عَلَيْهَا. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ إِلَّا وَهُوَ مُتَنَاهٍ، وَجُمْلَةُ مَعْلُومَاتِهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْجُمْلَةِ


(1) يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْمُلَازِمَةَ؛ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُخَالِفَ بَعْضُ النَّاسِ مَا عُلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا، مُكَابَرَةً وَعِنَادًا. سَلَّمْنَا الْمُلَازَمَةَ غَيْرَ أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، لَا عَدَمَ الْعِلْمِ مُطْلَقًا، فَكَانَ الدَّلِيلُ أَخَصَّ مِنَ الدَّعْوَى.

فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَالْجُمْلَةُ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنَ الْجُمْلَةِ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ لَبِنَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ دَاخِلَةٍ فِي مُسَمَّى الدَّارِ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ دَارًا، وَالْمُجْتَمِعُ مِنَ الْكُلِّ دَارٌ، وَكَذَلِكَ الْعَشَرَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَخَمْسَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخَمْسَتَيْنِ لَيْسَتْ عَشَرَةً، وَالْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ وَنَحْوُهُ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي السُّؤَالِ الثَّالِثِ مِنَ الْإِلْزَامِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ فَرْضٌ مُحَالٌ، فَإِنَّهُ مَهْمَا أَخْبَرَ جَمْعٌ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِالْمُخْبَرِ، فَيَمْتَنِعُ إِخْبَارُ مِثْلِهِمْ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّانِي، فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ قُلْنَا إِنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ مِنْ خَبَرِ كُلِّ جَمَاعَةٍ؛ وَإِنَّ خَبَرَ كُلِّ جَمَاعَةٍ تَوَاتُرٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا دَعْوَانَا أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ خَبَرِ الْجَمَاعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ كُلِّ جَمَاعَةٍ مُحَصِّلًا لِلْعِلْمِ.
وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّالِثُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، وَالنُّبُوَّةُ حُكْمٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ (1) كَيْفَ وَإِنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ تَوَاتُرٍ يَجِبُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ لِتَفَاوُتِ


(1) الْأُمُورُ الَّتِي تَصِلُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا نُقِلَ تَوَاتُرًا مِنْ أَخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَدَعَوْتُهُ النَّاسَ لِاتِّبَاعِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَمِنْهَا مَا نُقِلَ تَوَاتُرًا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهَا دَلَالَةُ مَا شُوهِدَ أَوْ نُقِلَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَالْأَخْبَارُ فِيهِمَا مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ مُحَسَّاتٍ وَمُشَاهَدَاتٍ، وَهِيَ أَقْوَى نَقْلًا وَآكَدُ إِثْبَاتًا لِصُدُورِ مَا تَضَمَّنَتْهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَسَبَتْهُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَالْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْوُجَهَاءِ فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ، وَمِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ شَجَاعَةِ عَلِيٍّ وَكَرَمِ حَاتِمٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الِاسْتِفَاضَةِ وَالتَّوَاتُرِ، فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ إِمَّا مَجْنُونٌ أَوْ مُكَابِرٌ لَا تَصِحُّ مُنَاظَرَتُهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَيَكْفِي بَعْضُ مَا نُقِلَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ فِي إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ يَقِينًا، وَلَوْ بِطْرِيقِ النَّظَرِ، وَإِلَّا مَا قَامَتْ بِذَلِكَ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَلَا سَقَطَتْ بِهِ مَعَاذِيرُهُ وَلَا اسْتُبِيحَتْ بِهِ دِمَاءُ الْمُخَالِفِينَ وَأَمْوَالُهُمْ، وَلَا كَانَ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ. وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، بَلِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَمَنْ أَنْكَرَ رِسَالَتَهُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ أَوِ الْبَلَاغِ الصَّحِيحِ فَهُوَ أَيْضًا، إِمَّا مَجْنُونٌ أَوْ مُكَابِرٌ حَسُودٌ أَوْ مُقَلِّدٌ مَخْدُوعٌ غَلَبَهُ عَلَى أَمْرِهِ مَنْ هُمْ فِي نَظَرِهِ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ. وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ مَا فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنْ جَوَابِ الْآمِدِيِّ عَنِ الْإِلْزَامِ الثَّالِثِ.
النَّاسِ فِي السَّمَاعِ وَقُوَّةِ الْفَهْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْقَرَائِنِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْأَخْبَارِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ، فَمُخَالَفَةُ مَنْ يُخَالِفُ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِيمَا نَدَّعِيهِ مِنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ.
وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوِ ادَّعَيْنَا أَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مِنَ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا نَدَّعِي الْعِلْمَ الْعَادِيَّ.
وَعَلَى هَذَا، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ عِلْمًا بِتَقَاصُرِهِ عَنِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَلَا بِمُسَاوَاتِهِ لِمَا قِيلَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَادِيَّةِ.
وَأَمَّا الْإِلْزَامُ السَّادِسُ: فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْمُجَاحَدَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْعَادَةِ فِي خَلْقٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْخَطَأِ.
ثُمَّ لَوْ كَانَ الْخِلَافُ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا؛ لَكَانَ خِلَافُ السُّوفِسْطَائِيَّةِ (1) فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَحْسُوسَاتِ مِمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ السُّمَنِيَّةِ، وَمَا هُوَ اعْتِذَارُهُمْ فِي خِلَافِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ فِي الْعِلْمِ بِالْمُحَسَّاتِ يَكُونُ عُذْرًا لَنَا فِي خِلَافِهِمْ لَنَا فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *