كتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي
أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ
إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاسْتَقَرَّ خِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ نَكِيرٌ، فَهَلْ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ إِجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَمْ لَا؟
ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى امْتِنَاعِهِ.
وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِهِ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَاسْتَقَرَّ خِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فَقَدِ انْعَقَدَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ.
فَلَوْ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمَصِيرُ إِلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ – مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مُجْمِعَةٌ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ (1) – فَفِيهِ تَخْطِئَةُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي جَوَازِ الْأَخْذِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَالْمَنْعِ مِنَ الْأَخْذِ بِهِ مَعًا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ خَطَأً أَوْ يَلْزَمُهُ تَخْطِئَةُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ الْقَاطِعَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ إِجْمَاعَ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ يُفْضِي إِلَى أَمْرٍ مُمْتَنِعٍ، فَكَانَ مُمْتَنِعًا.
لَكِنْ لَيْسَ هَذَا الِامْتِنَاعُ عَقْلِيًّا بَلْ سَمْعِيًّا.
(1) جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ ” فَفِيهِ ” إِلَى آخِرِهِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَأَفْضَى إِلَى أَمْرٍ مُمْتَنِعٍ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْطِئَةُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ إِنِ اعْتَبَرْنَا أَحَدَهُمَا، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِدَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، فِي إِجْمَاعِهَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْإِجْمَاعَيْنِ وَأَوْجَبْنَا الْعَمَلَ بِهِمَا، وَهُوَ مُحَالٌ بِالضَّرُورَةِ، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ مَا فِي الْعِبَارَةِ مِنَ الِاضْطِرَابِ. وَبَعْدَ هَذَا فَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْوِيغِ الْعَمَلِ بِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اسْتِنَادًا إِلَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ، لِكَوْنِهِ صَوَابًا فِي نَظَرِهِ، وَلَوْ كَانَ خَطَأً فِي نَظَرِ مُخَالِفِيهِ، أَوْ فِي الْوَاقِعِ حَتَّى لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَرَأَى رَأْيَ مُخَالِفِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِالْآخِرِ مِنْ قَوْلَيْهِ دُونَ الْأَوَّلِ.
فَإِنْ قِيلَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ (1) لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَطَأً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ” «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» “، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِالْخَطَأِ خَطَأٌ (2) ، وَإِنْ سَلَّمْنَا إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ وَالْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْهَرَ إِجْمَاعٌ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْعَادِمِ لِلْمَاءِ هُوَ التَّيَمُّمُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْمَاءِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ زَالَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ وَلَكِنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
فَإِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ مُوَافِقٌ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ (3) مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِهِمْ، وَمَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا سَمْعًا.
سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَبَيَانِهِ بِالْوُقُوعِ وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى دَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَنْ يَكُونُ إِمَامًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَاتَّفَقَ التَّابِعُونَ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ الْخِلَافِ مُمْتَنِعًا لَمَا كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَطَأً بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ مُصِيبٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ (4) .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْخَبَرِ فَسَيَأْتِي تَأْوِيلُهُ كَيْفَ وَإِنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْإِصَابَةِ نَظَرًا إِلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَوَابًا
(1) لَوْ قَالَ: اخْتِلَافُ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ إِلَخْ. لَكَانَ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُخَطِّئُ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهَا، وَلَكَانَ مُنَاسِبًا لِمَا ذُكِرَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يُنَاقَضْ مَعَ بَقِيَّةِ الْفِقْرَةِ الْأُولَى مِنَ الِاعْتِرَاضِ.
(2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 257.
(3) إِلَّا أَنَّهُ فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ لَا أَنَّهُ.
(4) سَيَأْتِي أَيْضًا بَيَانُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ الْمُخَطِّئَةِ، وَالرَّدُّ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُصَوِّبَةِ لِلْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَإِلَّا كَانَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِالْخَطَأِ (1) ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ مِثْلَ هَذَا الِاشْتِرَاطِ فِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ أَطْلَقُوا وَلَمْ يَشْتَرِطُوا؛ لَسَاغَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ إِجْمَاعٍ، وَلَسَاغَ أَنْ تَتَّفِقَ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُهُمْ مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا يَظْهَرَ إِجْمَاعٌ مُخَالِفٌ لَهُ بَلْ وَلَجَازَ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ بَعْدِهِمُ الْمُخَالَفَةُ، لِمَا قِيلَ مِنَ الشَّرْطِ وَهُوَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الشَّرْطِ فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ (2) ، وَبِهِ إِبْطَالُ مَا صَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ مِنْ جَوَازِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ.
وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مُحَالًا لِنَفْسِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ لِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنِ امْتِنَاعِ الْأَخْذِ الْآخَرِ (3) .
وَعَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الدَّفْنِ وَالْإِمَامَةِ وَقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاسْتِمْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْجَزْمِ بِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْخِلَافُ عَلَى طَرِيقِ الْمَشُورَةِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي حَالَةِ الْبَحْثِ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ غَيْرَ أَنَّهُ اتِّفَاقٌ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ، وَمَنْ شَرَطَ فِي الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضَ عَصْرِ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ رُجُوعِهِمْ أَوْ رُجُوعِ بَعْضِهِمْ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ مَعَهُ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمُجْمِعِينَ عَلَى خِلَافِهِمْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الْأَوَّلِينَ، غَيْرَ أَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُخْتَارُ (4) .
(1) أَجْمَعُوا عَلَى تَجْوِيزِ أَخْذِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِاجْتِهَادِهِ لِكَوْنِهِ صَوَابًا فِي نَظَرِهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فِي نَظَرِ مُخَالِفِيهِ، بَلْ فِي الْوَاقِعِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا هُوَ خَطَأٌ فِي الْوَاقِعِ، بَلْ بِمَا هُوَ خَطَأٌ فِي نَظَرِ بَعْضِهِمْ صَوَابٌ فِي نَظَرِ مُخَالِفِيهِمْ.
(2) لَا نُسَلِّمُ الْمُلَازَمَةَ لِوُجُودِ الْفَارِقِ، فَإِنَّ إِجْمَاعَ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ مَثَلًا لَزِمَ مِنْهُ تَخْطِئَةُ بَعْضِ الْأُمَّةِ، وَبَعْضُهُا غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْطِئَةُ كُلِّ الْأُمَّةِ أَوْ جَوَازُ تَخْطِئَتِهَا، وَهِيَ مَعْصُومَةٌ، فَلَا يَصْلُحُ مَا ذَكَرَ إِلَّا لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ جَوَّزَ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ إِجْمَاعٍ سَابِقٍ.
(3) إِنَّمَا جَازَ لَهُمُ الْعَمَلُ بِهِ لِكَوْنِهِ صَوَابًا فِي نَظَرِهِمْ فَلَمَّا تَبَيَّنَ خَطَؤُهُمْ بِمَا جَدَّ مِنَ الْإِجْمَاعِ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِهِ.
(4) لِأَنَّهُ اخْتَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ 16 أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ عَلَى تَفْصِيلٍ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَإِنْ كَانَ خِلَافُ الصَّحَابَةِ قَدِ اسْتَقَرَّ وَاسْتَمَرَّ إِلَى انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ فَلَا نُسَلِّمُ إِجْمَاعَ التَّابِعِينَ قَاطِبَةً عَلَى امْتِنَاعِ بَيْعِهِنَّ.
فَإِنَّ مَذْهَبَ عَلِيٍّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِنَّ لَمْ يَزَلْ بَلْ جَمِيعُ الشِّيعَةِ وَكُلُّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى مَذْهَبِهِ قَائِلٌ بِهِ وَإِلَى الْآنَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.